غوانا وحماتها والعطار

اللهم  لا تسلطه على أحد بعدي 
 

ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى عند إيراده لسيرة الحجاج أنه كان يحب سفك الدماء، وممن سُلّط عليهم التابعي الجليل سعيد بن جبير  يرحمه الله.

 

وسبب تصادمه مع الحجاج وتتبع الحجاج له، ما حصل بين الحجاج وبين عبد الرحمن بن الأشعث إذ أمر الحجاج بجعل سعيد بن جبير على نفقات الجند أمينًا عليها يتصرف حسب الحاجة وليحفظ حقوق المسلمين، فهو أمين على ذلك، ولكن ابن الأشعث خلع الحجاج وخرج عن طاعته لجوره وظلمه، وقد بايعه الجند الذين كانوا معه في حربه لرتبيل ملك الترك، وكان من ضمن الجند سعيد بن جبير وقد انتصر الحجاج على ابن الأشعث، فهرب سعيد إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى نائبها أن يبعثه إليه، فلما سمع سعيد بذلك هرب إلى مكة واستقر بها، وكان الحجاج يطارده ويتلمس أخباره، وأشار المحبون لسعيد أن يهرب من مكة، قال: والله لقد استحييت من الله مما أفر ولا مفر من قدره.

 

وأمر أمير مكة خالد بن عبد الله القسري بالبحث عن سعيد فبحثوا عنه حتى وجدوه، وألقوا القيد في يديه على مرأى من بعض أصحابه , وآذنوه بالرحيل إلى الحجاج، فتلقاهم هادئ النفس مطمئن القلب، ثم التفت إلى أصحابه وقال: ما أراني إلا مقتولاً على يدي ذلك الظالم، ولقد كنت أنا وصاحبان لي في ليلة عبادة فاستشعرنا حلاوة الدعاء فدعونا الله بما دعونا وتضرعنا إليه بما شاء أن نتضرع، ثم سألنا الله جل وعز أن يكتب لنا الشهادة، وقد رزقها الله تعالى لصاحبيَّ كليهما وبقيت أنا انتظرها.

 

ثم إنه ما كاد ينتهي من كلامه حتى طلعت عليه بنت صغيرة له فرأته مقيدًا والجند يسوقونه فتشبثت به وجعلت تبكي وتنشج، فأبعدها برفق والعبرة في فؤاده رحمة بها لا جزعًا من الموت، وقال لها: يا بنية قولي لأمك إني أرجو الله أن يجمعنا في الجنة، وإن افترقنا في الدنيا فإن موعدنا الجنة إن شاء الله تعالى... ثم مضى، واطلع الجند على عبادته وزهده وورعه وتقواه، فذهلوا لذلك وقالوا: كيف يقتل مثل هذا وما جنايته إلا الانتقام للنفس، ولعل بعض الجند قد عرض عليه التخلص فأبى مستسلمًا لأمر الله تعالى ومنقادًا له. ولعلمه ويقينه أنه لا يغني حذر من قدر.

فلما وصل سعيد إلى الحجاج وأدخلوه عليه نظر إليه في حقد وغيظ وقال: ما اسمك؟ قال: اسمي سعيد بن جبير.

قال له: بل أنت شقي بن كسير.

فقال: بل كانت أمي أعلم باسمي منك.

فقال: ما تقول في محمد؟

قال: من تعني بمحمد هل تريد الرسول صلى الله عليه وسلم؟

قال: نعم.

قال: وهل يخفى عليك قولي فيه، وهو سيد ولد آدم، النبي المصطفى وليس مثلك يسأل مثلي لأننا جميعًا نؤمن برسالته، ولا يُسأل إلا شاك مرتاب.

قال له: فما تقول في أبي بكر؟

قال: هو الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذهب حميدًا وعاش سعيدًا، وسأله عن عمر، وعن عثمان، وعن علي، وهو يجيب بما اتصف به كل واحد من هؤلاء الكرام البررة صفوة الخلق بعد الرسل الأئمة المهديين الذي رضي الله عنهم ورضوا عنه.

ثم قال له: أي خلفاء بني أمية أعجب لك؟

قال: أرضاهم لخالقهم.

قال: فأيهم أرضى للخالق؟

قال: علم ذلك عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.

قال: فما تقول فيَّ؟

قال: أنت أعلم بنفسك.

قال: أريد علمك أنت؟

قال: إذن يسوؤك ولا يسرك.

قال: لا بد أن أسمع منك.

قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالى، تقدم على أمور تريد بها الهيبة وهي تقحمك في الهلكة، وتدفعك إلى النار.

قال له: والله لأقتلنك.

قال: إذن تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك...

قال: اختر لنفسك أي قتلة شئت؟

قال: بل اخترها أنت لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.

قال: أتريد أن أعفو عنك؟

قال: إن كان عفو فمن الله تعالى.

فدعا الحجاج بالسيف والنطع فتبسم سعيد فقال له الحجاج: وما تبسمك؟

قال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عليك.

قال: اقتله يا غلام .

فاستقبل سعيد القبلة ثم قال: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 8].

قال: احرفوا وجهه عن القبلة.

قال سعيد: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 116].

فقال: كبوه على الأرض.

فقال: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55].

فقال الحجاج: اذبحوا عدو الله فما رأيت أحدًا أدعى للآيات منه.

فرفع سعيد المظلوم كفيه البريئتين إلى الرب القدير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ثم قال: «اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي».

ولم يمض على مصرع سعيد غير خمسة عشر يومًا حتى أصيب الحجاج بالحمى الشديدة، واشتدت عليه وطأة المرض حتى كان يغفو ساعة ويفيق ساعة، فإذا أفاق استيقظ مذعورًا مهزومًا وهو يصيح ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير... ردوا عني سعيد بن جبير، وما بقي إلا أيامًا وهو في عذاب شديد حتى قصم الله ظهره، وأزال ذكره، وأحصى بطشه، وجعله عبرة للمعتبرين.

وقد روي عنه لما مات: أنْ رآه بعض الناس في الحلم فقالوا ما فعل الله بك؟ قال: قتلني الله بكل امرئ قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.

ومضى الحجاج بإثمه ووزره ومرده إلى ربه الذي يقول: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر: 17].

 

منقول مختصرا من كتاب على الباغي تدور الدوائر .