قالت لي
أمي ذات يوم: لقد تعبتُ يا ابني من نَشْلِ الماء على
الهرابة، عشرات السنين مرَّت وأنا أنشل الماء في كلّ يوم،
مرةً للشُّرْب وطَهْي الطعام، ومرةً لسَقْي المواشي
القليلة التي نُربيها في البيت، لقد اهترأت يديّ من حبل
الدلو، والناس ينعمون قربنا بماءٍ جارٍ، فما إن تفتح
جارتنا تلك الحنفية حتى يتدفق الماءُ منها صافياً زلالاً،
فمتى سنصبح مثلهم، أليس من حقنا أن نكونَ كالناس وأن نعيشَ
كما يعيشون.
قلت: إن
لهم قسائم أرض يا أمي أما نحن فليس لنا، وبدونها لا
يُرَكِّبون لنا ماسورة ماء.
تَذمّرتْ
أمي وقالت: وهل سنبقى على هذا الحال إلى ما لا نهاية، لقد
نَخَرت الشيخوخةُ عظامي، ولم يبقَ لنا من العمر إلا أقلّه،
ومن حقنا أن ننعم بما ينعم به جيراننا من هذا الماء النقيّ
الزلال.
قلت: يا
أمي أنا لا أملك ثمن قسيمة أرض، فما العمل؟.
قالت: وهل
أنا الرجل أم أنت، تصرَّف كرجل ولا تجعلنا دائماً متأخرين
عن الناس.
قلت: أمري لله، وفي المساء أقنعت زوجتي أن تبيع ذهبها
ومصوغاتها لكي نشتري قسيمة أرض حتى نُرَكِّب فيها ماسورة
ماء.
قالت
زوجتي: يبدو أنك تخدعني وتضحك على عقلي بذلاقة لسانك، فمتى
ستشتري لي ذهباً مكان الذي تريد بيعه.
قلت لها:
لا تخشي على مصوغاتك، فرزق الشباب على الأبواب كما يقولون.
وفي الصباح
كنا ننتظر أنا وزوجتي عند محلّ المجوهرات، وما إن فتح
أبوابه حتى كنا أول الداخلين، وباعت زوجتي الليرات الذهبية
التي على بُرقعها، باعت الفطيرة والمخمسيّة، وبقيّة
مصوغاتها من أساور وخواتيم، وقبضنا ثمنها وخرجنا، وعادت
زوجتي إلى بيتنا أما أنا فذهبت للمدينة واشتريت قسيمة أرض،
وكان الأمر سهلاً ميسوراً ليس فيه تعقيدات كما هي الحال
اليوم وعدتُ فَرِحَاً مسروراً.
وفي اليوم
التالي حَمَلتُ أوراقي وتوجهت لقسم المياه ودفعت ثمن
ماسورة ماء وخلال ساعات كانت ساعة الماء تتلألأ تحت أشعة
الشمس بلونها الذهبي وكأنها قطعة من الذهب الخالص.
أخبرت أمي
بما فعلتُ وحملتها معي في تندر البيجو وأنزلتها عند
الماسورة لتراها بنفسها، فما كان منها إلا أن ضمتها بين
يديها المرتجفتين وأطلقت زغرودة مدوِّية في المكان.
وضعت يدي
بلطفٍ على فم أمي وقلت لها: لا تفضحينا الله يستر عليك،
فكلّ الناس هنا عندها مواسير ولا حاجة للزغاريد يا أمي.
قالت: من
فرحتي يا ابني لم أستطع منع نفسي فخرجت مني تلك الزغرودة،
فدعني أُعَبِّر عن فرحتي.
بنينا بعد
ذلك بيتاً في قسيمة الأرض، وأصبحنا نشرب ونتبحبحُ على
بَرَكَةِ الله، ودام الأمر كذلك عدة سنوات نسينا خلالها
الهرابة والدلاء وأَرْشِيَة الدلاء، كما نسينا أكثر
العادات الجميلة التي كنا نتحلّى بها في السابق.
ومع مرور
الوقت تغيّر الحال، وأخذت أسعار المياه ترتفع شيئاً
فشيئاً، ثم أضافوا إليها رسوماً جديدة اسمها رسوم المجاري،
وضريبة أخرى اسمها الأرنونا، وأصبحت السلطة المحلية تستأجر
شركات جباية مزودة بِجُبَاةٍ عُتاة غلاظ شداد لا يعصون
السلطة فيما تأمرهم، فأصبحوا يُنَكِّلون بالناس ولا
يحترمون للشيوخ إلاًّ ولا ذِمّة، ولا يقيمون وزناً للأرامل
أو للأيتام، ولا يعرفون شيئاً اسمه حُرْمَة البيوت.
وضَجّ
الناس وهم يرون ساعات الماء التي دفعوا ثمنها من رزق
عيالهم تتكدّس في سيارات الجباية وتنقل إلى سجنٍ قَسْرِيّ
لا تخرج منه إلا بعد دفع أثمانٍ باهظة للمياه ولأتعاب
الجباية في إهانة الناس وقطع الماء عن عيالهم.
وكانت
ساعتنا الذهبية واحدة من هذه الساعات، ولكنها امتلأت
غباراً وضاع بريقها ولم يعد بها ذلك الجمال الذي كنا نراه
بها من قبل، فقلنا عسى أن تبيعها السُّلطة وتفكّ أزمتها
وتخرج من ضائقتها، أما أطفالنا لو عطشوا فيمكن أن يشربوا
كولا ويستغنوا عن الماء حتى حين.
ضاقت أمي
ذرعاً بهذا الوضع، ولم تعد مخصصات الشيخوخة التي تتقاضاها
من التأمين الوطني تكفي لتغطية هذا الكم الهائل من
الضرائب، ولم تعد تملك ثمن الدواء، فاختفت الابتسامة من
على ثغرها، وازدادت عمقاً تجاعيد وجهها، وخشيتُ أن يحدث
لها مكروه مما تعانيه من ضغطٍ مكبوت، وضيقٍ شديد تُخفيه في
صدرها ولا تُظهره علينا، وكأنها تريد أن تحمل هذا العبء
لوحدها.
قلت لها:
وَلِمَ هذا الحزن يا أمي؟
قالت: ألم
يعدوننا بإلغاء ضريبة المجاري والتخفيف عنا قدر الإمكان.
قلت: نعم،
وعدوا فأخلفوا وحكموا فظلموا، وهذه عادة من يصل السلطة،
فإن ضمائرهم تنام نومة أهل الكهف ولا يستفيقون إلا قبل
الانتخابات بعام.
قالت: ألا
يخشون أن يعلو دعاء المظلومين ويصعد إلى السماء ليرفع
شكواهم لمن يجمع الناس ليومٍ لا ريبَ فيه.
قلت: لا
أدري، ولكنني أذكر قول الله تعالى: "وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً".
قالت أمي:
إن مُرَتّبك لا يكاد يُغطّي مصروفات البيت والأقساط
الشهرية من قرض الإسكان، وأنا لمن ستكفي مخصصات شيخوختي،
وكيف لي أن أعيش في ظلّ هذه الظروف القاسية، فإذا كانت
الماسورة سبباً للذل والهوان الذي نلاقيه في معيشتنا،
فلتنقص الماسورة ويغنينا الله عنها، يمكننا أن نعيش
بدونها.
وفي صبيحة
اليوم التالي عادت أمي وبَنَتْ خيمتها في مكان بيتنا
القديم، وهي تلعن اليوم الذي دخلنا فيه البلد وعرفنا فيه
المواسير، وكانت تدقّ أوتاد البيت بعصبية وتقول: هرابتنا
ولا ماسورة البلدية، هرابتنا ولا ماسورة البلدية.
أما أنا
فلم أستطع الصمود طويلاً تحت وطأة الضرائب وتهديدات
الجُبَاة فعدت إلى مكان بيتي القديم وبنيت خيمةً هناك،
ودعوت أصدقائي القدامى فجاءوا وجلسنا نحتسي القهوة ونُغنّي
معاً على أنغام السمسمية:
حِسّ
الكِمَنْكَر دَرَج يا عْيَال ... وتعَدَّى بيوت الجهالينِ
حِسّ
الكِمَنْكَر دَرَج يا عْيَال ... واثنين يرُدَّنْ
بَعَارِينِ
{{{
رهط في: 14/11/ 2009م
---------------
نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء
18/11/2009،
العدد (112).
جـميع
الحقـوق مـحفوظـة للمؤلف
« لا يسمح باستخدام هذه المادة
أو بنقلها دون الإشارة إلى مصدرها »
|