نكمل اليوم أيضاً ما
بدأناه في الأعداد السابقة من موضوع أدعية السوء في تراثنا
الشعبي:
الدُّعاء بمسببات الضرر والأذى:
الشَرّ:
الشَّرّ: هو عكس الخير،
ويقصد به الضرر والأذى، والدعاء بالشرّ يكون إما بكلمة
الشرّ لوحدها بقولهم:« شَرّ»، أو بإضافة كلمة أو جملة
إليها كقولهم:« شَرّ يشُرَّك »، أو «الله يجعلك بالشرّ»،
ويجعلك هنا بمعنى يصيبك. أو أي كلمة أخرى يقصد من خلالها
أن يكون الدعاء أكثر ضرراً وإيلاماً.
وقد حدثني أحدهم بقوله:
كان شرّ اسم لكلب كبيرٍ شرس، وكانوا يدعون على الناس به
بقولهم:«شَـرّ يجيك»، ولهم مثل شعبي يقول:«سَوِّي خير شَرّ
تلاقي»، والله تعالى أعلم.
السَّلَط:
السَّلَط: هو أن يتسلّط
على الإنسان من هو أقوى منه فيذلّه ويُخضعه، وقد يُقصد
بالسَّلَط هنا المرض أو العاهة التي تُقعد الإنسان وتُضعفه
وتُذلّه، لأن المرض يصيب الإنسان بالضعف والوهن ويجعله غير
قادر على إعانة نفسه.
وقد تكون الصيغة لهذا
الدعاء باستعمال كلمة السَّلَط لوحدها، بقولنا: «سَلَط!»،
أو بإدخالها في جمله كقولنا: «الله يسلِّط عليك».
وهناك حكاية تقول: "إن
عدداً من الفرسان كانوا في طريقهم ومرّوا على امرأة تحصد
في الحقل وبجانبها طفلها الرضيع، وكانت معهم كلاب كبيرة
متوحشة، فحملوا الطفل من مكانه ورموه للكلاب فمزقته
تمزيقاً وأكلته أمام عيني أمه، وكان الفرسان يضحكون
ويسخرون من المرأة التي أخذت تصرخ وتولول على طفلها، فكشفت
رأسها ونَفَلَتْ شعرها وأخرجت أثداءها زيادة في الثكل
والتظلُّم، ورفعت رأسها للسماء باكيةً تقول:
يا ربّ ما أنت غايب
أرتجيك لكنك حاضـر وبترى
سلَّطـت علـيّ
الظالـمين وأنت لك عليهم مقدرة
فيقال إن
النار اشتعلت في الحال في الفرسان وأحرقتهم مع خيولهم، ثم
هبّت في عائلاتهم وبيوتهم حتى أتت على أكثرهم، ولم يبق من
تلك العائلة إلا القليل من الأفراد، وأصبحت تضرب الأمثال
في ظلمهم وما حاق بهم بعد ذلك من غضب الله وسخطه.
يكْسِر جَاهَه:
أي أصابه الله بالذل
والهوان وأفقده عزَّته وكرامته، وعندما يفقد الإنسان
كرامته، ويكسر جاهه فإنه يصبح لا قيمة له.
يكسر خاطره:
يشبه الدعاء الذي قبله.
والإنسان يُكسر خاطره عندما يُردّ خائباً، ولا يُلبّى له
طلب فيعود ذليلاً مكسور الخاطر.
مَيِّل حَاله:
أي ليغير الله حاله من سيء
إلى أسوأ فيصبح أسوأ حالاً مما هو عليه الآن.
الدعاء بالأوبئة والأمراض:
كانت كثير من الأوبئة تفتك
بالناس في الفترة التي كان فيها الطب في بداياته ولم يتوصل
لما توصل إليه اليوم من المضادات والتطعيم الوقائي وما
شابه، وكان أحد هذه الأوبئة إذا تفشّى في الناس يحصدهم حصد
الهشيم، ولا يُبقي إلا على طويل العمر، وكان الناس يدعون
بهذه الأوبئة لأن كلّ ما هو مؤذٍ أو مٌضرّ يستخدمونه
لأدعية السوء، وكان من بين هذه الأوبئة التي يدعون بها:
السِّلّ:
وطريقة الدعاء به أن
يقولوا :« سِلّ يسِلَّه »، أو كلمة « سِلّ » لوحدها.
والسلّ
وباء فتّاك كان إذا دخل منطقة قضى على أكثر من فيها، وهو
مرض معدٍ يصيب الرئتين ويظلّ المصاب به يسعل ويهزل حتى
يقضي عليه. ولأن المصاب به يظل لحمه ينسل ويذوب سمي المرض
بهذا الاسم، وقد تفشَّى في منطقتنا ربما في الأربعينيات من
القرن الفائت وقضى على بعض العائلات، وكانت امرأة عجوز
مصابة به وليس لها من يعتني بها أو يغسل ثيابها، فتطوعت
امرأة قريبة منها وأخذت تغسل ملابسها، فماتت العجوز ولم
تلبث المرأة أن أصيبت هي الأخرى بالعدوى وقضى عليها المرض.
وسمعت أن شخصاً واحداً من منطقتنا شفي من هذا المرض
بعد أن بعث
به أهله إلى جبل لبنان حيث الهواء النقي في أعلى الجبل
إضافة إلى العلاج ثم عاد إلى أهله سليماً معافى.
الطاعون:
من الأوبئة الفتاكة وهو
مرض يسبب حمى شديدة الحرارة وتقرحات شديدة، ينتقل إلى
الإنسان من الفئران. والطاعون مرض معدٍ شديد الفتك بالناس،
وقد ذكرت كتب التاريخ طاعون عمواس الذي فتك بالجيش
الإسلامي في العام الثامن عشر للهجرة، ومات منه أبو عبيدة
بن الجراح ومعاذ بن جبل. وعمواس قرية مهجرة بين القدس
والرملة وقرب مكان يدعى اللطرون، وقد هدمت بيوتها وشُرِّد
أهلها، وزرعت مكانها غابة من الأشجار، وأقيم مكانها منتزه
أطلق عليه اسم منتزه كندا.
الجَدَرِيّ:
وهو مرض تنتج عنه قروح في
الجسم ممتلئة ماءً وقيحاً. ويدعون به بقولهم:« جَدَرِي! »
لوحدها، أو يضيفون قبلها أو بعدها جملة «إن شاء الله»
زيادة في التوكيد على حدوث الفعل.
الحَصْبَة:
مرض معدٍ
تظهر منه بثور في الجسم وتسبب حمى شديدة وصداعاً ورُعافاً
يسيل منه الدم من المنخرين. وطريقة الدعاء به مثلها مثل
الدعاء بالأمراض الأخرى، ولكن يُغَيّر فيها اسم المرض في
كلّ مرة، فمرة نقول حصبة وأخرى جدري أو طاعون أو غيرها
وهكذا.
وعلى ذكر الحصبة حدثتني
أمي رحمها الله، أنها ذهبت لتزور إحدى قريباتها وأخذتني
معها وكنت صغيراً، وكان لتلك المرأة طفل يكبرني بعامين،
فصبّت المرأة شاياً في الكأس الذي كان مع ابنها وناولتني
إياه فشربته حسب ما روت أمي، وكان ابنها لا يكفّ عن الصراخ
وقد تورّم وجهه وانتفخت عيناه، فسألتها أمي عن سبب بكاء
ابنها، فقالت: إنه يبكي على كأسه الذي أعطتني إياه.
وكان ابنها
مصاباً بالحصبة وتعمّدت أن تسقيني في الكأس التي شرب منها
حتى تنتقل العدوى إليّ وأصاب بالحصبة، وبالفعل فقد أصابت
الحصبة جميع أفراد العائلة وأصبحوا "جُرْنَاً واحداً" كما
كانوا يعبرون تشبيهاً لهم وهم على فراش المرض بأكوام القش
المكدسة على الجرن وهو بيدر الغلال، ولم يسلم من العائلة
إلا أبي لأنه كان "معَتِّق" من الحصبة أي سبق له أن أصيب
بالحصبة وأصبحت لديه مناعة فصار يعد الطعام بنفسه لأننا
جميعاً بما في ذلك أمي كنا طريحي الفراش، أما أنا فلم تثقل
عليّ الحصبة لصغر سنّي كما روت أمي قائلة إن الحصبة تكون
أخف على الصغير لأن عنده مناعة أكثر من الكبير.
وما زلت أتذكر ذلك الفراش
الذي كان يضمنا ونحن مرضى واحداً بجانب الآخر.
الوَخَم:
الوَخَم: هو الماء الآسن
المُلوّث، وغالباً ما يكون على أطرافه مادة خضراء لزجة
نتيجة للركود والعفن، وقد ينبت على أطرافه الطحلب، وهو لا
يصلح للشرب بسبب ما يحتويه من الجراثيم والميكروبات التي
تسبب الأمراض التي تؤدي إلى الموت في كثير من الأحيان. وفي
الأمثال الفصيحة " الظلم مرتعه وخيم".
وطريقة الدعاء به مثلها
مثل سابقاتها من الأمراض لا تختلف عنها في شيء.
وسمعتُ قصة
تقول: إن وحدة من الجيش التركي تمركزت في منطقة بئر السبع
وقرب وادٍ كان دائم الجريان، ولكنه في تلك الفترة كان قد
جفّت مياهه بسبب الحرّ وقلة المطر، ولم يبقَ فيه سوى بقعة
مليئة بالمياه الآسنة، ولما كانت المياه شحيحة في تلك
الأيام فقد شرب الجيش واستقر حول الماء لعدة أيام، وكانت
المياه وَخِمَة وملوثة فأصابت الجيوش بالوَخَم، فمرضوا
ومات أكثرهم، وظلت جثثهم ملقاة حتى ذابت، وكانت الرياح إذا
هبت في المكان أو إذا مرّت زوبعة من هناك تتطاير أظافرهم
ويسمع لها طقطقة لكثرتها، وظلت كذلك سنين طويلة حتى عفا
عليها الزمان.
ونكتفي بهذا القدر نظراً
لضيق المجال ولنا لقاء آخر في عدد قادم بعون الله تعالى.
رهط في:
14/02/2010
qqq
---------------
نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء
17/02/2010، العدد (124).
جـميع
الحقـوق مـحفوظـة
« لا يسمح باستخدام هذه المادة
بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »
ولا
يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.
|