سعدون المـجنـون

 

سعدون المجنون؛ يقال إن اسمه سعيد وكنيته أبو عطاء ولقبه سعدون، من أهل البصرة؛ كان من عقلاء المجانين وحكمائهم، له أخبار ملاح وكلام سديد ونظم ونثر يستحسن، وطوف البلاد، ودونت أخباره. صام ستين عاماً حتى خف دماغه فسماه الناس مجنوناً. استقدمه المتوكل وسمع كلامه، وكان من المحبين لله عز وجل.

 

قال عطاء السلمي: احتبس علينا القطر بالبصرة فخرجنا نستسقي، وإذا بسعدون المجنون، فلما أبصرني قال: يا عطاء إلى أين؟ قلت: خرجنا نستسقي، قال: بقلوب سماوية أم بقلوب خاوية؟ قلت: بقلوب سماوية، قال: لا تبهرج فإن الناقد بصير، قلت: ما هو إلا ماحكيت لك، فاستسق لنا، فرفع رأسه إلى السماء وقال: أقسمت عليك إلا سقيتنا الغيث، ثم أنشأ يقول:

أيا من كلما نودي أجــابا ... ومن جلاله ينشي السحابا

ويا من كلـم الصديق موسى ... كـلاماً ثم ألهمه الصوابا

ويا من رد يوسف بعد ضرٍ ... على من كان ينتحب انتحابا

ويا من خص أحمد واصطفـاه ... وأعطاه الرسالة والكتابا

اسقنا؛ فأرسلت السماء شآبيب كأفواه القرب، فقلت: زدني، قال ليس ذا الكيل من ذا البيدر.

وقال عطاء: رأيت سعدون المجنون ذات يوم يتفلى في الشمس، فانكشفت عورته، فقلت له: استرها يا أخا الجهل، فقال: أما لك مثلها ؟ واستتر ، ثم مر بي يوماً وأنا آكل رماناً في السوق، فعرك أذني وقال  :

أرى كل إنسان يرى عيب غيره ... ويعمى عن العيب الذي هو فيه

وما خير من تخفى عليه عيـوبه ... ويبدو له العيب الـذي لأخيه

وكيف أرى عيباً وعيبي ظاهـر ... وما يعرف السوءات غير سفيه

 

وقال عبد الله بن سويد: رأيت سعدون المجنون وبيده فحمة وهو يكتب بها على قصر خراب:

يا خاطب الدنيا إلى نفسه ... إن لهـا في كل يوم خليل

ما أقبح الدنيا بخطـابها ... تقتلهم عمداً قتــيلاً  قتيل

تستنكح البعل وقد وطنت ... في موضعٍ آخر منه البديل

إني لمغتر وإن البـلى ... يعمل في نفسي قليلاً قليــل

تزودا للموت زاداً فقد ... نادى مناديه الرحيل الرحيل

قال إسماعيل بن عطاء العطار: مررت بسعدون فلم أسلم عليه، فنظر إلي ثم قال:

يا ذا الذي ترك السلام تعمداً ... ليس السلام بضائر من سلما

إن السلام تحيـــة مبرورة ... ليست تحمل قائلاً  أن يـأثما

قال مالك بن دينار دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون فقلت له كيف حالك وكيف أنت فقال: يا مالك كيف يكون حال من أمسى وأصبح يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد ويقدم على رب عدل، ثم بكى بكاء شديداً، قلت ما يبكيك، قال والله ما أبكي حرصاً على الدنيا ولا جزعاً من الموت لكني بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني والله قلة الزاد وبعد المفازة والعقبة الكؤود ولا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنة أو إلى النار، فسمعت منه كلام حكيم.

 

قال ذو النون بينا أنا في أزقة مصر إذا أنا بسعدون المجنون فقلت: قف يا أبا سعيد حتى أنظر فإذا على عكازه مكتوب:

اعمل وأنت من الدنيا على وجل ... واعلم بأنك بعد الموت مبعوث

واعلم بأنك ما قدمت من عمل ... محصى عليك وما خلفت موروث

 

قال: فقلت له أنت حكيم ولست بمجنون، قال أنا مجنون الجوارح ولست بمجنون القلب ثم ولى هارباً.

 

قال خالد بن منصور القشيري قدم علينا سعدون المجنون فسمعته ليلة من الليالي يقول في دعائه: لك خشعت قلوب العارفين وإليك طمحت آمال الراجحين، ثم أنشأ يقول:

وكن لربك ذا حب لتخدمه ... إن المحبين للأحباب خدام

 

قال ذو النون المصري رأيت سعدون في مقابر البصرة وهو يناجي ربه ويقول بصوت عال أحد أحد فسلمت عليه فرد علي، فقلت ألا وقفت، فوقف، ثم قال: قل: قلت أوصني بوصية أحفظها عنك أو تدعو بدعوة فأنشأ يقول:

يا طالب العلم من هنا وهنـا ... ومعدن العلم بين جنبيكا

إن كنت تبغي الجنان تسكنها ... فاسبل الدمع فوق خديكا

وقــم إذا قـام كل مجتهد ... وادعه كي يقول لبيكـا

 

قال محمد بن الصباح خرجنا بالبصرة نستسقي فلما أصحرنا إذا بسعدون يفلي جبة صوف له، فلما رآنا قام وقال إلى أين ؟ قلنا نستسقي المطر، فقال بقلوب سماوية أم بقلوب خالية فقلنا بقلوب سماوية فقال اجلسوا ها هنا فجلسنا حتى ارتفع النهار والسماء لا تزداد إلا صحوا فقال يا بطالين لو كانت قلوبكم سماوية لسقيتم ثم توضأ وصلى ركعتين ولحظ السماء بطرفه وتكلم بكلام لم نسمعه فما استتم كلامه حتى أرعدت وأبرقت وأمطرت مطراً جواداً فسألناه عن الكلام الذي تكلم به فقال إليكم عني إنما هي قلوب حنت فرنت فعاينت فعلمت فعملت وعلى ربها توكلت، وأنشأ يقول:

أعرض عن الفخر والتمادي ... وارحل إلى سيد جواد

ما العيش إلا جوار قــوم ... قد شربوا صافي الوداد

 

عبد الله بن سهل قال كتب سعدون إلى بعض إخوانه أما بعد يا أخي فانه من تعرض لعقوبة الله هوى وشقي ومن تعرض لرضاء الله كفي ووقى فاجعل حظك من دنياك الاشتغال بطاعة مولاك والسلام.

 

كانت وفاة سعدون بعد الخمسين والمائتين، رحمه الله تعالى.