ابتلاء خاتم الأنبياء

إبتلاء وصبر خاتم الأنبياء

صلى الله عليه وسلم

عن مصعب بن سعد عن أبيه سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً ؟ قَالَ : الأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا ، اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ. سنن ابن ماجة

 

وقد ذكر الله تعالى في محكم كتابه الشدة التي جرت على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيما اقتصه من قصة الغار ، فقال سبحانه: " إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) " سورة التوبة، و في سورة الأنعام " قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)" صرح تعالى في هذه الآية الكريمة ، بأنه يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يحزنه ما يقوله الكفار من تكذيبه صلى الله عليه وسلم ، وقد نهاه تعالى عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخر كقوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] الآية ، وقوله : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } [ المائدة : 68 ] ، وقوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] ، وقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] الباخع : هو المهلك نفسه.

 

وروى أصحاب الحديث أيضاً، من شرح حال النبي صلى الله عليه وسلم، في المحن التي لحقته من شق الفرث عليه، ومحاولة المشركين قتله، وما كانوا يكاشفونه به من السب والتكذيب، والاستهزاء والتأنيب ، ورميهم إياه بالسحر والجنون وغير  من أنواع الأذى والافتراء، وحصرهم إياه صلى الله عليه وسلم، وجميع بني هاشم في الشعب، وتخويفهم إياه، وتدبيرهم أن يقتلوه، حتى بعد ، وبيت علياً عليه السلام، على فراشه ... وعمد لثقيف رجاء أن يئووه، فوجد ثلاثة نفر هم سادة ثقيف، وهم إخوةٌ: عَبْدُ يَالَيْلَ بْنُ عَمْرٍو، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَسْعُودُ بْن عَمْرٍو، فعرض عليهم نفسه، وأعلمهم بما لقي من قومه، فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط، وقال الآخر: أعجز الله أن يرسل غيرك؟ وقال الثالث: لا أكلمك بعد مجلسك هذا، لئن كنت رسول الله، لأنت أعظم حقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله، لأنت شر من أكلمك، وهزئوا به، وأفشوا في قومهم ما راجعوه به، وأقعدوا له صفين، فلما مر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما جعلوا لا يرفع رجلا ولا يضع رجلا إلا رضخوها بحجارة قد كانوا أعدوها، حتى أدموا رجليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخلص منهم وعمد إلى حائط من حوائطهم، فاستظل في ظل نخلة منه، وهو مكروب تسيل قدماه بالدماء.

 

روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.

 

وان من بلاءه صلى الله عليه وسلم ما يطول اقتصاصه، ويكثر شرحه، ثم أعقبه الله تعالى من ذلك، بالنصر والتمكين، وإعزاز الدين، وإظهاره على كل دين، وقمع الجاحدين والمشركين، وقتل أولئك الكفرة المارقين والمعاندين، وغيرهم من المكذبين الكاذبين، الذين كانوا عن الحق ناكثين، وبالدين مستهزئين، وللمؤمنين مناصبين متوعدين، وللنبي صلى الله عليه وسلم مكاشفين محاربين، وأذل من بقي بعز الإسلام بعد أن عاذ بإظهاره، وأضمر الكفر في إسراره، فصار من المنافقين الملعونين، والحمد لله رب العالمين