الفراســـة

الفراســـة

يقول سبحانه  وتَعَالَى:" إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر : 75] أَيْ الْمُتَفَرِّسِينَ .

ويقول تَعَالَى " وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ " [محمد : 30]

قَوْله تَعَالَى "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ"[الفتح : 29]

وفي سورة البقرة قَوْله تَعَالَى  "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)"

وقَوْله تَعَالَى "وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) " قال مجاهد : ما تُغَيبُون. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن مسلم البصري ، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي ، حدثنا صدقة بن رستم ، سمعت المسيب بن رافع يقول : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وتصديق ذلك في كلام الله : { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } هذا البعض أيُّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به. تفسير ابن كثير

قال معن بن زائدة: ما رأيت قفا رجل قطّ إلا عرفت عقله، فقال له الفضل بن شهاب : فإن رأيت وجهه؟  قال: فذلك حينئذ في كتاب أقرأه.

ومر إياس بن معاوية ذات يوم بماء، فقال: أسمع صوت كلب غريب، قيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال بخضوع صوته وشدة نباح غيره من الكلاب. قالوا: فإذا كلب غريب مربوط، والكلاب تنبحه.

 

وقيل ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه ، وقيل تكشفه فلتات لسانه، ونظرات عينيه، وحركات شكله في وجهه ومقاطعه.

قَالَ زُهَيْرٌ :

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ *** وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمْ

 وقال آخر :

تخبرني العينان ما القلب كاتم * * وما جن بالبغضاء والنظر الشزر


وقال آخر :

وفي عينيك ترجمة أراها * * تدل على الضغائن والحقود
وأخلاق عهدت اللين فيها * * غدت وكأنها زبر الحديد
وقد عاهدتني بخلاف هذا * * وقال الله : " أوفوا بالعقود "

 

وكان يقال : العين و الوجه واللسان أصحاب أخبار على القلب ، وقالوا : القلوب كالمرايا المتقابلة ، إذا ارتسمت في إحداهن صورة ظهرت في الاخرى .
 

وحكى أبو سعيد الخراز أنه كان في الحرم فقير ليس عليه إلا ما يستر عورته فانفت نفسي منه فتفرس ذلك مني فقرأ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ، فندمت واستغفرت الله في قلبي فتفرس ذلك أيضا فقرأ : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ .

 

وحكي عن بعض أبناء التجار أنه كان في بعض أسفاره راكبا على بعيره يقوده غلام أسود فمر بقوم من العرب يقال لهم بنو مدلج فنظر إليه واحد منهم وقال ما أشبه الركب بالقائد قال ولد التاجر فوقع في نفسي من ذلك شيء فلما رجعت إلى أمي ذكرت لها القصة فقالت يا ولدي ان أباك كان شيخا كبيرا ذا مال وليس له ولد فخشيت أن يفوتنا ما له فمكنت هذا الغلام من نفسي فحملت بك ولولا أن هذا شيء ستعلمه غدا في الدار الآخرة لما أعلمتك به في الدنيا " القصة في كتاب المستطرف في كل فن مستظرف"

 

وروى ابن دريد عن أبي حاتم، عن أبي معمر، عن رجل من أهل الكوفة، قال: كنا مع مسلمة بن عبد الملك، ببلاد الروم، فسبا سبايا كثيرة، وأقام ببعض المنازل، فعرض السبي على السيف، فقتل خلقاً، حتى عرض عليه شيخ كبير ضعيف، فأمر بقتله.

فقال له: ما حاجتك إلى قتل شيخ مثلي ؟ إن تركتني حياً، جئتك بأسيرين من  لمسلمين شابين.

قال له: ومن لي بذلك ؟

قال: إني إذا وعدت وفيت.

قال: لست أثق بك.

فقال له: دعني حتى أطوف في عسكرك، لعلي أعرف من يتكفل بي إلى أن أمضي وأعود أجيء بالأسيرين.

فوكل به من يطوف به، وأمره بالاحتفاظ به، فما زال الشيخ يطوف، ويتصفح الوجوه، حتى مر بفتى من بني كلاب، قائماً يحس فرسه.

فقال له: يا فتى، اضمني للأمير، وقص عليه قصته.

فقال: أفعل، وجاء الفتى إلى مسلمة، فضمنه، فأطلقه مسلمة.

فلما مضى، قال للفتى: أتعرفه ؟ قال: لا، والله.

قال: فلم ضمنته ؟

قال: رأيته يتصفح الوجوه، فاختارني من بينهم، فكرهت أن أخلف ظنه فيّ.

فلما كان من الغد، عاد الشيخ، ومعه أسيران شابان من المسلمين، فسلمهما إلى مسلمة، وقال: إن رأى الأمير أن يأذن لهذا الفتى أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله.

فقال مسلمة للفتى الكلابي: إن شئت فامض معه.

فلما صار إلى حصنه، قال له: يا فتى، تعلم - والله - أنك ابني

قال له: وكيف أكون ابنك، وأنا رجل من العرب مسلم، وأنت رجل من الروم نصراني.

فقال له: أخبرني عن أمك، ما هي ؟

قال: رومية.

قال: فإني أصفها لك، فبالله إن صدقت، إلا صدقتني.

قال: أفعل.

فأقبل الرومي، يصف أم الفتى، ما خرم من صفتها شيئاً.

فقال له الفتى: هي كذلك، فكيف عرفت أني ابنها ؟

قال: بالشبه، وتعارف الأرواح، وصدق الفراسة.

ثم أخرج إليه امرأة، فلما رآها الفتى لم يشك فيها أنها أمه، لتقارب الشبه، وخرجت معها عجوز كأنها هي، فأقبلتا تقبلان رأس الفتى، ويديه، وتترشفانه.

فقال له: هذه جدتك، وهذه خالتك.

ثم اطلع من حصنه، فدعا بشباب في الصحراء، فأقبلوا، يكلمهم بالرومية، فأقبلوا يقبلون رأس الفتى ويديه، فقال: هؤلاء أخوالك، وبنو خالاتك، وبنو عم والدتك.

ثم أخرج إليه حلياً كثيراً، وثياباً فاخرةً، وقال: هذا لوالدتك منذ سبيت، فخذه معك، وادفعه إليها، فإنها ستعرفه، ثم أعطاه لنفسه مالاً كثيراً، وثياباً، وحلياً، وحمله على عدة دواب، وألحقه بعسكر مسلمة، وانصرف.

وأقبل الفتى قافلاً حتى دخل إلى منزله فأقبل يخرج الشيء بعد الشيء مما عرفه الشيخ أنه لأمه، وتراه أمه، فتبكي، فيقول لها: قد وهبته لك.

فلما كثر عليها، قالت له: يا بني، أسألك بالله، من أي بلد صارت إليكم هذه الثياب، وهل تصف لي أهل هذا الحصن الذي كان فيه هذا ؟ فوصف لها الفتى صفة البلد والحصن، ووصف لها أمها وأختها، والرجال الذين رآهم، وهي تبكي وتقلق.

فقال لها: ما يبكيك ؟ فقالت: الشيخ والله والدي ، والعجوز أمي ، وتلك أختي.

فقص عليها الخبر، وأخرج بقية ما كان أنفذه معه أبوها إليها، فدفعه إليها. "القصة في كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي"