سَتر
وجه المرأة من دِين الله ، وليس من العادات الدخيلة |
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على النبي الأمين ، نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فقد اطلعت على ما كتبه (...)تحت عنوان ( هل وجه المرأة عورة ؟ ) وذلك في مجلة (
...)العدد ( 1050 ) 20ـ26 /12/1420هـ .
ومن يقرأ مقالة المذكور يلحظ أن لديه اطلاعاً بجانب من قواعد الفقه وأصوله مما قد
يخيل إليه أن الكاتب أتى بمستند صحيح فيما أراد إثارته حول مسألة الحجاب ، ولأجل
هذا فقد تعين توضيح ما تنطوي عليه كتابته من المؤاخذات ، فأقول مستعيناً بالله :
حقيقة الأمر أن المذكور قد لوى أعناق النصوص وتعسف في تطبيق القواعد الشرعية بما لا
يسلَّم له ، وأورد حجج من يميل هو إلى رأيهم وأغفل حجج القول الآخر ، ثم إن من تأمل
كلامه عن علمٍ وبصيرة وجده ينقض بعضه بعضاً ، فإن الأساس الذي بنى عليه ما يدعو
إليه هو ما سماه " إيقاع العصر ! ونظم الدولة الحديثة ! وظروف الحياة المستجدة ! "
فيا سبحان الله ! ألِمِثل هذه الأمور يكون الرد عند التنازع ، وكيف ضلَّ الكاتب
المذكور عن قول الله تعالى ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً ) [ سورة النساء ، الآية : 59 ]
.
ولقد عجبت عجباً عظيماً من وصفه البشع لحياة المرأة في بلاد الجزيرة إذ قال : " ولن
تحافظ المرأة على حقوقها ولن تنال نصيبها من الحياة الكريمة وهي تعيش حياة أشبه
بالموت والعدم " !! سبحانك هذا بهتانٌ مبين ، كيف يستجيز الكاتب لنفسه أن يطلق هذا
الوصف على النساء المسلمات اللاتي تميزن اليوم بين سائر نساء الدنيا ، بأن حُفظن من
لوثات التغريب ودعوات السفور ، بما وفق الله إليه ولاتها ترسم آثار الشرع المطهر
الذي حملهم على صون رعيتهم من التردي في وهاد الرذيلة ومسالكها ، حتى حسدها على ذلك
من النساء غير المسلمات العدد الكبير ، ولو لم يكن في مقاله إلا هذا الإسقاط العظيم
لكان كافياً في شناعته .
ثم إن الكاتب قد سلك طريقاً مغالطاً في تطبيق القواعد الأصولية والفقهية لإثبات ما
يراه . ونحن نشير إلى شيء مما يستدرك على الكاتب المذكور في هذا الباب حتى لا يغتر
بقوله أحدٌ ممن لا يحيط بأصول ذلك العلم ، مع الإيجاز والاختصار لوضوح المسألة :
أولاً : أن الصحيح الثابت من قول المحققين أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره عن
الرجال الأجانب ضمن الحجاب الشرعي الذي أمر الله بها النساء المؤمنات ، ومن أدلة
ذلك قول الله تعالى : ( و لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِهنَّ على جُيُوبِهِنَّ ولا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ .. ) الخ الآية 30 من سورة النور . قال المفسر الحافظ أبو
الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي ـ رحمه الله ـ: "والخُمُر : جمع خِمار ، وهو : ما
يُخَمَّر به ، أي يُغطى به الرأس ، وهي التي يسميها الناس المقانع "ا.هـ.
قلت : وهي التي يسميها الناس في بلادنا الغُطوة أو ( الشَّيلة ) .
وروى البخاري ـ رحمه الله ـ في "صحيحه" عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ
قالت : " يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل ، لَمَّا أنزل الله ( وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ) شَقَقْنَ مُروطهن فاختمرن بها ".
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في "فتح الباري" ( 8/490 ) : " قوله : فاختمرن
بها، أي : غطين وجوههن "ا.هـ.
وقال الله ـ جلَّ وعلا ـ ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنين
عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرَفْنَ فلا يُؤذَيْن وكان الله غفوراً رحيماً ) [
الآية 59 من سورة الأحزاب ] .
وقد نقل الحافظ ابن كثير عند تفسيرها عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : "
أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن
بالجلابيب ، ويبدين عيناً واحدةً " ، وروي عن أم سلمة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها
ـ أنها قالت لما نزلت هذه الآية ( يُدْنِين عليهن من جلابيبهن ) : خرج نساء الأنصار
كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها .
وفي "المسند" و"سنن " أبي داود وابن ماجه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : " كان
الرُّكبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا حاذَونا
سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه " .
قال سماحة شيخنا الإمام العلامة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ : " في هذا دليل
على وجوب ستر الوجه ؛ لأن المشروع في الإحرام كشفه ، فلولا وجود مانع قوي من كشفه
حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفاً". ( مجموع فتاوى سماحته 4/255 ) .
وفي قصة الإفك قول عائشة : " .. فأتاني ـ تعني صفوان بن المعطل السُّلمي ـ فعرفني
حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمَّرت وجهي
بجلبابي ... " . وهو مخرَّجٌ في "الصحيحين" وغيرهما .
وقال العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى عام 852 هـ ـ رحمه الله ـ في "فتح
الباري" 9/324: " ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب
"ا.هـ .
ومما هو كالإجماع بين العلماء أن ستر الوجه واجب عند وجود الفتن وفساد الزمان ، حتى
عند من لا يرون وجه المرأة عورة .
والأدلة والنقول في هذا كثيرة مستفيضة .
والمقصود أن الحجاب الشرعي الذي كان عليه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ـ ورضي
الله عنهن ـ والذي كان عليه أيضاً بنات النبي ونساء المؤمنين حجابٌ ضافٍ ساتر لسائر
الجسد بما في ذلك الوجه ، فإنه محل زينة المرأة وعنوان جمالها والفتنة به أكبر
وأعظم .
وبهذا يتضح لك تَجنِّي الكاتب على نساء الصحابة حين قال : إنهن كُنَّ سافرات الوجوه
في عصر الرسالة!.
ومع اعتقادنا بأن ستر وجه المرأة هو صريح الأدلة الشرعية فإن من العلماء في أرجاء
العالم الإسلامي من ذهب للقول بعدم وجوب ستر المرأة لوجهها وكفَّيها ، وتبعهم على
ذلك الناس وأخذوا بفتواهم في عدد من البلاد ، وهم بذلك قد اجتهدوا فأخطأوا ، ولكننا
لا نجرؤ على تضليلهم أو رميهم بالابتداع ـ معاذ الله ـ ولكن حينما يأتي شخص لبلاد
التزم أهلها بفتوى إيجاب ستر الوجه ويدعوهم إلى السفور وتغيير ما هم عليه من التستر
والحشمة فذلك هو موضع النقد والإنكار .
ثانياً : أن الكاتب المذكور أورد أقوالاً يستدل بها على أن العلماء أجازوا النظر
إلى وجه المرأة عند الحاجة، وأراد من وراء ذلك أن يقرر أن الحاجة اليوم تستدعي كشف
المرأة لوجهها للتصوير واستخراج البطاقة التي تتضمن صورتها .
وهذا الذي ذكره الكاتب لا يسلَّم له ، فإن من لازِم كلام العلماء الذي نقله أن وجه
المرأة عورة ، وهذا هو قول المحققين من أهل العلم ، كما تقدم تقريره .
وحينئذ فما ادعاه من وجود الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة لا تتحقق بمجرد دعواه ،
وذلك أنه قاس قياساً فاسداً حين ذكر أن الحاجة التي رخص من أجلها من ذكرهم من أهل
العلم في النظر إلى وجه المرأة قد وجد ما يماثلها اليوم وأكثر مما يستدعي منحها
بطاقة تتضمن صورتها ، فإن ذلك القياس فاسد لعدم تحقق شروطه .
فالفرق واضحٌ بين حاجة تستدعي نظر رجلٍ واحدٍ متحقق العدالة إلى المرأة في مجلس
القضاء ونحوه ، وبين صورة تتداولها الأيدي ويطلع عليها الفئام من الناس ممن قد تثبت
عدالتهم وقد لا تثبت ، وممن يجزم الكاتب المذكور نفسه انتفاء العدالة عنهم .
وقل مثل ذلك في الأقيسة التي أوردها فإنها تفتقد في تطبيقها إلى شروط صحة القياس ،
وخاصة في العلة الجامعة بين الأصل والفرع .
ثالثاً : مما أورده الكاتب لتعليل ما يدعو إليه من سفور المرأة القاعدة الفقهية (
الضرورات تبيح المحظورات) وقد فاته أن يقرن هذه القاعدة بقاعدة لصيقة بها وهي أن(
الضرورة تُقَدَّرُ بقدْرها ) فما باله يدعو إلى إجراء يشمل به كل امرأة مضطرةً كانت
أو غير مضطرة ، ثم إن الضرورة التي يذكرها من جهة حاجة المرأة في إثبات حقوقها
والتحقق من شخصيتها لا يكون ببطاقة تتضمن صورتها التي يطلع عليها الفئام من الرجال
، فإن تلك البطاقة ليست حرزاً يحفظها ويمنع ظلمها ، بل إنه وفي دول كثيرة تجري
عمليات التزوير والتحريف مع وجود البطاقات للرجال والنساء ، ولأجل ذلك فقد وجدوا أن
البديل الآمن والأبعد عن التزوير هو ما كان عن طريق البصمة الوراثية وما في حكمها ،
حيث أمكن تطويع الحاسب الآلي للتحقق من شخصية الإنسان خلال ثوان مع أقصى درجات
الأمان ، وهذا معلوم لدى المتخصصين .
ومما يلاحظ على الكاتب أنه وقد بنى معظم ما يدعو إليه على هذه القاعدة فإنه جاء في
نهاية مقالته ليلغيها ويزيل ضوابطها حيث قال : " فالضرورة والحاجة ليس لهما ضابط
محدد نظراً لتغير مدلولهما وتطور مفهومهما " .
ولكنا نقول : إن هذه النتيجة إنما يؤول إليها من حكَّم عقله واحتكم إلى ما يسميه
الكاتب " إيقاع العصر " أما العلماء المحققون الذين يترسمون الأثر والسنة فهذه
القاعدة منضبطة لديهم ويدركون مدلولها ومفهومها ، سواء أكان ذلك في الضرورات أو
الحاجيات .
رابعاً : مما يلاحظ على الكاتب أنه عاب على العلماء الذين أجازوا التصوير للرجل
وحرَّموه في حق المرأة، وقال : " إنهم شددوا ما يسَّره الله وضيقوا واسعاً " ،
ولعلمه بأن أهل العلم الذين أباحوا التصوير للرجل عللوا ذلك بالحاجة أو الضرورة فقد
طالبهم بأن يطردوا ذلك أيضاً في حق المرأة ! واعتبر أن المصلحة في تصويرها أرجح من
مفسدة عدم تصويرها !! لكنَّ هذا النظر الذي بنى عليه الكاتب رأيه فيه نظر واضح
لافتقاده الموضوعية والواقعية ، فإن مفسدة تصوير المرأة مفسدة متحققة قطعاً ، يعلم
ذلك من كان له أدنى قدرٍ من بصيرة مستنيرة وفطرة مستقيمة ، فإن النساء اللاتي يحتجن
للمثول في المحاكم قلة قليلة ، ثم إن من احتاجت لذلك لم يكن تصويرها في يومٍ من
الدهر حافظاً لحقها حتى في البلاد التي تدعي المساواة بين الرجل والمرأة وتتشدق
بحريتها المزعومة .
خامساً : حاول الكاتب أن يبرر دعوته لسفور النساء وتعميم التصوير لهن في المعاملات
الإدارية بأن هذا عرفٌ دولي ، وقال : إن الإسلام يعتد بالأعراف الدولية ويعترف بها
، والكاتب يعلم كما يعلم كل مسلم أن العرف الدولي لا يلتفت إليه بل يطَّرح إذا كان
مخالفاً للشرع المطهر ، وهذا معلوم محقق عبر تاريخ الإسلام وشريعته منذ بعثته عليه
الصلاة والسلام ، والعرف المعتبر مقيدٌ عند العلماء بما إذا كان متسقاً مع القواعد
الشرعية غير مخالفٍ لها ، والكاتب ـ هدانا الله وإياه للصواب ـ يعلم أن كثيراً من
الأعراف الدولية اليوم تخالف جميع الشرائع السماوية ، كما هو الحال في أنظمتهم
المجيزة لزواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة وغير ذلك من الأمثلة المتكاثرة .
سادساً : مما أورده الكاتب في تعليله ما ذهب إليه : إيراده لعدد من القواعد الفقهية
وتطبيقها وفق ما يذهب إليه ، مثل ( المصلحة الراجحة ) وادعى أنها متحققة في تصوير
المرأة ، وهذا غير مسلَّم ، فالمصلحة الراجحة تحتاج إلى نظر مجتهد أو أكثر ، وأن
يقترن بذلك ورع يحمل على تطلب تقليل الفتن وسد أبوابها ، وذلك ما لا نطمئن لوجوده
لدى الكاتب ، كما أنه ألغى قاعدة ( سد الذرائع ) لأنه يرى أن من يطبقها يدخل في حيز
التوهم والتخمين والوساوس والتخيلات ! وهذا تحكم بالرأي وافتئات على العلماء يسيء
للكاتب ولفكره .
سابعاً : ختم الكاتب مقالته بقوله : إن ما هو جارٍ في بعض المجتمعات في التعامل مع
المرأة والنظر إليها أمرٌ أملَته الأعراف وأفرزته التقاليد التي لا علاقة لها
بالدين أصلاً . ويؤخذ على الكاتب هنا : أنه ناقض نفسه بدعوته إلى مخالفة الأعراف
والتقاليد التي دعا إلى مسايرتها إذا كانت دولية ، فهل المانع لديه في متابعتها هنا
كونها مخالفة لم يرومه ؟! .
ثامناً : كم تمنيت أن ينبري الكاتب المذكور وهو الذي عنده أثارة من العلم الشرعي
لأن ينقد الأحوال المأفونة التي تردت فيها المجتمعات التي عرَّت النساء من عفافهن
بعد لباسهن ، وما أثمر ذلك من فساد الأخلاق وتعدد الخدينات والأخدان وتكاثر اللقطاء
وتفكك الأسر ، وأن يُجَليَ منهج الإسلام في تشريعه الرباني بما يكفل سعادة البشر
ويحقق لهم الحياة الكريمة ، وما كنت أظن أن مثله يدعو لمسايرة " إيقاع العصر" الذي
بات من ثقافته إقامة أسواق النخاسة التي تعرض فيها لحوم إناث البشر بأساليب هي أبشع
من عرض النِّعاج في حظائرها .
وفَّق الله الجميع لما فيه الخير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بقلم : خالد بن عبد الرحمن الشايع ـ الرياض
|