التعليم المستمر عبر التاريخ:
لقد نادت الحضارات القديمة والديانات السماوية بفكرة التربية المستمرة كمطلب وضرورة لاستمراريتها وتعاقبها عبر الأجيال ، وقد كانت التربية في المجتمعات البدائية تهدف بشكل أساسي إلى تنمية القابلية لمعطيات العصر إذ كانت تعيش على نمط معين من التعليم في المراحل الأولى من العمر تكمن أهدافه الأساسية في معرفة مبادئ العيش وحفظ النفس والدفاع عنها من الأخطار التي قد تحيط بها، وقد نحت العملية التعليمية في ذلك الوقت منحى يرتكز هدفه الرئيس في مواجهة الحياة والتغلب على مصاعبها والبحث عن المطالب الأساسية للعيش بشكل يحاكي فيه الشباب الكبار في أعمالهم من حيث استخدام السلاح ، وتعلم فنون الصيد وركوب الخيل وبناء المسكن وتوفير الغذاء ، وهي أمور لها الاستمرارية التي لا تنقطع لضرورتها في استمرار الحياة ذلك الوقت .
وبعد أن أصبحت المدارس مؤسسات تهدف إلى نقل مفردات التراث الثقافي والمادي لم تكن تختلف كثيرا عن التربية والتعليم ي الحياة البدائية للإنسان من حيث المنهج الذي كان يهدف إلى نقل التراث من قيم وعادات ومهارات من الأجداد إلى الأحفاد ، فنجد أنه في التربية اليونانية يتم إعداد المحارب إعداداً خاصاً بعد الدراسة الأولية وذلك بتدريبه على عدة أمور في مجاله.
أما عند الصينين فقد كان لزاماً على من يروم ارتقاء المناصب العلية أن يجتاز جملة من المراحل التعليمية والتربوية البالغة الدقة والصعوبة فيما يتعلق بالتاريخ الصيني وخاصة الكونفوشية ، وقد يستغرق مروره بهذه المراحل جزءا ليس باليسير من مراحل حياته ، وعلى الموظف الاستمرارية في التعلم ومن الأقوال المأثورة والمأخوذة من بعض الكتابات القديمة في القرن الثاني الميلادي " إن العقلاء يبحثون عن المعرفة كأنهم لن يموتوا أبداً ، أو لن يشيخوا، ويحصلون على الفضل كأنهم سوف يموتون غداً" وهو أيضا قول مأثور عن أحد الصحابة رضوان الله عليهم .
وهكذا تستمر التربية المستمرة أو التعليم المستمر في المسيرة عبر التاريخ مرتدية ثوب الزمان الذي تعاصره ، حتى تصل إلى فجر الحضارة الإسلامية التي جعلتها أساسا من أسسها ، فنجد أن الدين الإسلامي الحنيف وما تبعه من حضارة ملأت الشرق والغرب وبثت النور في كل نواحي الظلمة والظلام ، قد دعا إلى فكرة "التربية المستمرة" _ اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد _ وقد كان التركيز على النمو في مجالات العلم والثقافة جليا وواضحا ، فالعلم يعد من أهم دعائم الدين وطلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة ، وهو فرض لا تحده الزمكانية .
وقد أكد الدين الإسلامي على ضرورة التعليم المستمر في حياة المسلم لمواجهة تحديات الزمان والوصول إلى أرقى مراحل الإيمان وتحقيق قول المولى عز وجل " إنما يخشى اللهََ من عباده العلماء " وبذلك يشير الله تعالى في كتابه الكريم " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " " وقل ربي زدني علما" " وفوق كل ذي علم عليم" .
كما أشارت إلى ذلك السنة النبوية المطهرة في مواضع مختلفة : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد " " طلب العلم فريضة على كل مسلم مسلمة " " من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقا إلى الجنة " وكل هذه الأحاديث الحاثة على طلب العلم غير محدودة بزمان أو مكان ، مما يدل على ضرورة استمرارية التعليم لما تحققه من تمكين للفرد في حفظ دينه ودنياه فيعمل لدنياه كأنه يعيش إلى الأبد ولآخرته كأنه يموت غداً ، وفي استمرار التربية والتعليم ضمان لاستمرارية القيادية والتقدم والوقوف خلف مقود السفينة بكل تمكن للوصول بكل آمان .
ولمعرفة سر اهتمام التربية الإسلامية بالتعليم المستمر يجب علينا أن ننطلق من الصفات الخاصة التي تميزت بها هذه التربية وهي :
1- التربية الإسلامية تربية مطلقة : من حيث الزمكانية ، فهي ليست محصورة بمرحلة عمرية معينة ولا حقبة زمنية محددة ، بل ممتدة من المهد إلى اللحد ، وهذا الأمر هو ما تدعو إليه التربية المعاصرة وتضعه ضمن أولوياتها ، والمكان مطلق " اطلبوا العلم ولو في الصين" " الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها "
2- تربية تتلاءم مع تغيرات نمو الأفراد وأعمارهم : ففي مرحلة الطفولة تختلف الأساليب في التربية عن الأساليب المستخدمة مع الأعمار الأخرى كما تختلف مع نفس الأعمار في الأجيال المختلفة وفقا للظروف المحيطة ، فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك في قوله " إنهم خلقوا لزمان غير زمانكم " .
3- تربية تستهدف تكوين المجتمع : فهي تحث أفراد المجتمع على التعلم وبث ذلك في المجتمع بشكل عام ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة " إشارة إلى ذلك ،ولا يفوتنا التأكيد على أن التعلم يشمل المعلم والمتعلم على حد سواء كي تتحقق القدرة على مواكبة التغيير ، وبناء المجتمع المتقدم .
4- تربية شاملة للإنسان : لا تفرق بين من هو صغير أو كبير ، ذكر أو أنثى ، سليم أو معاق ، فهي أمر مطلق ، كانت لدى الكتاتيب وفي الجوامع والمساجد وعند العلماء والوراقين والأسواق وغير ذلك ، وكذا لم تغفل التربية الإسلامية نصيب المرأة من العلم والتعلم يقول الله تعالى " تعلمونهن مما علمكم الله " ويقول الرسول صلى الله عله وسلم " ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم" .
من كل ما سبق نخلص إلى أن التعليم المستمر راسخ في رواسخ حضارتنا الإسلامية نادت به لكل أفراد المجتمع دون تفريق ، وما التسميات الحديثة من تربية مستمرة أو دائمة أو متواصلة إلا فكر قديم بثوب معاصر وجديد.
أما في العصر الحديث فالتربية المستمرة أو التعليم المستمر يعود بجذوره إلى المفكر كومنيوس الذي نادى في كتابه "فن التعليم الأكبر" إلى تربية عامة لكل المهنيين وجميع طبقات المجتمع لا فرق في ذلك بين رجل وامرأة ولا غني وفقير ، لأن في ذلك تحرير لهم من السلبية ، وزيادة لإنسانيتهم التي تنمو بالعقل والفكر والعمل. وقد رفع كومينوس شعارا يردده التربويون وهو " تعليم الكل للكل بشكل كلي ".
وفي الوقت الحاضر نضجت فكرة التعليم المستمر واتضحت مفاهيمه على المستوى العالمي وها هي الدول تسعى إلى إيجاد الإمكانات المناسبة التي تخدم هذا التعليم وتلبي متطلباته إيمان منها بقيمته في مواجهة هذا العصر الذي يوصف أقل ما يوصف أنه انفجار معرفي وعصر سرعة ، لذا نرى بعض نماذج الجامعات المفتوحة والدراسة عن بعد وعن طريق المراسلة والتدريب المستمر لمن هم على رأس العمل ...الخ ) وما إلى ذلك من سبل تحقق أهداف هذا التعليم التي تسعى إلى مواكبة التنمية والتطور السريعين .
ولعلنا نتطرق لاحقاً بشيء من الإيضاح إلى أهداف " التعليم المستمر" والتي تتقولب بقالب خدمة المجتمع وتنصب في هذا المجال .