العادات التي سادت في
مجتمعنا ثم بادت هي عاداتٌ كثيرةٌ ومتنوعة، ولكننا نخصّص
هذا البحث لعاداتِ الحشمةِ والحياء، لنرى كيف كان مجتمعنا
بالأمس وما أصبح عليه اليوم.
ومما لا شكَّ فيه أنّ
مجتمعنا مجتمعٌ عفيفٌ طاهر، وأنّ عاداته الأصيلة التي ما
زال يتمسّك بالكثير منها تدلّ على محافظته وتمسّكه بأهداب
الفضيلة وبالقيم الرفيعة والأخلاق السامية، وأنه مهما
تغيّرت الظروف فهو لا يسكت على ضيم، ولا يساوم على عرضه
وشرفه، فدعونا نرى شيئاً من تلك العادات الجميلة ونستخلص
العِبر منها.
ترجع إلى الخلف حتى تخرج:
من العادات الجميلة التي
كانت سائدة في المجتمع الصحراوي أنَّ المرأة إذا قدَّمت
طعاماً أو شراباً لضيوفها الذين يكونون عادةً من أقاربها
أو من محارمها، فإنها عندما تخرج ترجع إلى الخلف دون أن
تدير ظهرها للموجودين حتى تخرج من الباب، ثم تستدير وتسير
إلى الأمام، وهذا من باب الحشمة والحياء حتى لا يظهر جسمها
من الخلف على الرجال. وكانت أيضاً لا تنحني لترفع أي شيء
من أمامهم إذا كانت في وضع يظهر ظهرها عليهم للسبب المذكور
نفسه.
تنزل من على البهيمة حتى يمرّ الرجال:
كانت البهائم هي وسائط
لنقل التي يستعملها الناس، وكان من الطبيعي أن يركبها
الرجال والنساء أثناء سفرهم وتنقلاتهم، وكان من العادات
المتبعة في مجتمعنا أن المرأة إذا كانت تركب بهيمةً، ورأت
أن رجلاً أو رجالاً يلاقونها في نفس الطريق، فإنها قبل
وصولهم تتنحّى جانباً وتنزل من على ظهر البهيمة وتغطي
وجهها بالكامل وتظلّ ممسكة بساق بهيمتها وهي جالسة حتى
يبتعدوا عنها، ثم تقوم وتركب بهيمتها وتستأنف سيرها من
جديد.
تغطية الوجه:
كلمةٌ تستعمل في النقب
ربما لا تُعرف في أماكنَ أخرى هي كلمة "تخنفِش"، والتي
تعني تغطية المرأة لوجهها بقناعها الأسود فلا يظهر منه إلا
بريق عينيها، وكانت هذه عادة متبعة في مجتمعنا فما إن ترى
المرأة رجلاً حتى تدير وجهها وتردّ جوانب قناعها على وجهها
فيستره بالكامل فلا تبدو ملامحه ولا تظهر تقاطيعه، وربما
ما زالت بقايا هذه العادة موجودة عند بعض القبائل التي ما
زالت بعيدة عن القرى الثابتة والمدن، أما من جرّتهم سيول
المدنية فأصبحت هذه العادة من العادات القديمة البالية
التي يتذكرونها كعاداتٍ أكل الدهر عليها وشرب، فسبحان
مغيّر الأحوال.
يخجل أن يسير بجانب امرأته:
كان الرجل في السابق يخجل
أن يسير في مكانٍ عامّ بجانب امرأته، ليس خجلاً منها ولكن
من باب الاحتياط حتى لا يرى أصدقاؤه أو معارفه شكل زوجته،
وكان يسير دائماً أمامها وهي تسير خلفه حتى لا تتقدم
المرأةُ على الرجل، لأن "العُقْصَة ما بتعلى على
الشَّارِب"، وأذكر أن رجلاً وجيهاً في جيل أبي كان إذا ما
سار مع زوجته لمحطة الباص فإنها يتقدمها بمئات الأمتار حتى
لا يَعرف أحدٌ أنها تتبعُ له، وإن كان يرقبها من بعيد بطرف
عينيه حتى تصل المحطة وتجلس في ناحية مع بعض النسوة حتى
تأتي الحافلة ويركب الجميع.
لا ترفع صوتها:
صوتُ المرأةِ رخيمٌ وعذب،
هكذا هو في الأصل، أما عندما يُستعمل كصياحٍ وصُراخٍ فيفقد
نغمته ورنينه، ومن الآداب المتبعة في المجتمعات عدم رفع
الصوت والتكلم بهدوءٍ ورويّة، وكانت المرأة لا ترفع صوتها
حتى وهي في بيتها، خاصة إذا كان عند زوجها ضيوف من عائلته
أو من غيرهم، حتى لا يعرِفَ أحدٌ نبرات صوتها وينقل صفاته،
فأين نحن اليوم من ذلك.
وكان من العيب أيضاً الضحك
بصوت مرتفع، اقتداءً بالمثل القائل: "الضحك من غير سبب من
قلة الأدب"، أما ضحكة أحمد أمين التي يريدها من الشدق إلى
الشدق، ويريد أن يٌمسك أضلاعه من شدتها، فهي لا تليق
بمجتمعٍ محافظ يرى في الهدوء فضيلة، وفي الرقة واللين
بياناً وبلاغة.
لا تستعمل أدوات الزينة قبل الزواج:
يحق للمرأة المتزوجة أن
تتزيّنَ وتتطيّبَ وترتدي الثياب الجميلة الجذّابة، وكلّ
ذلك بحُكْم كونها امرأةً متزوجة يحقّ لها أن تتزين لزوجها
وفي نطاق بيتها. أما الفتاة العذراء فلمن تتزين، هذا هو
السؤال الذي كان يطرحه الأهلُ على بناتهم، وربما كانت
الفتاة تسأل به نفسها، وترى أنه من العيب أن تتزين قبل
زواجها، فلا تكتحل، ولا تضع شيئاً من الدهون على وجهها،
ولا تتطيّب بعطورٍ نافذة الرائحة، لأنها لو فعلت ذلك
لاعتبروها قليلة حياءٍ وغير مربية تربيةً سليمة، فجميع هذه
الأشياء تصبح مسموحةً مُباحة بمجرد أن تُخطبَ أو تدخلَ عشّ
الزوجية.
فهل بقي شيء من هذه
العادة، أم أنها أصبحت في خبر كان وانضمت لقوافل العادات
التي سادت ثم بادت.
لا تلبس الثوب الأحمر:
كانت
الفتاة قبل زواجها تخيط لنفسها عدداً من الثياب تطرزها
بالحرير الأحمر والملون وتحفظها لذلك اليوم الذي تصبح فيه
زوجة، أما قبل زواجها فإن تطريز ثوبها يكون بالحرير
الأزرق، وقد تكون فيه ألوان
قليلة ولكن البارز منها هو الأزرق، وكانت تتمنطق بحزام
الشدّ الأزرق، أما الأحمر فكان مقصوراً على النساء
المتزوجات دون غيرها، وبما أن اللون الأزرق فيه حشمة وحياء
أكثر من اللون الأحمر فمن أجل ذلك كانت تستعمله الفتيات
قبل زواجهن. أما في هذا العصر فقد أصابنا عمى الألوان فلم
نعد نفرّق ما بين اللون الخافت الهاديء الذي يدلّ على
الحشمة والوقار وبين اللون الصارخ الذي يدلّ على الفتنة
والإغراء.
لا تأكل في السوق:
عادةٌ جميلةٌ أخرى كانت
سائدة في مجتمعنا، وهي أن المرأة لم تكن تأكل في السوق أو
في الأماكن العامة، أما إذا أرادت أن تتناول شيئاً من
الطعام فكانت تنزوي في مكانٍ آمن وتُدير وجهها نحو الحائط
وتتناول وجبتها بهدوء، ولم تكن تمضغ العلكة واللبان
وتمطّها مطَّاً وتُخرج فقاقيعها أثناء سيرها وعلى مرأى
الرائح والغادي دون أي اكتراث أو مبالاة، فأين نحن اليوم
من تلك العادات الجميلة التي ذهبت ولن تعود. وهل تقدُّمنا
يقودنا للأفضل أم يستدرجنا نحو الهاوية، أسئلة بحاجة إلى
تقييم وإعادة نظر من جديد.
غَضّ البصر:
كانت المرأة إذا ما سارت
في الطريق ورأت رجلاً في الناحية الأخرى، فإنها تغضّ بصرها
وتنظر أمام قدميها وتُشيح بوجهها نحو الجهة الأخرى، وحدثني
زميل يُعلّم في مدرسة بعيدة عن مدنيتنا الزائفة أنه رأى أن
هذه العادة ما زالت موجودة هناك، وقد سَرّه ما رأى وتمنى
لو أننا لم نبتعد عن جذورنا الأصيلة، ولم ننجرف وراء تيار
سرابٍ لا يُروي ظمأنا وغليلنا، ولكن هيهات فقد اتسع
الخَرْقُ على الراقع.
هذه بعض العادات التي سادت
ثم بادت في مجتمعنا، تُرى هل ستتبعها عاداتٌ أخرى.
qqq
---------------
نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء، 24 نيسان، 2010،
العدد (134).
جـميع
الحقـوق مـحفوظـة
« لا يسمح باستخدام هذه المادة
بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »
ولا
يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.
|