اتفـاق عجيب في منـامين

من قصص الفرج بعد الشدة

يقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ « لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ » صحيح مسلم .

 

ذكر التنوخي في الفرج بعد الشدة أن خزيمة بن خازم وكان أكابر القواد في عصر الرشيد والامين والمأمون وكان يجلس في داره للناس في كل يوم ثلاثاء، فلا يحجب عنه أحد.

وكان قد أفرد لهذا كاتباً يقال له: الحسن بن مسلمة، يتصفح الرقاع قبل عرضها عليه.

وكان ممن يتصرف في أعماله رجل يقال له: حامد بن عمرو الحراني، وكان فيه إلحاح شديد ، فيؤذي بذلك ويبرم.وكان يخاطب خزيمة في أيام الثلاثاء، ولا يقنع بذلك، حتى لازم بابه كل يوم، وإذا ركب خاطبه على الطريق، وربما تعرض له في دار الخليفة فخاطبه، ولم يكن في طبع خزيمة احتمال مثل ذلك.

يقول الحسن بن مسلمة نظر خزيمة إلى هذا الرجل في داره، وكان قد لقيه في الطريق، فخاطبه قبل ذلك بيوم، وأضجره، ووافق من خزيمة ضجراً بشيء حدث من أمور المملكة فصاح فيه خزيمة ، وأمر بإخراجه من داره إخراجاً عنيفاً، ثم دعاني، فقال: والله، لئن دخل هذا داري، لأضربن عنقه، ولئن وقف لي على طريق، أو كلمني في دار السلطان، لأضربن عنقه، فأخبره بذلك، وحذره ، وكان خزيمة إذا وعد أو توعد، فليس إلا الوفاء.

 

وخرجت إلى خارج الدار، فوجدت الرجل "حامد" قائماً، فأعلمته أن دمه مرتهن بنظرة ينظرها إليه خزيمة في دار السلطان، أو على بابه، أو في الطريق، وحذرته تحذيراً شديداً، وخوفته من سفك دمه، وأن لا يجعل عليه سبيلاً، فشكرني على تحذيره، وانصرف كئيباً.

 

فلما أصبحنا من الغد، غدوت إلى دار خزيمة على عادتي للملازمة، فلما دنوت من الباب، إذا حامد بن عمرو واقفاً كما كان يقف منتظراً.

فعظم ذلك علي، وقلت: يا هذا، أما تخاف الله ؟ أتحب أن تقتل نفسك ؟ أما تعرف الرجل ؟

فقال: والله، ما أتيت هذا عن جهل مني ولا اغترار، بل أتيته على أصل قوي، وسبب وثيق، وسترى من لطف الله ما يسرك، وتعجب منه.

قال الحسن: فزاد عجبي منه، ودخلت الدار، فصادفت خزيمة في صحن الدار يريد الخروج ، فحين نظر إلي، قال: ما فعل حامد بن عمرو ؟

قلت: رأيته الساعة بالباب، وقد تهددته، فلما رأيته اليوم بالباب تعجبت من جهله وعودته، مع ما أعذرت إليه من الوعيد، وأمرته بالانصراف، فأجابني بجواب لا أدري ما هو، فأنا بريء من فعله.

فقال: بأي شيء أجابك ؟ فأخبرته، فسكت خزيمة، وخرج فركب، فحين رآه حامد ترجل له.

فصاح به خزيمة: لا تفعل والحقني إلى دار أمير المؤمنين وسار خزيمة، فدخل دار الرشيد، ودخلنا معه إلى حيث جرت عادتنا أن نبلغه من الدار، فجلسنا فيه، ومضى خزيمة يريد الخليفة، وجاء حامد فجلس إلى جانبي.

فقلت له: أصدقني عن خبرك، والسبب في جسارتك على خزيمة، ولينه لك بعد الغلظة، وعرفته ما جرى بيني وبين خزيمة ثانياً.

فقال: طب نفساً، فما أبدي لك شيئاً إلا بعد بلوغ آخر الأمر.

فبينا نحن كذلك، إذ دعي حامد إلى حيث كان معتادا بأن يدخله من يخلع عليه، فتحيرت فلم يكن بأسرع من أن خرج وعليه الخلع، وبين يديه لواء قد عقد له على طريق الفرات بأسره، فقمت إليه وهنأته.

فأقمت بمكاني إلى أن خرج خزيمة، وقال: أظنك أنكرت ما جرى من أمر حامد ؟ قلت: إي والله، أيها الأمير.

قال: فاسمع الخبر، اعلم أني كنت في نهاية الغيظ عليه، وأمرت فيه بما علمته أمس، فلما كان البارحة، رأيته في النوم، كأنه قائم يصلي، وقد رفع يديه إلى الله يدعو علي. فصحت به: لا تفعل، لا تفعل، وادن مني، فانفتل من صلاته، وجاء حتى وقف بين يدي.

فقلت له: ما يحملك على أن تدعو علي ؟

فقال: لأنك أهنتني، واستخففت بي، وهددتني بالقتل ظلماً، وقطعت أملي من طلب رزقي وقوتي، وأنا أشكوك إلى الله، وأستعينه عليك.

وكأني أقول له: طب نفساً، ولا تدع علي، فإني أحسن إليك غداً، وأوليك عملاً، واستيقظت.

فعجبت من المنام، وعلمت أني قد ظلمت الرجل، وقلت في نفسي: شيخ من العرب، له سن وشرف، أسأت إليه بغير جرم، وأرعبته، وماذا عليه إذا لج في طلب الرزق ؟ وعلمت أن الذي رأيته في منامي موعظة في أمره، وحث على حفظ النعم، وأن لا أنفرها بقلة الشكر، واستعمال الظلم.

فاعتقدت أن أوليه، كما وعدته في النوم، فكان ما رأيت.

قال الحسن بن مسلمة: فقويت رأيه في هذا، ودعوت له، وانصرفت، فجاءني من العشي حامد مسلماً ومودعاً ليخرج إلى عمله.

فقلت له: هات الآن خبرك.

فقال: نعم، انصرفت من باب خزيمة موجع القلب، قلقاً، مرتاعاً، فأخبرت عيالي، فصار في داري مأتم، وبكاء عظيم، ولم أطعم أنا ولا هم شيئاً يومنا وليلتنا، وأمسيت كذلك.

فلم هدأت العيون، توضأت، واستقبلت القبلة، فصليت ما شاء الله، وتضرعت إلى الله، ودعوته بإخلاص نية، وصدق طوية، وأطلت، فحملتني عيني، فنمت وأنا ساجد في القبلة.

فرأيت في منامي، كأني على حالي في الصلاة والدعاء، وكأن خزيمة قد وقف علي، وأنا أدعو، فصاح بي: لا تفعل، لا تفعل، وأغد علي، فإني أحسن إليك، وأوليك، فانتبهت مذعوراً، وقد قويت نفسي، فقلت: أبكر إليه، فلعل الله أن يطرح في قلبه الرقة، فغدوت إليه، فكان ما رأيت.