الشاي هو أحد المشروبات
المفضلة عند البدو، وهو يأتي بعد القهوة من حيث المنزلة
والمكانة، ويُقدَّم للضيوف ولأفراد العائلة ويُشرب على
مدار اليوم.
والضيف الذي لا يُقدَّم له الشاي يشعر بالإهانة، وقد لا
يعود لزيارة مضيفه مرةً أخرى إذا لم يكن هناك سبب واضح
يُقنعه بأن مضيفه لم يتعمّد تجاهله وإهانته.
ومن هنا ندرك أن للشاي أهمية خاصة تتجلّى في احترام
الضيوف، وفي توفير جو هادئ للمناقشات من أجل حلّ مُشْكِلٍ
أو قضية، يقولون: "بنحِلها على فنجان شاي"، أو "أعزمني على
كُبَّاية شاي"، وغير ذلك من العبارات التي تدلّ على أهمية
الشاي في مثل تلك المناسبات.
فما الذي تغير إذَن في إعداد إبريق الشاي بين الأمس
واليوم؟ إليك الحكاية:
لم يكن الشاي حتى النصف الأول من القرن الماضي مشروباً
أساسياً كما نستعمله اليوم، فقد كان السكر نادراً وغالياً،
وكانوا يستعملونه إذا مرض أحدهم بمغصٍ أو غيره، وكانوا
يقولون: اعملوا للمريض "كاسة سكّر"، فيشربها ويشعر بالراحة
معها، وكان شربه للعلاج وليس للرأس والكيف.
ثم تطوّر الحال:
وانتشر استعمال الشاي بشكل كبير، وأصبح الناس يُعدّونه في
برّاد من الألمنيوم، وينضجونه على نارٍ من الحطب، أو من
زبل الماشية في بعض الأحيان، وكان يُترك ليغلي على النار
حتى يصبح لونه كلون العسل أو الدِّبْس المُصَفّى، وكان
لونه صافياً نقياً وله رائحة تجذبك إليه من بعيد، وكان بعد
الشرب يترك على حافة الموقد فيظل ساخناً وطازجاً.
وسمعتُ شيخاً يقول: "اطبخ الشاي طَبْخ شاة"؛ أي دعه يغلي
وينضج جيداً على النار كما يُترك اللحم ليغلي فترة طويلة
حتى يصبح أكثر طراوة ونضجاً.
وكان الناس يُعدّون الشاي في الصباح الباكر فما إن ينهض
الأولاد حتى يجدوه ساخناً في انتظارهم فيغمسون فيه خبزهم
أو يشربونه دون خبز.
وحدثني قريبٌ لي في الأردن أن شخصاً عمل إبريقاً من الشاي
وغمس فيه خبزه حتى أتى على الإبريق كله، ثم تنهد وقال: "آخ
على برّاد شاي للراس". أي أن الأول كان للطعام والثاني
للكيف.
وكان الرعاة في مراعيهم يعدّون الشاي في دِلال "جمع دَلّة"
يتخذونها من علب الطعام المعدنية، ويصنعون لها مقبضاً من
سلك يلفونه حولها، وكان الشاي الذي يُعَدّ فيها شهياً
ولذيذاً، فالنكهة إذن من النار، وهي التي تضفي على الشاي
تلك الرائحة الخاصة التي كنا نشمها من بعيد.
ثم تطوّر الحال:
وبعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة تزوّج البدو بالمئات
من بنات تلك المناطق، فجلبن معهن بابور الكاز "البريموس"،
فأصبح الشاي ينضج خلال دقائق، ولم يعد إبريق الشاي أسود
كما كان في السابق، حيث كانت تغطيه طبقةٌ سوداء سميكة لا
يمكن جليها حتى لو حَتّوها بالخوصة.
وعندما كنت صغيراً ذهبت برفقة أمي لبيت عمي وكانت زوجته
قيسية فعملت إبريق شاي خلال دقائق وأحضرته، ولكن ما أثار
استغرابي هو لون الإبريق فقد كان نظيفاً جداً ولا أثر
للنار عليه فتعجبت منه وكيف لم يصبح أسود كما هي حال
إبريقنا.
استمر استعمال البريموس حوالي عشرين عاماً، وأصبح طعم
الشاي يختلف بعض الشيء، ولم تعد فيه نكهة النار الشهية،
وتغير لونه وخفّ احمراره.
ولكن رغم انتشار البريموس في كثير من البيوت إلا أن
استعمال النار ظل موجوداً، فلم تكن الفلاحات والقيسيات في
كل بيت بل كانت البدويات أكثر عدداً.
ثم تطوّر الحال:
وبما أن الإنسان استطاع أن يحفظ أنواعاً مختلفة من الطعام
في معلبات، فكذلك استطاع أن يحفظ الشاي ساخناً طازجاً،
وأصبح يُفرغه في سخانات زجاجية "تيرموس" فتحفظ عليه حرارته
لعدة ساعات، ولكن بمرور ساعة أو ساعتين يتغير لون الشاي
فيها إلى بنيّ داكن، ويصبح طعمه غير مستساغ ولا تقبله
الأنفس والأذواق.
وعلى ذكر ذلك السخان فقد كان مارون عبود يطلق عليه اسم
"كظيمة"، لأنه يكظم الحرارة ويحفظها كما يكظم الغاضبُ
غضبه، وربما اقترح على مَجْمَع اللغة العربية في حينه أن
يطلق اسم "كظيمة" على ذلك السخان، ولكن كلمة سخّان التي
استعملها عامة الناس طغت على المفردات الأخرى، وانتشرت حتى
أصبحت هي المستعملة دون غيرها.
ثم تطوّر الحال:
وجاء دور الغاز، فانتشر انتشاراً سريعاً وقضى على البريموس
الذي انقرض تماماً مخلفاً وراءه تاريخاً حافلاً من العمل
الجاد في طبخ الطعام وإنضاجه.
أصبح إبريق الشاي يصنع في دقائق وتغير لونه ليصبح أكثر
صفاراً لأنه بمجرد أن يغلي تنزله المرأة من على الغاز حتى
لا يسيل عليه ويوسخه وتحتاج لفكه وتنظيفه، وبسبب قلة الغلي
تغير طعم الشاي افتقد النكهة الشهية التي كانت فيه، ولم
يعد له ذلك الطعم اللذيذ، أو تلك الرائحة الزكية التي كانت
تجذبنا إليه من بعيد.
ومما زاد الطين بله أن الشاي الناشف الذي يُعَدّ منه مشروب
الشاي أصبح أقل جودة، وأصبح كأنه مصنوع من ورق التين،
وتحول إلى شاي تجاريّ رخيص.
وحتى السكر في أيامنا أصبح أكثره تجارياً، فما إن تضع منه
على الشاي حتى يتعكّر لونه، وكأن كلّ شيء في عصرنا أصبح
مزيفاً، ومع فقدان الجودة ضاع الطعم والنكهة.
ثم تطوّر الحال:
وأصبح الشاي يُعَدّ في الإبريق الكهربائي (الكُمْكُم)،
ورغم أن الكلمة عربية وأصلها "قُمْقُم" إلا أننا نستعملها
بالعبرية، لأن البعض يعتقد أن "العبراني أسهل"، وحتى في
اللغة افتقدنا الطعم والذوق، ولم تعد أذاننا تستسيغ
الألفاظ العربية السلسة، وأصبحت تألَف الكلمات الدخيلة،
وضاعت منا تلك الأذن الموسيقية التي كانت تطرب لرنين
الكلمات وجمال وقعها على الأسماع.
أصبحنا نسخن الماء في الإبريق الكهربائي ونعمل الشاي (في
الكاسة).
كانت الصينية تُقدَّم وعليها كؤوسٌ نظيفة وفارغة ومعها
إبريق الشاي الطازج، فيملأها صاحب البيت ويشرب هو وضيوفه،
وفي هذا شعور بالأمان لأنهم رأوه وهو يصبّ الشاي أمامهم
ويشرب منه معهم، أما أن تُقدَّم كاسٌ مليئة للضيف ولا يرى
كيف صُبَّت ففي هذا نوع من عدم الراحة النفسية عند البعض،
وقد يساور أحدهم الشكّ فيتركها أمامه ولا يشربها.
وكان البدويّ في السابق عندما يعمل القهوة لضيوفه يصب
شيئاً منها في الفنجان ويشربه، ليتذوقها ويطمئن ضيوفه أنها
سليمة وغير مغشوشة.
ما تبقى:
وقد يتطور
الحال وتسخّن المرأة كأساً من الشاي لزوجها في مسخِّن
الأشعة "الميكروغال"، أما إذا عملت إبريقاً كاملاً فقد
تضعه في المُجَمِّد "الفريزر" وتقصّ منه بالخوصة وتسخنه في
الميكروغال وتقدّمه لزوجها على مدار الأسبوع، كما هي حال
الخبز عندنا اليوم.
وربما يتطور الحال فيصبح الشاي على شكل أقراص نمصّها مصاً،
وليس ذلك بمستحيل في عصر ابتعد فيه الناس عن الجودة وعن
النكهة الأصلية واكتفوا بما يملأ الجوف حتى لو كان طعمه
كطعم الماء، فما الذي قَلَبَ أذواقَنا هل هو العصر، أم هو
جَرْيُنا وراء تطورات العصر؟.
تقدم سريع أفقد الأشياء طعمها وربما لو أُحْسِن استعماله
لكان أفضل.
qqq
رهط في: 9/1/2010
---------------
نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء
13/01/2010، العدد (119).
جـميع
الحقـوق مـحفوظـة
« لا يسمح باستخدام هذه المادة
بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »
ولا
يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.
|