توبة علي بن المـأمون والمأمون

عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور العباسي

" قصة مؤثرة "

ذكر إبراهيم بن الجنيد في كتاب زهد الملوك بإسناده عن صالح بن عبدالعزيز قال أخبرني عمي عبدالحميد بن محمد أن المأمون (عبد الله بن هارون الرشيد 170 - 218 هـ)كان يجد بابنه علي وجدا شديدا ويقدمه على جميع أولاده وكان من أحسن الناس وأجملهم مع أدب وفصاحة ، قال عبدالحميد وكنت إذا دخلت الدار أميل إليه فأسلم عليه فأرى معه حياء وبشاشة ولا أرى فيه كبرا ولا عزا يضاحك خدمه ويلاطف جلساءه ثم أسخى من رأت عيناي وأحسنه خلقا وأطيبه نفسا وكنت إذا رأيته لا أكاد أصرف وجهي عنه من حسنه وجماله وكان سبب تزهده فيما أخبرني به شاكر مولاه قال: كان في يوم صائف شديد الحر له سموم في قبة الجيش فأتاه يمن الخادم فقال يا سيدي أمير المؤمنين يدعوك قد دعا بطعامه وهو ينتظرك قال ويحك الحر شديد ويؤذيني وأكره الخروج فارجع فأعلمه أنك وجدتني نائما ، فمضى فلم يكن بأسرع من أن رجع فقال قد قال ادخل عليه ونبهه وكان لا يصبر عنه ساعة ، فقام وهو كاره فحضر الطعام ثم قعد أمير المؤمنين للشراب مع ندمائه ، فقام علي وخرج من المجلس وكان لا يشرب شيئا من الأنبذة فانصرف إلى قصره وأمر أن يفرش له في بعض شرفة تطل على نهر دجلة وقعد على سرير عليه غلالة ينظر إلى الناس وإلى دجلة ودعا بالعبيد والإيماء والندماء... فبينا هو كذلك إذ نظر إلى حمال قد أقبل عند الزوال عليه دراعة صوف بيضاء بالية بلا قميص تحتها ولا سراويل عليه وقد شد على رجليه خرقا من الحر ولبس نعلين متخرقين وعلى رأسه خرقة وعلى عنقه خرجه وطبقه فأتى دجلة وقعد في بعض السفن والأمير ينظر إليه مستشرف عليه لا يصرف بصره عنه فوضع طبقه وخرجه وخلع نعليه وألقى الخرق عن رجليه ودنا من دجلة وغسل يديه ورجليه وانصرف إلى موضعه فأخرج جرابا له ففتحه وأخرج منه كسرا يابسة مختلفة الألوان وأخرج منه قصعة خشب فغسل قصعته وجعل فيها ماء وألقى تلك الكسر في الماء الذي في القصعة ثم أخرج صرة ففتحها وأخرج منها ملحا فنثره على الخبز وقليل سعتر وتركها مقدار ما بل الكسر ثم تربع على الرمل وسمى الله تبارك وتعالى وأكل أكل رجل يشتهي الطعام وهو مع ذلك يشكر الله تعالى والأمير عيناه إليه حتى فرغ وغسل القصعة فردها إلى جرابه مع كسيرات بقيت وشد خرقة الملح ودنا من الشط فاغترف بكفيه من الماء وقال يا سيدي ومولاي لك الحمد على هذه النعمة التي تفضلت بها علي فلك الحمد على أياديك عندي فلك الحمد ولك الشكر ثم وضع رأسه على كرزنه وتمدد على الرمل ساعة ثم قام فتهيأ للصلاة وقام يصلي للزوال ، فقال الأمير للغلمان الوقوف عنده ليذهب بعضكم إلى الرجل القائم المصلي فيأتيني به مع طبقه وكرزنه ولا يرعبه وعليه باللطف حتى يأتيني به فمضى بعض الغلمان فأتاه فأقام عنده حتى سلم ثم قال له قم معي حتى تحمل لي متاعا من قصر الأمير فقال اطلب غيري فإني متعوب البدن قال الموضع قريب والحمل خفيف قال يا حبيبي قد عرفت ذلك وأنت تصيب غيري فاعفني فإني أكره دخول الدار قال لا بد منه فإن قمت وإلا أقمت وغلظ له في الكلام فقام الرجل وألقى كرزنه في عنقه وحمل الطبق وقرأ "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" ، "فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا النساء"  ، فأدخله الغلام القصر ثم أصعده حتى أوقفه بين يدي الأمير على هيئته فأمره بالقعود فقال له الندماء أيها الأمير من هذا حتى تأمره بالقعود مع وسخه ونجاسته قال: اسكتوا ثم قال: من أهلها أنت قال نعم قال ما صناعتك قال ما ترى الحمل قال وكم عيالك قال نحن عيال الله لي والدة عجوز مقعدة وأخت عمياء زمنة قال فأهل وولد قال مالي أهل ولا ولد قال فكم يكون الكسب قال على قدر ما أرزق إلا أنه لا ينصرم يوم إلا ونحن في كفاية من فضل الله تعالى قال فتطيق الحمل كل يوم قال إذا صليت الفجر خرجت فتعرضت للرزق إلى وقت الزوال ثم أتفرغ لنفسي إلى فراغي من صلاة العصر وأجم نفسي من العصر إلى الليل قال أفليس تكون بالليل جماما قال إن أجممت نفسي بالليل تركني فقيرا يوم القيامة ففطن لها علي فقال إني رأيتك تأكل وحدك كيف لا تأكل مع والدتك وأختك قال إنهما يصومان فأجعل عشائي مع فطرهما قال أخرج الكسر ففتح جرابه فأخرج منه كسرا يابسة أسود وأحمر وأبيض فنظر إليها الأمير ساعة يتأملها متفكرا ثم قال يا شاكر إيتني بخمسة آلاف درهم صحاح فأدفعها إليه ليصلح بها حاله قال أيها الأمير أنا غني عنها لا حاجة لي فيها فجهد به على أن يأخذها فأبى قال الأمير فلي إليك حاجة قال ما حاجة مثلك إلى مثلي قال في حاجة مهمة فأخذ بيده فأدخله بعض غرفه وخلا معه فقال علي ها قد عرفت حالي وقصتي وموضعي وما أنا فيه من هذا الملك نعيم الدنيا ولذاتها فادع الله تبارك وتعالى أن يزهدني في الدنيا ويرغبني في الآخرة فقال له الحمال يا حبيبي مالي عند الله من المنزلة أدعوه إلا أن بعض الحكماء يقول من خاف شيئا أدلج افرض إلى نفسك كل يوم وساعة شيئا معلوما من خصال الخير فإنك إذا فعلت لك جاءتك العزيمة بالعون من الله تعالى على ذلك ولا تؤخر عمل يومك لغد ولا تكلف نفسك ما لا طاقة لها به وأكثر ذكر الموت فإن ذكره يكثر القليل ويقلل الكثير وعليك بتقوى الله تعالى وطاعته واجتناب معاصيه ثم رفع يديه وطأطأ رأسه ودمعت عيناه وقال يا من رفع السماء بقوته ودحا الأرض بمشيئته وخلق الخلائق بإرادته واستوى على العرش بقدرته يا مالك الملك وجبار الجبابرة وإله العالمين ومالك يوم الدين أسألك برحمتك وجودك وقدرتك أن تخرج حب الدنيا من قلب عبدك عبدالله علي وتوفقه لطاعتك من الأعمال التي تقر به إلى مرضاتك وتجنبه معاصيك وتختم لنا وله برضوانك وعفوك يا أرحم الراحمين ، قال فدمعت عينا علي وبكى فأكثر ثم قال للحمال لو قبلت منا شيئا قال لا أريده وحاجتي أن تعجل سراحي فأذن له بالخروج.

انصرف الأمير علي بعده إلى موضعه وهو متفكر قد ذهب نشاطه ثم التفت إلى ندمائه فقال يا قوم لو شهدتم طعام أمير المؤمنين ورأيتم ما يرفع ويوضع من صنوف الأطعمة ثم جعل يصف ذلك الطعام ثم قال لو رأيتم الطعام الذي يخبز قد تنوق في بياضه وجودته وطحنه ثم ينخل بالشعر ثم ينخل بالكرابيس ثم ينخل بالحرير حتى يبقى مخه فقط توقد ناره بالقصب فإذا سكن وهجه بخر التنور بالعود القماري وخبز بصنوف الطعام ثم وصف ما يتخذ له من صنوف الألوان من الحار والبارد والرطب واليابس والحلو وغير ذلك وهذا الحمال طعامه ما قد رأيتم ومائدته طبق من سعف النخل ، ثم طأطأ رأسه وجعل ينكت بأصبعه على الحصير ساعة ثم قال يا غلام إئت منيبا خازن الكتب فمره يخرج لي سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتاه به فجعل ينظر فيه فقال اسمعوا ما كان طعام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عراق لحم الإبل مطبوخ بماء وملح وأقراص من شعير غير منخول فقيل له يا أمير المؤمنين لو أكلت غير هذا الطعام فقد وسع الله على المسلمين فقال هاه إن الله تبارك وتعالى عير قوما بأكلهم بقوله "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا "الأحقاف 20 فجعل يصف لهم سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتدمع عيناه فلما فرغ قال يا غلام قل لمنيب يخرج لي سيرة عمر بن عبد العزيز فأخرج إليه فجعل ينظر فيه ويصف لندمائه ثم قال أبعد الله بطنا يعقب صاحبه ندما يوم الحسرة في عرصة القيامة هذا عبدالله بن عمر زين أبناء الصحابة اشتهى عنبا فلم يذقه هذا سعيد بن المسيب زين التابعين يقول ليت أن الله جعل رزقي في مص حصاة فقد استحييت من كثرة الإختلاف إلى الحش هذا الربيع بن خيثم اشتهى خبيصا فلم يذقه هذا مالك بن دينار هذا فلان هذا فلان فجعل يذكر وتدمع عيناه ثم قال ترى القوم لم يشتهوا طيب الطعام ولكنهم زهدوا عن الفاني للباقي وباعوا القليل بالكثير وصبروا في دنياهم فنالوا الذي طلبوا خرجوا من الدنيا خماصا جياعا حفاة عراة فلم تأكل الأرض منهم شحما ولا لحما بليت الجلود على العظام والعروق ثم أخرج ساعدا كأنه قضيب فضة مستديرة شحما ولحما فقال إن هذا الساعد مع هذا البدن ربي بالأطعمة والأشربة التي وصفت لكم من الطعام والشراب ليبلى في التراب كما يبلى ساعد الحمال ثم أرسل عينيه فبكى فأكثر البكاء ونحن قيام على رأسه ثم قال يا غلام ارفع هذه الآلة (آلة الطرب) قبحها الله فما أموتها للقلوب وأضرها وأذلها فرفعت وصرف الندماء والخدم والغلمان وبقي وحده متفكرا لا يأذن لأحد عليه حتى إذا مضى بعض الليل ناداني يا شاكر قلت لبيك أيها الأمير قال دونك الخزائن فاحفظها مع جميع ما في الدار فإني منطلق إلى سيدي وأنا أظن أنه يعني بسيده أباه.

 

خرج علـي من القصر وعليه إزار قد أخذه على رأسه ونعل طاق قد وضعها في رجله وقال لا يتبعني منكم أحد بشمع فخرج ومعه غلام صغير وتخلف عنه الخدم والغلمان فلما أصبحنا افتقدنا الغلام إلى ارتفاع النهار فجاء الغلام فسألته عنه فقال لم يدخل دار أمير المؤمنين ولكنه أخذ نحو الدجلة وقال لي قف موضعك هذا لا تبرح فلا أدري أين ذهب. إلا أنه دنا من ملاح فناوله دنانير وقال لي حاجة مهمة بواسط فتعجل بي وهو لا يعرفه فأدخله الزورق ومضى به إلى واسط.

 

لكن الأمير علي لم يقم بواسط بل خرج إلى البصرة وتنكر ولبس الخشن من الثياب على ذلك الجلد النقي واشترى طبقا كهيئة ما رأى من زي الحمال وجعل الطبق على عاتقه يعمل على مقدار قوته يحمل على رأسه بالقطع والكسر لا يرد ما أعطى بالنهار صائم يحمل على رأسه وبالليل قائم يصلي يمشي حافيا حتى تقطعت رجلاه يبيت في المساجد يتخللها كي لا يفطن به فلم يزل كذلك يعمل ويعبد ربه سنين وأمير المؤمنين المأمون يبحث عنه ولم يقف على خبره وكتب في جميع الآفاق إلى العمال في كل بلدة أن يطلب وتوضع عليه العيون فلم يوقف على أمره قال فمرض الأمير علي في بعض المساجد وتغيرت حاله فلما اشتدت به العلة دخل بعض الخانات بالبصرة فاكترى غرفة وألقى نفسه على بارية فلما أيس من نفسه دعا صاحب الخان فناوله خاتمه ورقعة مختومة فقال يا هذا إذا أنا قضيت نحبي ( مت ) فاخرج إلى صاحبكم يعني الوالي فأره خاتمي وعرفه موضعي وناوله هذه الرقعة فمات رحمه الله فلما قضى سجاه وخرج نحو باب الأمير فنادى النصيحة فأدخل فأراه الخاتم فلما نظر إليه الوالي عرفه وقال ويحك أين صاحب الخاتم قال في الغرفة في الخان ميت وناوله الرقعة مختومة مكتوبا عليها لا يفكها إلا المأمون أمير المؤمنين فركب الأمير حتى أتى الخان وحوله – نقل الجثة - إلى قصره وطلى عليه الكافور والمسك والعنبر ولفه في قباطي مصر وحمله في النهر إلى المأمون وكتب إليه يعرفه قصته وأنه وجده في غرفة على بارية في بعض الخانات ما تحته مهاد ولا عنده باكية مسجى مغمض العينين مستنير الوجه طيب الرائحة قال وبعث إليه خاتمه ورقعته.

 

فلما وصل كتابه إلى أمير المؤمنين وأدخل علي عليه قام فكشف عن وجهه وانكب عليه يقبله ويبكي ووقعت الصيحة والضجيج في الدار ثم فك الرقعة فإذا فيها مكتوب بخطه يا أمير المؤمنين اقرأ سورة الفجر إلى رابع عشرة آية فاعتبر بها واعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ثم أمر المأمون فغسل وكفن وأخرج ليدفن والمأمون يمشي حتى صلى عليه فلما وضع في حفرته أمر الخدم فقال اخرجوا من القبر ثم اطلع في القبر فقال يا بني رحمك الله وأعطاك أمنيتك ورجاءك إني لأرجو أن يكون الله تعالى قد أسعدك ونفعني بك فنعم الولد كنت جمع الله بينك وبين ابن عمي المصطفى صلى الله عليه و سلم ورزقني الصبر عليك ثم قال سووا عليه فدخل الخدم فأطبقوا عليه ألواحه ثم قال أهيلوا عليه التراب وهو واقف يصيبه الغبار والخدم قيام معهم المناديل يردون عنه الغبار فقال إليكم عني يبلى علي في التراب وتردون عني الغبار ثم قال اللهم ثبته بالقول الثابت وأشهدك أني راض عنه يا أرحم الراحمين والرقعة في يده لا يضعها فدعا محمد بن سعد الترمذي فأمره أن يقرأ سورة الفجر فجعل يقرأ والمأمون يبكي حتى بلغ إن ربك لبالمرصاد ، فأمسك فتصدق عنه بألف ألف درهم وأمر بعرض السجون وأطلق عنهم وكتب إلى العمال بإنصاف الرعية ورد المظالم ونزع عن أمور كثيرة وبقي بعده لا يذكر إلا بكى وهو مكروب لا يرتاح للذة ولا لشهوة وينتاب مجلسه الفقهاء يبصرونه ويعظونه فما زالت هذه حاله حتى مات رحمه الله .

 

من كتاب التاوبين لعبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي