الرِّضا والصبر
قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة :" وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ " ، وفي سورة المائدة : قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) ، وفي سورة التوبة :" وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)" ، " رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) " ، وفي الحاقة :" فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ " ، " وفي طه " فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) "، وفي البينة " جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) " ، وقال تعالى في سورة الفجر: " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).
رَضِيَ ضِدُّ سَخِطَ .
{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }:أي رضي الله عنهم بطاعتهم إياه في الدنيا ورضوا عنه في الآخرة بإدخاله إياهم في الجنة.
{ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } أي: جامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وقد رضوها ولم يختاروا عليها غيرها.
وقيل: الرضا ينقسم إلى قسمين: رضًا به ورضًا عنه، فالرضا به: ربًّا ومدبِّرًا، والرضا عنه: فيما يقضي ويُقدِّر.
الصبر والرضا شعبتان مهمتان من شعب الإيمان , ودليلان أكيدان على حسن إيمان العبد وعلى إقراره بحسن العبودية والتسليم لله وحده .
الصبر: لغة : المنع والحبس، وشرعا : حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك.
وقيل : الصبر شجاعة النفس، ومن هنا أخذ القائل قوله الشجاعة صبر ساعة.
والصبر والجزع ضدان كما أخبر الله تعالى في سورة إبراهيم: " سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21).
وأما الرضا : فهو انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بالألم لكن الرضا يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية, فللعبد فيما يكره درجتان : درجة الرضا ودرجة الصبر ، فالرضا فضل مندوب إليه ، والصبر واجب على المؤمن حتم.
والفرق بين الرضا والصبر أن الصبر حبس النفس و كفها عن السخط مع وجود الألم وتمني زواله ، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع ، والرضا يوافق الصبر في حبس النفس وكف الجوارح ، ويزيد عليه عدم تمني زوال الألم ، ففرح العبد بالثواب وحبه لله عز وجل وانشراح صدره بقضائه يجعله لا يتمنى زوال الألم.
وأما الرضا بالقضاء، فهو فوق حالة الصبر، يكون بعد القضاء لا قبله ، مطمئنًا منشرح الصدر لما نزل به، غير متمنٍ حالة أخرى غير حاله التي عليها.
تقنَّع بما يكفيك والتمس الرِّضا * * * فإنَّك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنَّما * * * يكون الغنى والفقر من قبل الَّنفس
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ « مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا. غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ ». صحيح مسلم
وعَنْ ثَوْبَانَ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:« مَنْ قال حينَ يُمسي : رَضِيتُ بالله ربّا ، وبالإسلامِ دينا ، وبمحمدٍ نَبِيّا ، كان حَقّا على الله أنْ يُرضِيَهُ» أخرجه الترمذي .
كتب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما يقول له: أما بعد، فإن الخير كله في الرضى، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر.
قيل للربيع بن عبد الرحمن:" ما منتهى الصَّبر؟ قال: يكون يوم تصيبه مصيبة مثله قبل أن تصيبه".
قال الفُضَيل بن عِياض: الرِّضا أفضل من الزُّهد في الدنيا؛ لأنَّ الرَّاضي لا يتمنى فوق منزلته.
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : (( أسأَلكَ الرِّضا بعد القضاء ))
سُئِل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسألك الرِّضا بعد القضاء» فقال: لأن الرِّضا قبل القضاء عَزْم على الرِّضا، والرِّضا بعد القضاء هو الرِّضا.
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين : عن حكم الرضا بالقدر ؟ وهل الدعاء يرد القضاء ؟ .
فأجاب قائلا : أما الرضا بالقدر فهو واجب ؛ لأنه من تمام الرضا بربوبية الله ، فيجب على كل مؤمن أن يرضى بقضاء الله ، ولكن المقضي هو الذي فيه التفصيل فالمقضي غير القضاء ؛ لأن القضاء فعل الله ، والمقضي مفعول الله ، فالقضاء الذي هو فعل الله يجب أن نرضى به ، ولا يجوز أبدا أن نسخطه بأي حال من الأحوال .
وأما المقضي فعلى أقسام :
القسم الأول : ما يجب الرضا به .
القسم الثاني : ما يحرم الرضا به .
القسم الثالث : ما يستحب الرضا به .
فمثلا المعاصي من مقضيات الله ، ويحرم الرضا بالمعاصي ، وإن كانت واقعة بقضاء الله ، فمن نظر إلى المعاصي من حيث القضاء الذي هو فعل الله يجب أن يرضى ، وأن يقول : إن الله - تعالى - حكيم ، ولولا أن حكمته اقتضت هذا ما وقع ، وأما من حيث المقضي وهو معصية الله فيجب ألا ترضى به ، والواجب أن تسعى لإزالة هذه المعصية منك أو من غيرك .
وقسم من المقضي يجب الرضا به مثل الواجب شرعا ؛ لأن الله حكم به كونا ، وحكم به شرعا ، فيجب الرضا به من حيث القضاء ومن حيث المقضي .
وقسم ثالث : يستحب الرضا به ، ويجب الصبر عليه ، وهو ما يقع من المصائب ، فما يقع من المصائب يستحب الرضا به عند أكثر أهل العلم ولا يجب ، لكن يجب الصبر عليه ، والفرق بين الصبر والرضا : أن الصبر يكون الإنسان فيه كارها للواقع ، لكنه لا يأتي بما يخالف الشرع وينافي الصبر .
والرضا : لا يكون كارها للواقع فيكون ما وقع ، وما لم يقع عنده سواء ، فهذا هو الفرق بين الرضا والصبر ؛ ولهذا قال الجمهور : إن الصبر واجب ، والرضا مستحب .
أما قول السائل : هل الدعاء يرد القضاء ؟
فجوابه : أن الدعاء من الأسباب التي يحصل بها المدعو ، وهو في الواقع يرد القضاء ولا يرد القضاء ؛ يعني له جهتان ، فمثلا هذا المريض قد يدعو الله- تعالى - بالشفاء فيشفى ، فهنا لولا هذا الدعاء لبقي مريضا ، لكن بالدعاء شفي ، إلا أننا نقول : إن الله -سبحانه وتعالى - قد قضى بأن هذا المرض يشفى منه المريض بواسطة الدعاء ، فهذا هو المكتوب ، فصار الدعاء يرد القدر ظاهريا ، حيث إن الإنسان يظن أنه لولا الدعاء لبقي المرض ، ولكنه في الحقيقة لا يرد القضاء ؛ لأن الأصل أن الدعاء مكتوب ، وأن الشفاء سيكون بهذا الدعاء ، هذا هو القدر الأصلي الذي كتب في الأزل ، وهكذا كل شيء مقرون بسبب فإن هذا السبب جعله الله - تعالى - سببا يحصل به الشيء ، وقد كتب ذلك في الأزل من قبل أن يحدث . "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين"
ثمانيةٌ لا بُدَّ منها على الفتى *** ولا بُدَّ أَنْ تجري عليه الثَّمانيه
سرورٌ وهَمٌ واجتماعٌ وفُرقةٌ *** ويُسْرٌ وعُسْرٌ ثمَّ سَقْمٌ وعافيه