الإسهام العربي في علم الهندسة (1)
أخطاء في فهم التاريخ والمنهج
للدكتور محمد الحجيري
الحلقة الاولى الأسس التي قامت عليها مساهمات واضافات العلماء العرب في المجال الهندسي.
1 مقدمة:
أن الاحاطة بموضوع »الاسهام العلمي العربي في الرياضيات« امر في غاية الصعوبة، ويعود ذلك لاسباب منها: اولا: حداثة »تاريخ العلوم« كمادة علمية. فرغم العديد من الدراسات المتفرقة المهمة التي بدأت في القرن التاسع عشر، لم تبدأ الابحاث المنظمة في تاريخ العلوم العربية قبل الخمسينات من القرن العشرين، ولم يتسن بالتالي الكشف سوى عن جزء ضئيل من المخطوطات.
ثانيا: اتساع الفترة الزمنية التي يقع فيها النشاط العلمي العربي (7 قرون، من القرن التاسع حتى القرن الخامس عشر) واتساع الرقعة الجغرافية التي حصل عليها هذا النشاط، وهي رقعة امتدت احيانا من حدود الصين الى اسبانيا.
ثالثا: تعدد المجالات الرياضية التي تطرق لها العلماء العرب وتداخل الرياضيات مع كثير من العلوم الاخرى مثل علم الفلك والجغرافيا والفيزياء وغيرها.
لذا سأكتفي بتناولي لما اسهم به العرب في علم الهندسة مستندا الى الابحاث الاكثر حداثة في هذا المجال تاركا لغيري من الزملاء الحديث عن الاسهامات العربية في فروع الرياضيات الاخرى.
إن ضرورة الدقة العلمية في التعاطي مع الموضوع المطروح تفرض على الباحث تجاوز السمة الثقافية البحتة، التي ارمي إليها في هذه المقالة، للدخول في مقاربات علم دقيق له مواصفاته وقوانينه الصارمة. وهذه الحقيقة تدفعني الى محاولة الموازنة بين تبسيط المسألة من جهة والمحافظة قدر الامكان على حد ادنى من الدقة من جهة اخرى.
2 الخطأ الميتودولوجي في فهم »تاريخ العلوم«:
في البدء لا بد من لفتة سريعة عامة، يراد منها دحض الافكار التي سادت منذ فترة ليست ببعيدة، والتي ادت الى تهميش التطور العلمي في الحقبة العربية، وصولا الى انكاره بالكامل، وذلك بدوافع لا مكان لمناقشتها في هذا المقال. وإن الموضوعية العلمية تفرض علينا التقيد بالحقائق المثبتة علميا عبر دراسة النصوص كي لا نقع في فخ التناقضات ونسهم في تحويل العلم الدقيق »تاريخ العلوم« وغيره ايضا من علوم، الى فولكلور شعبي الغاية منه تمجيد الحدود وصولا الى التعصب العرقي والعنصرية.
لقد سادت الى فترة قريبة افكار (لا يزال بعضها قائما) خلاصتها ان الدور العربي قد اقتصر في احسن الاحوال على ترجمة وحفظ التراث اليوناني لا اكثر. وبغض النظر عن الخلفيات السياسية والعنصرية وغيرها، فهذه الافكار غير علمية لثلاثة اسباب تضاف الى البراهين الفعلية الملموسة التي عثر عليها الباحثون في مخطوطات العلماء من الحقبة العربية:
1 تفترض هذه الافكار امكانية ثبات حركة التطور العلمي ما بين الفترة اليونانية و»عصر النهضة« اي ما يناهز العشرة قرون، وهذا الامر يغالط ويناقض قوانين التطور.
2 تهمل هذه الافكار كون التطور العلمي مرتبط بالحاجة والضرورة وبمبدأي السببية والحتمية العلمية، وهو مستقل عن انتماء الناس وألوانهم وقومياتهم.
3 تتلازم هذه الافكار مع خطأ ميتودولوجي بديهي، لان تاريخ العلوم هو بالاصل، علم يرمي الى تلمس واكتشاف القوانين العامة والخاصة التي تحكم تطور العلوم وتبلورها بمعزل عن انتماء مكتشفيها او جنسيتهم. فالحقيقة العلمية موضوعية ومستقلة عن آراء الناس فيها، وذلك بالطبع لا يتعارض مع ظاهرة اعتداد الشعوب بعلمائها وتراثها العلمي. فالعلم تراث إنساني شمولي، يتعدى حدود اللون والجنس والدين، ويكاد يختصر تاريخ الحضارة الانسانية المعرفية برمتها، لان قوانين العلم هي الصورة المجسِّدة للقوانين الطبيعية الملموسة، التي تحكم الكون والتي يملي الواقع الملموس على الكائنات العاقلة التعاطي معها، وسبر اغوارها بغية تيسير سبل العيش والاستمرار في الحياة. تمثل العلوم الحقائق النسبية التي بمجملها تعبّر عن الحقيقة المطلقة الكامنة ولذلك فالعلوم (بما فيها تاريخ العلوم) مستقلة عن الذات. ومن المناقض للمنطق السليم ان نربط اكتشاف الحقائق العلمية بقومية او بجنس. ان الوصول الى الحقيقة العلمية مشروط قبل كل شيء بحاجة الناس (بالمعنى الشمولي للكلمة) الى هذه الحقيقة وذلك قد يكون مع فارق ملحوظ بالزمن احيانا، ولكن هذا الفارق الزمني غير كاف لدحض العلاقة الشرطية بين الضرورة والاكتشاف. وتشير كل نتائج تحقيق المخطوطات العربية ودراستها على يد عدد كبير من العلماء العرب والمستشرقين (من وبكيه الى يوشكيفيتش ورشدي راشد وعادل انبوبا وريجيس مورلون وغيرهم) لتؤكد ان للعرب دورهم الكبير في تطوير العلم وان هذا الدور غير مرتبط (على ما اعتقد) بميزة معينة تخص الشعوب التي عاشت في ظل الحكم العربي، انما مرتبط بضرورات اقتصادية اجتماعية. وهذا الدور يخضع لمبدأي السببية والحتمية.
3 علم الهندسة في الحقبة العربية:
يتناول مقالنا هذا اسهام علماء الحقبة العربية في بعض مجالات علم الهندسة ولا يطمح الى تغطية الموضوع بالكامل لان هذا الامر غير ممكن كما ذكرنا في المقدمة. وسوف اتناول جزءا مما اسهم به العلماء العرب، مرتكزا اساسا الى »موسوعة تاريخ العلوم العربية«، التي وضعت تحت اشراف العالم المعروف رشدي راشد، وقد قامت مجموعة من اعضاء فريقنا »فريق الدراسة والبحث في التراث العلمي العربي« بترجمتها الى العربية، وقد صدرت عن »مركز دراسات الوحدة العربية« في بيروت سنة 1997 بثلاثة مجلدات.
لقد لعب علماء الحقبة العربية دوراً مهما في بلورة ودراسة مجالات عديدة من علم الهندسة، يقول بوريس روزنفيلد وادولف يوشكيفيتش في هذا المجال: »تعود الآثار الهندسية الاولى المكتوبة العربية الى أواخر القرن الثامن واوائل القرن التاسع، واللغة العربية التي اعتمدها، بشكل عام، علماء البلاد الاسلامية منذ انطلاق نشاطهم، كانت اداة التعبير في علم الهندسة. وهذه الكتابات تؤكد بشكل واضح ان التقاليد القديمة: التقليد الاغريقي والهلينستي والتقليد الهندي الذي اتبع ايضا وجزئيا التقليد الاغريقي اثرت بشكل مهم في الهندسة وفي فروع رياضية اخرى كما في العلوم الدقيقة بشكل عام. وعلى الرغم من اهمية هذا التأثير فإن الهندسة العربية اكتسبت، ومنذ المراحل الاولى لنموها، خصائصها المميزة التي تتعلق بموقعها في منظومة العلوم الرياضية، وبترابطها مع سائر فروع الرياضيات على الاخص مع الجبر وبتفسيرها للمسائل المعروفة وبطرحها للمسائل الجديدة كليا. فبدمجهم لعناصر الارث الاغريقي وباستيعابهم لمعارف امم اخرى أرسى العلماء العرب أسس توجهات جديدة للافكار الهندسية واغنوا، بفكرهم الخاص، المفاهيم التي اعتمدوا، فإذا بهم يخلقون نوعا جديدا من الهندسة ومن الرياضيات عامة«.
تناولت نشاطات الرياضيين العرب في علم الهندسة جميع مجالات هذا العلم، التي يمكن تقسيمها الى الفصول التالية: أسس الهندسة، نظرية المتوازيات، الطرق الجبرية في علم الهندسة (الهندسة الجبرية)، الحسابات الهندسية، البناءات الهندسية، التحويلات الهندسية، الاسقاطات الهندسية، الهندسة الكروية... وذلك عدا عن مجالي علم المثلثات وحساب اللامتناهية في الصغر، حيث تستعمل الطرق الهندسية ايضا. وقد شهد هذان العلمان تطورا كبيرا في الفترة العربية.
نقتصر مقالنا هذا على الفصل المتعلق بأسس الهندسة ونظرية المتوازيات.
4 أسس الهندسة ونظرية المتوازيات.
الهندسة في اصول اقليدس: يحتوي مؤلف اقليدس (300 ق.م) »الاصول« على ثلاثة عشر كتابا. يبدأ كل كتاب منها بتحديدات المفاهيم الاساسية ثم يعرض الموضوعات والمصادرات وينتقل بعدها الى الاحكام ومنها المبرهنات. تعالج الكتب الستة الاولى الهندسة المسطحة وتتناول الكتب الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، الهندسة الفضائية. يحتوي الكتاب الاول من اصلو اقليدس ثلاثة وعشرين تحديدا علاوة على تسع موضوعات وست مصادرات وهي تشكل اساس الهندسة الاقليدية وذلك اضافة الى مجموعة من الاحكام المتعلقة بمفهوم التوازي.
التحاديد: يبدأ الكتاب الاول لاقليدس بعرض ثلاثة وعشرين تحديداً، سوف نستعرض بعضها:
1 النقطة هي ما ليس له اجزاء. 2 الخط هو طول دون عرض. 3 اطراف الخط هي نقاط. 4 المستقيم هو قائم بالتساوي على نقاطه. 5 السطح هو ما ليس له غير الطول والعرض. 6 اطراف السطح هي خطوط. 7 المسطح هو سطح قائم بالتساوي على كل خطوطه المستقيمة... وصولا الى التحديد 23:
23 المتوازيان هما خطان مستقيمان موجودان في نفس المسطح، عند مدهما الى ما لا نهاية من جهة واخرى فانهما لا يلتقيان لا من جهة ولا من اخرى.
لا شك بأن هذه التحديدات تأتي من تصوّر اكيد للفضاء الملموس واشيائه فإنها تستعمل مفاهيم تعتبرها اولية في حين ان هذه المفاهيم تفتقر الى التحديد الدقيق ايضا ولذلك فإن هذه التحديدات ليست فعلية بالمعنى المطلق انما ترتكز الى الحدس وتعبّر عن و»وصف« لكائنات هندسية.
الموضوعات (او المفاهيم المشتركة): 1 المقادير المساوية لنفس المقدار متساوية في ما بينها. 2 ان اضافة مقادير متساوية الى مقادير متساوية اخرى يؤدي الى الحصول على مقادير متساوية. 3 ان اقتطاع مقادير متساوية من مقادير متساوية اخرى يؤدي الى الحصول على مقادير متساوية. 4 ان اضافة مقادير متساوية الى مقادير غير متساوية يؤدي الى الحصول على مقادير غير متساوية. 5 ان اقتطاع مقادير متساوية من مقادير غير متساوية يؤدي الى الحصول على مقادير غير متساوية. 6 المقادير التي تمثل ضعفين لنفس المقدار تكون متساوية فيما بينها. 7 المقادير التي تمثل نصف مقدار ما تكون متساوية فيما بينها. 8 المقادير التي تتطابق فيما بينها تتساوى. 9 الكل اكبر من الجزء.
مصادرات اقليدس:
المصادرة الاولى: من كل نقطة يمكن ان يمد مستقيم الى اي نقطة ثانية.
المصادرة الثانية: كل مستقيم قابل للمد الى ما لا لانهاية.
المصادرة الثالثة: من اي مركز كان وبأي مسافة كانت يمكن تكوين دائرة.
المصادرة الرابعة: كل الزوايا القائمة متساوية فيما بينها.
المصادرة الخامسة: اذا وقع مستقيم على مستقيمين وكان مجموع الزاويتين الداخليتين على جهة واحدة من القاطع اقل من زاويتين قائمتين، واذا مد المستقيمان بغير حدِّ فإنهما يلتقيان في الجهة التي يكون فيها مجموع الزاويتين أقل من زاويتين قائمتين.
إعداد م/عارف سمان - موقع مركز المدينة للعلم والهندسة