لا يشْكُرُ اللّه منْ لا يشْكُرُ النَّاسَ

من قصص الفرج بعد الشدة

ومما وضع في بطون الدفاتر واستحسنته عيون البصائر ونقلته الأصاغر عن الاكابر وتداولته الألسنة من الاوائل والاواخر ما رواه خادم أمير المؤمنين المأمون قال :

طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي خذ معك فلانا وفلانا وسماهما أحدهما علي بن محمد والآخر دينار الخادم واذهب مسرعا لما أقوله لك فإنه قد بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى دور البرامكة وينشد شعرا ويذكرهم ذكرا كثيرا ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف فامض الآن أنت وعلي ودينار حتى تروا هذه الخرابات فاستتروا خلف بعض الجدران فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وانشد شيئا فائتوني به.

 

قال فاخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات وإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي حديد وإذا شيخ وسيم له جمال وعليه مهابة ووقار قد أقبل فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول:

( ولما رأيت السيف جندل جعفرا ... ونادى منـاد للخليفة في يحـيى )

( بكيت على الدنيا وزاد تأسفي  ... عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا )

مع أبيات أطالها ورددها فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له أجب أمير المؤمنين ففزع فزعا شديدا وقال دعوني حتى أوصي وصية فإني لا أوقن بعدها بحياة ثم تقدم إلى بعض الدكاكين فاستفتح وأخذ ورقه وكتب فيها وصية ودفعها الى غلامه ثم سرنا به ، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين زجره وقال له من أنت وبماذا استوجبت البرامكة منك ما تفعله في خرائب دورهم وما تقوله فيها ؟.

فقال يا أمير المؤمنين إن للبرامكة عندي أيادي خطيرة أفتأذن لي أن احدثك حديثي معهم قال قل.

قال: ياأمير المؤمنين أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع مسقط رأسي ورءوس أهلي أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبيا وصبية وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب .. حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد فدعوت بثويبات لي كنت قد أعددتها لا ستمنح بها الناس فلبستها وخرجت وتركتهم جياعا لا شيء عندهم ودخلت شوارع بغداد أسأل عن دور البرامكة .. فإذا أنا بمسجد مزخرف وفيه مائة شيخ بأحسن زي وزينة وعلى الباب خادمان فطمعت في القوم وولجت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم وأؤخر والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي وإذا بخادم قد أقبل فدعا القوم فقاموا وأنا معهم فدخلوا دار يحيى بن خالد ودخلت معهم وإذا بيحيى جالس على دكة له في وسط بستان فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحد وبين يديه عشرة من ولده وإذا غلام أمرد عذاراه خداه قد أقبل من بعض المقاصير بين يديه مائة خادم منمطقون في وسط كل خادم منطقة من ذهب يقرب وزنها من الف مثقال ومع كل خادم مجمرة من ذهب في كل مجمرة قطعة من عود كهيئة الفهر قد قرن بها مثلها من العنبر السلطاني فوضعوه بين يدي الغلام إلى جنب يحيى ثم قال يحيى للقاضي تكلم وزوج بنتي عائشة من ابن عمي هذا فخطب القاضي وزوجه وشهد أولئك الجماعة وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر فالتقطت والله ياأمير المؤمنين ملء كمي ونظرت فإذا نحن في المكان ما بين يحيى والمشايخ وولده والغلام مائة واثنا عشر رجلا فخرج الينا مائة واثنا عشر خادما مع كل خادم صينية من فضة عليها الف دينار فوضعوا بين يدي كل رجل منا صينية فرأيت القاضي والمشايخ يصبون الدنانير في اكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم ويقوم الاول فالاول حتى بقيت وحدي بين يدي يحيى لا أجسر على اخذ الصينية فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي وأخذت الصينية في يدي وقمت وجعلت التفت إلى ورائي مخافة أن امنع من الذهاب بها فبينما أنا كذلك في صحن الدار ويحيى يلحظني إذا قال ائتني للخادم بذلك الرجل فرددت إليه فأمر بصب الدنانير والصينية وما كان في كمي ثم أمرني بالجلوس فجلست فقال لي ممن الرجل فقصصت عليه قضيتى فقال للخادم ائتني بولدي موسى فاتي به فقال له يا بني هذا رجل غريب فخذه إليك واحفظه بنفسك وبنعمتك فقبض موسى علي يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الإكرام وأقمت عنده يومي وليلتي في الذ عيش وأتم سرور فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال إن الوزير قد أمرني بالعطف على هذا الرجل وقد علمت اشتغالي في دار امير المؤمنين فاقبضه إليك وأكرمه ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام فلما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد ثم لم أزل في ايدي القوم يتداولوني عشرة أيام لا اعرف خبر عيالي وصبياني افي الأموات هم أم في الأحياء فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا لي قم فاخرج إلى عيالك بسلام فقلت واويلاه سلبت الدنانير والصينية وأخرج إلى عيالي في هذه الحالة إنا لله وإنا إليه راجعون فرفع الستر الاول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع فلما رفع الخادم الستر الاخير قال لي مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به فلما رفع الستر رأيت حجرة كالشمس حسنا ونورا واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج وحمل إلي الف الف درهم وعشرة آلاف دينار ومنشورين بضيعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق واقمت يا امير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب اصطنعوني فلما جاءتهم البلية ونزل بهم من امير المؤمنين الرشيد ما نزل اجحفني عمرو ابن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به فلما تحامل علي الدهر كنت في أواخر الليل اقصد خرابات القوم فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي وأشكرهم على إحسانهم فقال المأمون علي بعمرو بن مسعدة فلما أتي به قال ياعمرو أتعرف هذا الرجل قال نعم يا امير المؤمنين هو بعض صنائع البرامكة قال كم الزمته في ضيعته قال كذا وكذا قال رد له كل ما استأديته منه في مدته ووقع له بهما ليكونا له ولعقبة من بعده قال فعلا نحيب الرجل وبكاؤه فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال يا هذا قد احسنا إليك فلم تبكي قال يا امير المؤمنين وهذا ايضا من صنائع البرامكة إذ لو لم آت خراباتهم فأبكيهم واندبهم حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين ففعل ما فعل فمن اين كنت أصل إلى أمير المؤمنين قال إبراهيم بن ميمون فلقد رأيت المأمون قد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه وقال لعمري هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابك وإياهم فاشكر ولهم فأوف ولإحسانهم فاذكر وقيل إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وكثرة بكائه على ما مضى من زمانه قال الشاعر:

( سقى الله أطلال الوفاء بكفه ... فقد درست أعلامه ومنازله )

 

من كتاب المستطرف في كل فن مستظرف