أولوية الفرائض على السنن والنوافل ومن المعلوم ـ في مجال الفروع ـ أن الأعمال تتفاوت في رتبة طلبها من جهة الشرع تفاوتا بينا. فمنها: المأمور به على جهة الندب والاستحباب. ومنها: المأمور به على جهة الفرض والإيجاب. ومنها: ما هو بين بين (ما كان فوق المستحب ودون الفرض، ويسميه بعض الفقهاء: الواجب). ومن الواجب المفروض: ما هو مفروض على الكفاية، والمراد به: ما إذا قام به فرد أو عدد كاف سقط الإثم عن الباقين. ومنه ما هو فرض عين، وهو ما يتوجه فيه الخطاب إلى كل مكلف مستوف لشروطه. وفروض الأعيان نفسها تتفاوت، فمنها ما نسميه: "الفرائض الركنية" التي عدت من أركان الإسلام، مثل الشعائر العبادية الأربع: الصلاة والزكاة والصيام والحج. ومنها ما ليس كذلك. قال العلامة ابن رجب في شرح حديث: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها..": "وقد اختلف العلماء: هل الواجب والفرض بمعنى واحد أم لا؟ فمنهم من قال: هما سواء، وكل واجب بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أو غير ذلك من أدلة الشرع، فهو فرض، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي وغيرهم، وحكى رواية عن أحمد، لأنه قال: كل ما في الصلاة فهو فرض. ومنهم من قال: بل الفرض ما ثبت بدليل مقطوع به، والواجب ما ثبت بغير مقطوع به، وهو قول الحنفية وغيرهم. وأكثر النصوص عن أحمد تفرق بين الفرض والواجب، فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال: لا يسمى فرضا إلا ما كان في كتاب الله تعالى، وقال في صدقة الفطر: ما أجترئ أن أقول: إنها فرض، مع أنه يقول بوجوبها، فمن أصحابنا من قال: مراده أن الفرض: ما ثبت بالكتاب، والواجب: ما ثبت بالسنة، ومنهم من قال: أراد أن الفرض: ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر، والواجب: ما ثبت من جهة الاجتهاد، وساغ الخلاف في وجوبه". وفقه الأولويات يقتضي أن نقدم الأوجب على الواجب، والواجب على المستحب، وأن نتساهل في السنن والمستحبات ما لا نتساهل في الفرائض والواجبات، وأن نؤكد أمر الفرائض الأساسية أكثر من غيرها، وبخاصة الصلاة والزكاة، الفريضتان الأساسيتان، اللتان قرن بينهما القرآن في ثمانية وعشرين موضعا. وجاءت عدة أحاديث صحيحة في ذلك، منها: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان". وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة" قال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصيام شهر رمضان" قال: هل علي غيره؟ قال: "لا إلا أن تطوع" قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال: هل علي غيرها؟ فقال: "لا إلا أن تطوع"، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" (متفق عليه). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم". وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق". وعن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصل الرحم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا". فدل هذا الحديث وحديث طلحة قبله: أن هذه الفرائض هي الأساس العملي للدين، وأن من أداها كاملة، ولم ينقص منها شيئا، فقد فتح أمامه باب الجنة، وإن قصر فيما وراءها من السنن، وكان المنهج النبوي في التعليم: التركيز على الأركان والأساسيات، لا على الجزئيات والتفصيلات التي لا تتناهى. خطأ الاشتغال بالسنن عن الفرائض ومن الخطأ إذن اشتغال الناس بالسنن والتطوعات من الصلاة والصيام والحج عن الفرائض. فنرى من المنتسبين إلى الدين من يقوم الليل، ثم يذهب إلى عمله الذي يتقاضى عليه أجرا متعبا كليل القوة، فلا يقوم بواجبه كما ينبغي. ولو علم أن إحسان العمل فريضة: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، وأن التفريط فيه خيانة للأمانة، وأكل للمال ـ آخر الشهر ـ بالباطل، لوفر على نفسه قيام ليله، لأنه ليس أكثر من نفل، لم يلزمه الله به ولا رسوله. ومثله من يصوم الاثنين والخميس، فيجهده الصيام، وخصوصا في أيام الصيف، فيمضي إلى عمله مكدودا مهدودا، وكثيرا ما يؤخر مصالح الناس بتأثير الصوم عليه. والصوم نفل غير واجب ولا لازم. وإنجاز مصالح الخلق واجب ولازم. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تصوم تطوعا، وزوجها شاهدا ـ حاضر غير مسافر ـ إلا بإذنه، لأن حقه عليها أوجب من صيام النافلة. ومثل ذلك حج التطوع، وعمرة التطوع، فمن المتدينين من يحج الحجة الخامسة أو العاشرة أو العشرين وربما الأربعين. ويعتمر كل عام في شهر رمضان، وينفق ألوف الجنيهات أو الدنانير أو الريالات، وهناك مسلمون يموتون من الجوع ـ حقيقة لا مجازا ـ في بعض الأقطار كالصومال، وآخرون يتعرضون للإبادة الجماعية، والتصفية الجسدية، كما رأينا في البوسنة والهرسك وفلسطين وكشمير وغيرها ـ وهم في حاجة إلى أي معونة من إخوانهم، لإطعام الجائع، وكسوة العاري، ومداواة المريض، وإيواء المشرد، وكفالة اليتيم، ورعاية الشيخ والأرملة والمعوق، أو لشراء السلاح الضروري للدفاع عن النفس. وآخرون يتعرضون للغزو التنصيري، ولا يجدون مدرسة للتعليم، ولا مسجدا للصلاة، ولا دارا للرعاية، ولا مستوصفا للعلاج، ولا مركزا للدعوة، ولا كتابا للقراءة .. على حين نجد سبعين في المائة من الحجاج كل عام ممن حجوا قبل ذلك، أي يحجون تطوعا، ينفقون مئات الملايين طيبة بها أنفسهم!! ولو فقهوا دينهم، وعرفوا شيئا من فقه الأولويات، لقدموا إنقاذ إخوانهم المسلمين على استمتاعهم الروحي بالحج والعمرة، ولو تدبروا لعلموا أن الاستمتاع بإنقاذ المسلمين أعمق وأعظم من استمتاع عارض قد يشوبه بعض التظاهر أو الرياء، وصاحبه لا يشعر. لقد قرر فقهاء الإسلام: أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة. وذكر الإمام الراغب في المقارنة بين فرائض العبادات، ونوافل المكارم فقال، وأحسن فيما قال: "واعلم أن العبادة أعم من المكرمة، فإن كل مكرمة عبادة، وليس كل عبادة مكرمة، ومن الفرق بينهما أن للعبادات فرائض معلومة، وحدودا مرسومة، وتاركها يصير ظالما متعديا، والمكارم بخلافها. ولن يستكمل الإنسان مكارم الشرع ما لم يقم بوظائف العبادات، فتحرى العبادات من باب العدل، وتحرى المكارم من باب الفضل والنفل، ولا يقبل تنفل من أهمل الفرض، ولا تفضل من ترك العدل، بل لا يصح تعاطي الفضل إلا بعد العدل، فإن العدل فعل ما يجب، والفضل الزيادة على ما يجب. وكيف يصح تصور الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته، ولهذا قيل: لا يستطيع الوصول من ضيع الأصول. فمن شغله الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور، وقد أشار تعالى بالعدل إلى الأحكام، وبالإحسان إلى المكارم بقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).
|