تكنولوجيا الفضاء واستكشاف المياه الجوفية
في الصحارى العربية
أ. د. مسلم
شلتوت
المعهد
القومي للبحوث الفلكية
حلوان - مصر
الرادار المحمول لاستكشاف المياه على كوكب المريخ |
كان لتكنولوجيا الفضاء مردودها الاقتصادي الكبير في التنمية على كوكب الأرض خلال العقود الاخيرة من القرن العشرين وسوف تزداد خلال القرن الحادي والعشرين. |
وكان لمحاولة استكشاف المياه على كوكب المريخ عن طريق الرادار المحمول على اقمار صناعية تدور حول الكوكب (اقمار مدارية) حيث كانت منذ ملايين السنين مياه وفيضانات هائلة على كوكب المريخ بدليل وجود الأودية الجافة التي تشبه الى حد بعيد الأودية الجافة الموجودة بالصحارى في الارض.. لكن نتيجة لتغيرات في مناخ هذا الكوكب فقط هبطت بشدة درجة حرارة الغلاف الجوي، كما ان هذا الغلاف اصبح رقيقا للغاية وجافا.
ويعتقد العلماء في
وكالة الفضاء الاميركية «ناسا» ان
الماء الموجود على سطح المريخ حاليا
على هيئة ثلوج مدفونة تحت طبقة من
الرمال يبلغ سمكها عدة امتار وتختلف
من مكان لآخر نتيجة لوجود عواصف
رملية في المريخ تشبه العواصف
الرملية على الارض كعواصف الخماسين
بمصر. ويمكن لهذا الرادار ان يعطي
صورة لما هو تحت الرمال على عمق عدة
امتار اثناء دورانه محمولا على قمر
صناعي حول المريخ. وكانت الطريقة
الاخرى للتأكد من وجود المياه تحت
الطبقة الرملية في المريخ هي انزال
اجهزة مغناطيسية متطورة Magnetic
Coil مع احدى سفن الفضاء التي ستهبط على
سطح المريخ لقياس المغناطيسية لعدة
امتار في عمق تربة المريخ ومنها يمكن
معرفة التركيب التحتي لهذه التربة،
وكذلك انزال اجهزة كهرومغناطيسية Electromagnetic
Sounder وذلك لقياس المجال الكهربي لعدة
امتار في عمق تربة المريخ ومنها يمكن
معرفة التركيب التحتي للطبقات
الحاملة للمياه الجوفية وكمية هذه
المياه ومعدل سريانها اذا كانت سائلة
أو في حالة حركة. ولقد ثبت من هذه
الارصاد وجود المياه تحت الرمال في
الأودية الجافة بالمريخ وليست عند
الاقطاب فقط كما يبدو في الصور
الملتقطة لكوكب المريخ سواء
بالاقمار الصناعية او بالتلسكوبات
البصرية من الارض. ولقد حاول علماء
الجيولوجيا الفضائية المتقدمة في
استكشاف المياه في الصحارى على الأرض
وذلك عن طريق استخدام رادارات محمولة
على أقمار صناعية تدور حول الارض في
مدارات محددة.
ولقد تمت الاستفادة من
هذه التقنية الجديدة والمتقدمة في
استكشاف المياه الجوفية في الصحارى
العربية فقط اتضح وجود أودية قديمة
جافة مدفونة تحت الرمال في الصحراء
الكبرى بشمال افريقيا. فمنذ ملايين
السنين كانت هناك فترات مطيرة وفترات
قحولة متتالية على هذه الصحراء تبعا
للتغيرات المناخية طويلة وقصيرة
الأمد على عمر كوكب الارض حيث كانت
تهطل الامطار الغزيرة في منطقة جنوب
الصحراء، وبعد تجمع هذه المياه كانت
تجري في اودية نحو الشمال، وكان هطول
هذه الامطار يفتت الحجر الرملي
النوبي ويحمله معه ثم يرسبه في
المستنقعات في الاراضي الواطئة في
الشمال. وبعد ان تغير المناخ واصبحت
هذه الصحراء قاحلة بعد ان كانت منطقة
سافانا تعج بالحياة النباتية
والحيوانية وينعم الانسان فيها بصيد
الحيوانات، جفت البرك والمستنفعات
وبدأ تأثير الرياح في هذه الرمال
المترسبة في قاع البرك والمستنقعات
القديمة وتحريكها بحيث انها تأخذ شكل
ما يسمى بالكثبان الرملية. لذلك فإن
النظرية الحديثة هي ان الرمال في
الكثبان الرملية جاءت في الاصل من
عملية نحر للصخور النوبية الرملية
بالامطار والمياه قبل ان تلعب بها
الرياح بعد تغير المناخ وانتهاء
العصر المطير الاخير، لذلك فقد وجد
ان كل منطقة كثبان رملية يكون اسفلها
واد قديم وفي اعماق هذا الواادي توجد
المياه الجوفية بعد ان تسربت من سطح
الارض الى باطنها. ولقد ثبتت صحة هذه
النظرية لمنطقة جنوب الصحراء
الغربية لمصر ومنطقة الواحات حيث
تبين وجود انهار قديمة في هذه
المناطق في العصور المطيرة ولكنها
مغطاة بالرمال ولم يكتشفها الا
الرادار المحمول بالأقمار الصناعية
لذلك تسمى Radar Rivers.
كذلك اتضح وجود انهار
قديمة عن طريق المسح الراداري من بعد
في منطقة الكفرة جنوب صحراء ليبيا.
كما امكن من هذه التقنية الفضائية
المتقدمة تحديد الدلتا القديمة
لوادي النيل التي كانت قاعدتها تمتد
من الفيوم حتى الاسماعيلية حاليا حيث
ان الدلتا الحديثة كانت جزءا من قاع
البحر الابيض المتوسط منذ ملايين
السنين.
ولم تكن الصحراء
الكبرى في شمال افريقيا هي الوحيدة
التي تم فيها اكتشاف الانهار القديمة
المدفونة تحت الرمال بواسطة الرادار
المحمول بل ان صحارى شبه الجزيرة
العربية وجدت بها اودية جافة وانهار
قديمة مدفونة تحت الرمال في شمال
الجزيرة وجنوبها، كما امكن دراسة
منطقة الربع الخالي بالمملكة
العربية السعودية ومنطقة صحار
بسلطنة عمان وتحديد الانهار القديمة
فيها بدقة تحت الكثبان الرملية
القاحلة واكتشاف قلعة قديمة في تلك
المنطقة عن طريق استخدام رادار ارضي
يسمى GeoRadar يعتقد انها
مدينة «إرم ذات العماد التي لم يخلق
مثلها في البلاد»، والتي ورد ذكرها
في القرآن الكريم. مما يعتبر انجازا
علميا كبيرا.. عندما يحدثنا القرآن
الكريم عن تلك الحضارات الراقية في
الأزمنة الغابرة لقوم عاد الساميين
وهم من العرب البائدين وعن النعيم
والجنات وارفة الظلال التي كانوا
يحيون فيها قبل تغير المناخ وتحول
هذه البقاع الى مناطق صحراوية قاحلة
تعوي فيها الرياح.
لقد بدأت العديد من
الدول العربية التي تعاني من ندرة في
المياه في استخدام هذه التكنولوجيا
الفضائية المتقدمة للرادار المحمول
مع القياسات المغناطيسية بأجهزة Magnetic Coil والقياسات الكهربية
بأجهزة Electromagnetic Sounder في استكشاف
ثرواتها من المياه تحت السطحية
والجوفية وتحديد كميات هذه المياه
ومعدل تصرفها وتسربها خلال الصخور في
الطبقات الحاملة لها وذلك لتنمية
المناطق الصحراوية واستزراعها في
مشاريع قومية كبيرة كمشروع النهر
الصناعي العظيم في ليبيا ومشروع جنوب
الوادي (توشكى) بمصر ومشاريع تنموية
اخرى في دول الخليج العربي.
وهناك الآن قمر صناعي
يجري تصنيعه بالاشتراك مع وكالة
الفضاء الاميركية «ناسا» والمركز
الالماني للطيران والفضاء DLR يسمى GRACE (Gravity Recovery and Climate
Experiment) ومهمة هذا القمر هي دراسة
التغيرات التي تحدث في الجاذبية
الأرضية نتيجة للتغيرات في المناخ
وفي المياه السطحية والجوفية لبعض
المناطق على كوكب الارض. وقد تم
اختيار منطقة الصحراء التي في جنوب
غرب مصر (منطقة شرق العوينات) كمكان
مثالي لاجراء التجارب بواسطة هذا
القمر الجديد من خلال تعاون علمي
مصري - اميركي لعلماء مصريين
واميركان متخصصين في علوم
الميتيورولوجيا (المناخ)
والهيدرولوجيا (المياه). وكاتب
المقال هو واحد من الفريق البحثي
الذي سيعمل في هذا المشروع الهام حيث
ان له ما يزيد عن خمس وعشرين بحثا عن
مناخ وهيدرولوجيا منطقة شرق
العوينات وكيفية استخدام الطاقة
الشمسية في تنمية هذه المنطقة
النائية.
وسوف ينطلق القمر
الصناعي GRACE الى الفضاء
في يونيو 2001 ومع بداية عام 2002 سوف
يبدأ فريق العمل البحثي في تحليل
الارصاد المأخوذة بهذا القمر
لاستخلاص النتائج وامكانية قياس
الجاذبية الارضية بدقة عالية بواسطة
هذا القمر الصناعي. وسوف يستلزم ذلك
اجراء دراسة حقلية لمنطقة شرق
العوينات لقياس الجاذبية الارضية
والضغط الجوي والمياه الجوفية
وتغيرات كل منها وتأثير ذلك في مقدار
الجاذبية المقاسة بالقمر الصناعي GRACE لتبيان دقة القياس للجاذبية الارضية
من الفضاء الخارجي عن طريق هذا القمر
قبل تعميمها على باقي مناطق العالم.
وقد تم اختيار منطقة شرق العوينات في
جنوب غرب مصر على أساس انها تعتبر أجف
المناطق الصحراوية في العالم، حيث
يؤدي ذلك الى ان يكون التغير الشهري
في مقدار المياه الجوفية اقل من واحد
سنتيتمر في المستوى الاستاتيكي وهذه
قيمة تعتبر صغيرة ويمكن اهمالها عند
اجراء التجارب.
اذن فلابد من ان تكون
التغيرات المناخية والمياه الجوفية
اقل ما يمكن حتى يضمن نجاح التجربة.
وسوف تنظم بعثة علمية
مصرية - اميركية لعمل الآتي:
1 - قياس الضغط الجوي
بواسطة ثلاثة بارومترات حديثة في
منطقة شرق العوينات وبحساسية عالية
ولفترات زمنية مناسبة.
2 - تجميع اي ارصاد
للضغط الجوي تم اجراؤها عن طريق
الهيئة العامة للأرصاد الجوية
المصرية لمنطقة شرق العوينات
والمناطق المحيطة بها خلال السنوات
الأخيرة.
3 - تجميع أي قياسات عن
التغيرات الشهرية في المياه لمنطقة
شرق العوينات كقياس كمية الندى
المترب في الصباح الباكر وتسجيلات
مستويات آبار المياه وكمية الرطوبة
في التربة. واذا لم تكن هذه القياسات
متوافرة وكافية للفترة الماضية فسوف
تقوم البعثة باجراء هذه القياسات
لفترات زمنية مناسبة حتى يمكن معرفة
التغير الشهري في مستوى المياه
الجوفية وبالتالي التغير في الكتلة
والجاذبية.
4 - تجميع ارصاد عن
فيضان النيل في السنوات الاخيرة
وتغير منسوب المياه في بحيرة ناصر،
وسوف تستخدم هذه الارصاد في استنباط
التغير في كتلة المياه السطحية.
5 - تجميع ارصاد عن المد
والجزر على طول شاطئ البحر المتوسط
والبحر الاحمر لاستنباط التغير في
كتلة مياه البحار والمحيطات. وسوف
يكون لمشروع القمر الصناعي GRACE
مردوده الاقتصادي الكبير على مستوى
العالم بصفة عامة والصحارى العربية
بصفة خاصة بعد ثبوت دقة قياسه
للجاذبية الأرضية، حيث يمكن استخدام
ارصاده بعد ذلك في دراسة المياه
الجوفية وتغيراتها الشهرية وتحديد
كمية المخزون منه والطريقة المثلى
للتصرف فيه واستخدامه في المناطق
الصحراوية النائية سواء باستزراع
الاراضي او اقامة المراعي والنشاط
الصناعي والعمراني واقامة مجتمعات
عمرانية وسكانية جديدة وسط الصحراء
القاحلة تصبح من ضمن مصادر زيادة
الانتاج والدخل القومي للبلاد
العربية.
ونظرا لأن هذه المناطق
بعيدة ونائية في معظم الاحيان عن
الشبكة القومية للكهرباء لكل بلد
عربي فان توفير الطاقة اللازمة لضخ
هذه المياه لابد من ان تكون متوافرة
من مصادر اخرى، ونظرا لأن هذه
المناطق الصحراوية تتمتع بسطوع عال
للشمس ودخل كبير من الطاقة الشمسية
حيث يصل في بعض المناطق الى الفين
وخمسمائة كيلووات/ساعة على المتر
المربع في العام وقد يزيد. فان
استخدام الخلايا الشمسية بانواعها
المختلفة البلورية واللابلورية
والمجمعة في الواح كهروشمسية هي
الوسيلة لتحويل الطاقة الشمسية الى
طاقة كهربية مباشرة لضخ المياه
وتنمية هذه المناطق الصحراوية
النائية فضلا عن ان الطاقة الشمسية
طاقة متجددة بديلة ونظيفة وهي في هذه
المناطق النائية طاقة منافسة
للطاقات التقليدية من الناحية
الاقتصادية الآن وفي المستقبل.
ولا ننسى ان الخلايا
الشمسية والألواح الكهروشمسية هي
نتاج تكنولوجيا الفضاء ففي نهاية
الخمسينات كانت هناك حاجة لبعض
المصادر لتزويد اجهزة الاقمار
الصناعية بالطاقة وهي في الفضاء
الخارجي، لذلك اوجدت فيزياء الجوامد
هذا النوع المتقدم من التكنولوجيا
لتزويد الاقمار الصناعية بطاقة
كهربية مباشرة عن طريق استخدام
الألواح الكهروشمسية وفردها كأجنحة
للقمر الصناعي وكانت في البداية
مكلفة للغاية حيث كان يزيد ثمن
الخلية الشمسية التي تعطي وات واحدا
من الكهرباء عن اربعين دولارا وظل في
تناقص مستمر حتى وصل الى اقل من أربعة
دولارات للخلية التي تعطي وات واحد
مع نهاية القرن العشرين مما ساعد في
استخدام هذه التكنولوجيا الفضائية
في تطبيقات ارضية كثيرة ومنها ضخ
المياه بالمناطق النائية وبالذات
الصحراوية التي تتمتع بسطوع عال
للشمس.
وهكذا فإن تكنولوجيا
الفضاء التي وجدت الكثير من الأصوات
المعارضة للأموال الباهظة التي كانت
تتفق عليها خلال النصف الثاني من
القرن العشرين، اصبح لها مردود
اقتصادي كبير في كافة الاغراض
والمجالات على الارض وبالذات في
تنمية الصحارى واستكشاف ما في جوفها
من ثروات معدنية وبترولية وخزانات
للمياه الجوفية.
وكانت الكثير من
البلاد العربية من اول المستفيدين من
هذه التكنولوجيا الفضائية المتقدمة
في تعمير وتنمية صحاريها واستغلال
ثرواتها المدفونة تحت الرمال.
م/عارف سمان
©موقع مركز المدينة للعلم والهندسة - اتصل بنا لأي مشكلة أو اقتراح |