لدغة العقرب:
كان أبي يدللني كثيراً،
وكان يعلمني الرسم وكتابة الحروف ويشتري لي الأقلام
والدفاتر. وكان يرسم لي طائرةً وبعضَ العصافير وسيفاً
مصيوغاً، هكذا كان يُسميه، وكان يضيف إلى السيف صورة
عَجَلٍ صغير في أسفله، ويقول لي: كان بعض الناس يَجُرُّون
سيوفهم جَرَّاً.
كنت أحبّ الرسم وأحب
الكتابة ولم أكن أعرف يومها بأنها ستصبح هاجسي ومرضي
المزمن. وكثيراً ما كانت تضيع أوراقي أو تنتهي أقلامي،
وكنت أستعيض عنها بقطعة فحمٍ من الموقد، وكنت آخذ قطعةَ
الفحم وأخرج أركض وأبحث عن ورقةٍ من الكرتون تكون قد طارت
مع الريح بعد أن أفرغها الناسُ من محتوياتها. وكانت قِطَع
الكرتون المتطاير هي دفاتري، وبقايا الفحم المترسِّب في
الموقد هي أقلامي.
وذات يوم تناولت قطعةَ
فحمٍ من الموقد وذهبت أركض، وابتعدت عن البيت حيث وجدتُ
قطعةً كبيرة من ورق الكرتون قد ألقت بها الريح فوق عيدان
القشّ اليابس التي تخلّفت وراء ماكينة الحصاد. وكان الوقتُ
صيفاً، والزرع قد حُصد، والقشّ والعشب اليابس يملآن
المكان.
أزحت ورقة الكرتون قليلاً
وأخذت أرسم عليها أشكالاً وطيوراً مختلفة، ولكن فرحتي لم
تَتِمّ فقد شعرتُ بوخزةٍ قويةٍ في قدمي، نظرتُ إلى الأرض
والى المكان الذي وُخِزْتُ منه فرأيت عقرباً كبيراً أسود
اللون.
ازداد ألمي وانتشر السمُّ
في جسدي وبدأت أقفز على رِجْلٍ واحدة بعد أن ازداد خوفي من
رؤيتي لتلك العقرب الكبيرة المفزعة.
أخذت أقفز على رِجْلٍ
واحدة واتجه نحو البيت وأرفع صوتي بالصراخ لعلّ أمي
تسمعني، وسمعتْ أمي صراخي فهبت لنجدتي، وأخذت تسألني بخوفٍ
وقلق: ما الذي جرى لك يا ولد؟ ما الذي جرى لك. أجبتها:
العقرب يا أمي، لدغتني عقرب سوداء كبيرة. أين لدغتك؟ سألت
أمي بلهفةٍ شديدة. هنا في رِجْلي وأشرت بيدي نحو رِجْلي،
وبسرعة شديدة جاءت أمي بشيءٍ من السكَّر ووضعته فوق مكان
اللدغة وبللت المكان بريقها حتى تمسك ذرات السكر. وقالت:
سيزول الشر عنك إن شاء الله، سيزول الشرّ.
وسألت مستفسراً: وهل
السكّر يمتص السمَّ يا أمي؟ نعم يمتصه، وبعد قليل ستعود
إليك عافيتك، أجابت أمي مُطَمْئنة.
نمتُ من شدة الألم وساقي
ممدودة ومكان اللدغة من قدمي مغطّى بطبقة من السكر، وبعد
أن استيقظت كنت لا أشعر بأي ألم، فناديت أمي فَرِحَاً
وقلتُ لها: أنا بخير يا أمي، ولا شيء يؤلمني، فأجابت: أعرف
ذلك يا ابني.. ألم أقل لك بأن السكر يمتص السم.
فتمتمتُ موافقاً: صدقتِ يا
أمي.. حقاً انه يمتص السمّ.
الابن يشجّ رأسَ أمه:
جاءت يوماً خالةٌ لأمي وقد
تشاجرت مع ابنها فضربها وشجَّ رأسها، ولما كان بيتنا أقرب
البيوت إليها فقد لجأت إليه، وكان جرحُها ينزف بغزارة
ودمها يغطّي وجهها، فاستقبلتها أمي وأجلستها وهدّأت من
روعها، ودعت أبي ليرى ما بها، فما كان منه إلا أن خلع
حزامه الجلديّ وأخذ يكشط من باطنه بشبريته طبقةً ناعمةً
رقيقة ويضعها في الجرح النازف، وما زال يكشط ويضع في الجرح
حتى انقطع الدم، ثم عصبوا رأسها بمنديلٍ وشدّوه على الجرح،
وأجلسوها عندهم حتى هدأت نفسُها وراق بالُها، ثم عادت بعد
ذلك إلى بيتها وكأن شيئاً لم يكن.
وفهمتُ فيما بعد أن تلك
الطبقة الناعمة التي كان يكشطها أبي من حزامه الجلدي كانت
تمتص الدم وتسدّ الجرح، لأنها من جلدٍ صُنعت فهي تنفع في
مثل هذه الحالة.
حجاب على عظمة كلب:
في نهاية سنوات الستين من
القرن الفائت جاء أحد المشعوذين أو " الخطباء " كما نسميهم
في بعض الأحيان من الضفة الغربية إلى منطقتنا فتهافت عليه
الناس، كلّ جاءه بمشكلته وطبيعي أن لديه الحلول الشافية
لجميع هؤلاء، وكان أن أشارت أمي على أبي أن يذهب إليه و
"يفتح عنده" ليرى السبب في عُسْر الحالة المادية التي تربض
بثقلها علينا منذ فترةٍ طويلة، فلعله يكون لديه فسحة أمل
تخلصنا من حالة الفقر التي نعيشها، وكان الحلّ بسيطاً،
لخصه الخطيبُ بقوله: إن "قَرِينةً" تعيش في بيتكم، وتأكل
هي وأولادها من طعامكم، لذلك هناك عائلة أخرى "غير مرئية"
تعيش على "ثفالكم" وتأكل معكم، وللخلاص منها يجب عمل حجاب
على عظمٍ نجس، وهو عظم كلبٍ ميت، وأحضرنا له عظم كلب فكتب
عليه بعض "الخرابيش" ولفَّهُ في قطعة جلد وقال لأبي:
عَلّقه على " الواسط "، وهو العمود الذي في أوسط البيت،
وستزول الشدة إن شاء الله.
ومضت شهورٌ والعظم معلّق
على حاله، والوضع الاقتصادي لم يتغير فيه شيء، وبعد مدة
وقع الحجاب ومعه عظم الكلب فأمسكه أبي ورماه بعيداً بكلّ
قوته، وكان ينظر إلى أمي نظرات حنقٍ وغضب، ولولا أنه خجل
منا لصفعها صفعةً قوية مدوية، ولكنه اكتفى بقوله لها: ومتى
كان عظم الكلب يجلب رزقاً، وإن كان الرزق لا يأتي إلا من
ذلك الدجّال فلا أتى الله به، ثم استدار وذهب وهو يكاد
يتميّز غيظاً.
لا يوقدون حطب التين:
كان الناس لا يوقدون حطبَ
التين ويكرهون رائحة دخانه، وكنا عندما نحتطب نجمع بعض حطب
التين من كَرْمٍ قريبٍ لجدّي، وكان أهلي يعرفون هذا الحطب
بسبب الثقوب الكثيرة التي تنخرها فيه دودةٌ معروفة تشبه
الخنفساء الكبيرة تفتك بأشجار التين وتعيش في جذوعها
وأغصانها.
وذات مرة وضعنا عدة عيدان
من حطب التين في النار، فانبعث منها دخان أزرق ذو رائحة
كريهة، فسمعنا نداء أبي من الخارج وهو يقول: من وضع تيناً
في النار، أخرجوه وأطفئوه حالاً، فأخرجناه مرغمين، وعندما
سألت أبي عن السبب أجاب: هناك اعتقاد بأن الرائحة الكريهة
التي تنبعث من حطب التين تفكّ الحجابات، وتُفسدها وتُبطل
مفعولها، خاصة وأنه في معظم البيوت توجد حجابات لجلب الرزق
ولطرد القرينة وحُجُب أخرى لأمراض الأطفال، وهناك حجابات
ثمينة لا يدري بها الرجل تعملها بعض النسوة ليظلّ قلب
الزوج طوع يمينها، ومن أجل ذلك كانوا لا يشعلون حطب التين
خشية إبطال مفعول هذه الحجب والتي من الطبيعي أنهم دفعوا
ثمنها غالياً لشيخٍ دجّال أو لخطيبٍ كاذب.
شاة أمّ رقيبة:
نسمع كثيراً بالمثل الشعبي
الذي يقول: "زي شاة أم رقيبة"، فما هي أم رقيبة؟ وما هي
شاتها؟.
أم رقيبة هي نوع من
العناكب السامة سوداء اللون، ولها خطوط بيضاء تبدأ من
رأسها وتمتدّ على طول ظهرها، وتقول الحكاية إنها أقسمت
أنَّ من تلدغه لا بدَّ أن يدخلَ القبر.
ويسود اعتقادٌ أنه إذا ما
لدغت هذه العنكبوت إنساناً فلا علاج لسمّها، حيث ينتفخ جسم
الملدوغ، ويحتقن لونُه ويُشرف على الهلاك، والعلاج الوحيد
الذي يُشفي من سُمّها هو أن تُحفر حفرةٌ على شكل قبر،
ويدخل الملدوغ فيها، وتُذبح شاةٌ من الضأن ويُطبخ لحمها،
وقبل نضوج اللحم بقليل يخطف الموجودون قسماً من ذلك اللحم
حيث يخطف كلّ واحدٍ منهم قطعةً من اللحم ويأكلها، ويؤخذ
كرش الشاة ويفتح ويصبّ ما فيه من أوساخ، وعصارة أكل وغيره
على رأس المريض وجسمه ويغطى القبر قليلاً، ثم يخرج المريض
ويغتسل ويوضع عليه غطاء ثقيل حيث يعرق وبعدها يشفى من
لدغتها.
والشيء الذي يتخاطفه الناس
بسرعة ولا يتركون منه شيئاً يصفونه بلحم تلك الشاه الذي
يخطفه الموجودون قبل نضوجه.
وهذه العادة اختفت ولم تعد
موجودة بفضل الطبّ الحديث الذي يعالج مثل هذه الحالات
وغيرها من حالات التسمم المختلفة.
qqq
---------------
نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء، 14 نيسان، 2010،
العدد (132).
جـميع
الحقـوق مـحفوظـة
« لا يسمح باستخدام هذه المادة
بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »
ولا
يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.
|