علي بن يزيد كاتب العباس بن المأمون
يتحدث عن أيام فاقته
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال:
حدثني أبي، قال: حدثني أبو يوسف يعقوب بن بيان، قال: حدثني علي بن الحسين بن محمد
بن موسى ابن الفرات، قال: كنت أتولى ماسبذان، وكان صاحب البريد بها علي بن يزيد، وكان قديماً يكتب للعباس بن المأمون،
فحدثني: أن العباس غضب عليه وأخذ جميع ما كان يملكه، حتى إنه بقي بسر من رأى لا يملك شيئاً إلا فرس بسرجه ولجامه ،
ومبطنة ، وطيلساناً، وقميصاً، وشاشية، وأنه كان يركب في أول النهار، فيلقى من يريد
لقاءه، ثم ينصرف، فيبعث فرسه إلى الكراء ، فيكسب عليه ما يعلفه، وما ينفقه هو
وغلامه.
فاتفق في بعض الأيام أن الدابة لم تكسب شيئاً، فبات هو وغلامه طاويين، قال: ونالنا
من الغد مثل ذلك.
فقال غلامي: يا مولاي، نحن نصبر، ولكن
الشأن في الدابة، فإني أخاف أن تعطب.
قلت: فأي شيء أعمل ؟ ليس إلا السرج، واللجام،
وثيابي، وإن بعت من ذلك شيئاً، تعطلت عن الحركة، وطلب التصرف.
قال: فانظر في أمرك.
فنظرت، فإذا بحصيري خلق، ومخدتي لبنة
مغشاة بخرقة، أدعها تحت رأسي، ومطهرة خزف للطهور، فلم أجد غير منديل دبيقي خلق، قد
بقي منه الرسم.
فقلت للغلام: خذ هذا المنديل، فبعه،
واشتر علفاً للدابة، ولحماً بدرهم، واشوه، وجىء به، فقد قرمت إلى أكل اللحم.
فأخذ المنديل، ومضى، وبقيت في الدار
وحدي، وفيها شاهمرج (طير)
قد جاع لجوعنا ، فلم أشعر إلا بعصفور قد سقط في المطهرة التي فيها الماء للطهور،
عطشاً، فشرب، فنهض إليه الشاهمرج، فناهضه، فلضعفه ما قصر عنه، وطار العصفور، ووقف
الشاهمرج، فعاد العصفور إلى المطهرة، فبادره الشاهمرج فأخذه بحمية، فابتلعه، فلما
صار في حوصلته، عاد إلى المطهرة، فتغسل، ونشر جناحيه وصاح، فبكيت، ورفعت رأسي إلى
السماء، وقلت: اللهم، كما فرجت عن هذا الشاهمرج، فرج عنا،
وارزقنا من حيث لا نحتسب.
فما رددت طرفي، حتى دق بابي، فقلت: من
أنت ؟
قال: أنا إبراهيم بن يوحنا، وكيل العباس
بن المأمون.
فقلت: ادخل، فدخل، فلما نظر إلى صورتي،
قال: ما لي أراك على هذه الصورة، فكتمته خبري.
فقال لي: الأمير
يقرا عليك السلام، وقد اصطبح اليوم، وذكرك وقد أمر لك بخمسمائة دينار، وأخرج الكيس
فوضعه بين يدي.
فحمدت الله تعالى، ودعوت للعباس، ثم
شرحت له قصتي، وأطفته في داري وبيوتي، وحدثته بحديث الدابة، وما تقاسيه من الضر،
والمنديل، والشاهمرج، والدعاء، فتوجع لي، وانصرف.
ولم يلبث أن عاد، فقال لي: صرت إلى الأمير، وحدثته بحديثك كله، فاغتم لذلك، وأمر لك بخمسمائة دينار أخرى، قال: تأثث بتلك، وأنفق هذه، إلى أن يفرج الله.
وعاد غلامي، وقد باع المنديل، واشترى
منه ما أردته، فأريته الدنانير، وحدثته الحديث، ففرح حتى كاد أن تنشق مرارته. وما
زال صنع الله يتعاهدنا.
من كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي