(( . . إن بعض الكتاب " المتبرللين " ، - الذين تركوا صنعتهم
الأصلية . . فأصابتهم نكسة حضارية ونفسية خطيرة ، فأنقلبوا رأسا على عقب ، بغضا
وازدراء للعرب والمسلمين تاريخا وحضارة ، وانبهارا بالغرب حضارة وتاريخا.. إن
نظرة البليهي الى الحضارة الغربية نظرة " ناقصة " و " انتقائية " ، فهي
ناقصة لأنه – كما قال له تركي الدخيل – أنه لم يعش في الغرب ، ومع ذلك بدا شاكرا
لأخلاقهم في تعاملاتهم التي عرفها من خلال ما يقرأ عنهم ، مع أن الأخلاق هي مسألة "
ممارسة " يكشفها الانسان من خلال المساس الاجتماعي اليومي الذي يكشف هذه الجوانب
التي يتشدق بها البليهي ، ولقد ظهرت هذه الأخلاق التي يتحدث
عنها البليهي واضحة جلية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، وكيف انقلبت اخلاق الأمريكان رأسا على عقب ، رامين كل قيمة انسانية وراء ظهورهم ، كاشفين عن
وجوههم القبيحة ، مظهرين حقيقتهم المستترة التي تحكمها " البرجماتية " المحضة ،
والتي تختفي حين تنتفي المصلحة الخاصة للرجل الأبيض ...
إن مثال ثورة " السود " الذي ذكره " الدخيل " ،
قد قفلت الطريق أمام البليهي الملمع للحضارة الغربية ، فاثبات " التمييز العنصري "
الذي لا يزال الى هذه اللحظة حاضرا في الغرب يدل على مدى الاخلاق التي يتمتع بها
المجتمع الغربي ، بينما كانت أسس الاسلام تهدم العنصريات ، وتجعلها من قيم "
الجاهلية " المنتنه ، والتاريخ الاسلامي يشهد على هذا بشكل واضح لمن تأمل في
التاريخ بحيادية وصدق ...
أما جانب " الانتقائية " ، فان ابراهيم
البليهي يختزل التاريخ الاسلامي بالتاريخ " السياسي " للامة الاسلامية ،
والتاريخ السياسي مع ما فيه من مآسي الا أنه ليس بتلك الدرجة التي يضخمها البليهي ،
والذي تنبأ او توقع قتل الخليفة ابي بكر الصديق رضي الله عنه لو استمر في الخلافة
سنوات أخرى ، مع أن قتل الخلفاء الثلاثة كانت لأحداث خاصة لا تعمم على الواقع الراشدي الجميل ، ولو وافقنا ابراهيم البليهي على سوداوية التاريخ الاسلامي ، فمن
الذي قال له ان التاريخ السياسي هو الذي يشكل التاريخ الحقيقي للأمة الاسلامية ،
وكيف يختزل كل التاريخ الاسلامي الحضاري في ممارسات بضع حكام تسلطوا أو تجبروا
بينما يهمل في دراسته للتاريخ الاسلامي التاريخ الحقيقي للأمة المتمثل في :
التاريخ الجهادي للمسلمين ، والذي يتعتبر حضارة خاصة ، وبعدا رائعا نقل الحضارة الانسانية نقلة نوعية ، ففي بضع سنوات
قامت دولة قوية وممكنة ، وانتشر العلم والعلماء والعدل في ربوع الأرض التي وطأها
المسلمون .
· التاريخ العلمي ، والذي يشكل
بعدا مميزا للحضارة والتاريخ الاسلامي ، فالفقه والتاريخ والاصول والعقيدة وتراكمات
عقول العلماء المسلمين في شتي العلوم العلمية والعملية والتطبيقية يعد من أبرز النتاجات التي عرفتها الحضارة الانسانية .
· البعد الحضاري في التاريخ الاسلامي ، والذي نقل الناس الى ابعاد مدنية عظيمة ، في الوقت الذي كانت أوروبا
ترزح تحت حكم الاقطاع والكنيسة والتسلط والجهل والتخلف ..
إن النظرة السوداوية تجاه الحضارة الاسلامية أمر ظاهر في فكر البليهي ، مما جعله غربيا أكثر من الغربيين ،
وليته اذ فعل ذلك عالج قضاياه بعمق وفهم ، فهو كما يقول " مسلم ليبرالي " ، ثم علق
على مفهوم الليبرالية بأنها مناخ وليست فكرا ، وقد رد على نفسه في مقاله الذي قرأه
الدخيل في أن الليبرالية تعتني بالفردية ، والنزعة الفردية هي في اصلها نزعة فلسفية
غربية تؤصل للمنحى الوجودي ، فالليبرالية ليست قضية اجراءات ، ولا وسائل ولا مناخ ،
ومن الضحك على العقول تشبيه الليبرالية بــ " الطائرات
التي تنقل الحجيج " ، فالليبرالية فكرة وسلوكا ومنهجا ورؤية
للكون والانسان والحياة ، ولا يظهر هذا الا بانعكاساتها الاجرائية التي تقضي لا
محالة على محكمات الشريعة واصولها القطعية .
إن من الشواهد على افتتان البليهي
بالحضارة الغربية التي أصبحت ملء سمعه وبصره أنه أنكر حتى الحقائق التي اعترف فيها
الغرب نفسه في أثر الحضارة الاسلامية على الحضارة الغربية ، حيث جعل ما نقله
الغرب من المسلمين هو في اصله غربي ، فتكون بضاعتهم قد ردت اليهم ، ولا يدري أن ضرب
المثال بهذا بكتاب ابن رشد وترجمته لأرسطو مثال فاشل ، فان العلوم التطبيقية هي
التي استفاد منها الغرب أكثر من العلوم العقلية ، وانظر ما يقول ( الدكتورغريسيب )
مدير جامعة برلين ، ورئيس فرع الطب فيها وهو يخاطب طلابا مسلمين :
( أيها الطلاب المسلمون ، والآن وقد انعكس الأمر ، فنحن الاوربيين يجب أن نؤدي ما علينا تجا هكم ، فما هذه العلوم الا امتدادا لعلوم آبائكم
، وشرحا لمعارفهم ونظرياتهم ، فلا تنسوا ايها الطلبة تاريخكم وعليكم بالعمل
المتواصل لتعيدوا مجدكم الغابر ، طالما أن كتابكم المقدس عنوان نهضتكم ما زال
موجودا بينكم وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم ، فارجعوا الى الماضي لتؤسسوا المستقبل ،
ففي قرآنكم علم وثقافة ونور معرفة ، وسلام عليكم يا طلابنا ان كنا في الماضي طلابكم
. )
هذا شاهد من مئات الامثلة التي يقولها قادة الغرب ومفكروه ، اثباتا لقيمة الحضارة الاسلامية التي تنكر لها ابناؤها ، ولم ينصفوها كما انصفها
الغرب نفسه .
إن " المنطق " ليس هو الذي أسس للحضارة
الغربية المعاصرة ، ولا الفكر اليوناني التأملي العقلي ، فإن المنهج التجريبي والذي
أسس للنهضة الغربية المعاصرة لم يكن نتاجا للمنطق ، ولم يكن نتاجا للعقلانية الديكارتية ، ولكنه كان نتاجا للتجرية وتعميق الحس في اكتشاف الحقائق والنظريات ،
وهذا الأمر هو الذي استفاده الغرب من المسلمين ، ففي الوقت الذي كان يغرق
الغرب في عقلانيته ، كان " القرآن " يؤسس لشمول المنهج العلمي الكامل الذي يعمل فيه
العقل والتجربة والحس ، ويجعل كل هذه الجوانب مصادر للمعرفة الانسانية ، ولذا ذكر
بعض الباحثين تأثر مفكري الغرب منذ ديكارت مرورا بروجر بيكون وانتهاء بفرانسيس
بيكون الذي دشن المنهج التجريبي الغربي الحديث الذي قوى البعد المادي عند الغرب
بعلماء المسلمين وخاصة الذين نقضوا المنطق الارسطي أمثال ابن تيمية والغزالي رحمهم
الله ، حيث جعلوا الحس والتجربة مصدرا من مصادر المعرفة الأمر الذي كان الغرب غافلا
عنه ، لاهيا بعقلانية تائهة لا تنتج علما ولا معرفة .
إن الاشكالية عند " البليهي " أنه قرأ التاريخ
الفلسفي الغربي قبل أن يتعمق في دراسة الحضارة الاسلامية ومجالاتها ، فاستلب للغرب
وكره العرب وتاريخهم فمثله كمثل قول الشاعر :
أتاني هواها قبل ان اعرف الهوى ** فصادف
قلبا خاليا فتمكن
نعم .. لقد تمكنت الحضارة الغربية في عقل وقلب البليهي الذي يبدو
في ظاهره " مطوعا " بينما يحمل في طياته فكرا لا يقل عن اشد العلمانيين غلوا في
الحضارة الغربية سلوكا وتاريخا واخلاقا ، والخطورة في هذا تكمن في عد اللحظة
العقلانية الغربية هي اللحظة التي لا بد أن ننطلق من خلالها للمستقبل ، وهي ما تسمى
عند مفكري العصر بــ " القطيعية الابستمولوجية " وهي تعني اللحظة الفاصلة بين
المسلم وبين تاريخه ، والتماهي الكامل في حضارة الغرب التي جعلها البليهي قطعة من "
الأخلاق " الفاضلة التي لا يشوبها وجود الفساد الجنسي والتحلل الأخلاقي ...
إن التركيز على البعد المادي في طرح البليهي يدل على نظرة " ناقصة " للكرامة الانسانية التي ترتقي عن حضيض
المادة الى السمو العقلي والروحي والنفسي ، والذي لم تملكه أمه كما ملكته الحضارة الاسلامية في تاريخها وحاضرها ، بينما تجد ذلك التيه الذي يعيشه الغرب في واقعه
المعاصر ، فالفساد والتشتت الاسري والشذوذ واطقال المفاتيح وغياب الاسرة التي تعتبر محضنا للمجتمعات كافة ، وغياب الهدف في الحياة ، والامراض النفسية والانتحار وغيره
، وكل هذا قد اغفله البليهي وركز على البعد المادي من الحضارة ، وبعض السلوكيات
التي هي اصلا من آثار الانبياء الباقية ، وليست من افرازات الحضارة الغربية
المعاصرة ...
يبدو أنني اطلت .. وان كانت كل فكرة من هذه الأفكار جديرة بأن
تفرد في مقال مستقل .. ولكن يكفي من القلادة ما يحيط بالعنق .... هدى الله البليهي
!!
----------
منتدى الكاشف / دكتور استفهام