أحداثٌ تَمُرُّ في حياة
الإنسان تصبحُ مع مرور الزمن ذكرياتٍ من الماضي، وقد يكونُ
في هذه الذكريات ما يسرُّ، وقد يكونُ فيها ما يؤلم ولكن
الزمن كفيلٌ بأن يجعل الإنسان يعيش معها حلوةً كانت أم
مرّة. وقد سجلت لكم بعض هذه الأحداث التي مررتُ بها وما
زالت عالقة في ذهني لعلها تُشعل فتيلَ ذكرياتكم وتعود بكم
إلى الجميل منها وتفتح نافذةً تدخل منها نسائم البهجة في
نفوسكم وهذا غاية ما نطمح إليه ونتمناه للجميع.
كلّ حرفٍ بعصا:
في عام
1964 ذهبت للمدرسة للمرة الأولى، ولم أذهب في الأول من
أيلول، بل ذهب ابن عمٍ لي، أما أنا فذهبت في اليوم التالي
لأن أبي لم يكن قد اشترى لي بعد ملابس مدرسية أذهب بها
للمدرسة في اليوم الأول، وروى لي ابن عمي بعد عودته من
المدرسة بأن الأستاذ كتب لهم 29 حرفاً وطلب منهم أن
يحفظوها في الفرصة، وبما أنه لم يستطع حفظها في تلك الفترة
القصيرة، وليس له معرفة سابقة بها فقد ضربه المعلم 29 عصا،
بعدد الحروف الهجائية لأنهم كانوا يعلموننا اللام ألف
كأنها حرف واحد، وفي اليوم التالي ذهبت للمدرسة ولكنني كنت
خائفاً جداً فأنا لا أعرف الحروف ولم أتعلمها من قبل، فكنت
على يقين بأنني سألاقي من العقاب ما لاقاه ابن عمي، ولكن
شاءت الظروف أن يمرّ اليوم دون أن يضربني المعلم، وقد تكون
تلك العصيّ خفيفة للتخويف من أجل الحفظ، ولكنني على كل حال
سلمتُ منها، وتمرّ الأيام وقبل عدة أعوام أقرأ في الصحف أن
ذلك المعلم قد انتقل إلى جوار ربه، أما ابن عمي فقد سبقه
بسنوات، فرحمة الله على الأثنين وغفر لهما وأسكنهما فسيح
جناته.
يبكي على عصفور الدوري:
كانت المدرسة التي تعلمنا
فيها في بداية الأمر عبارة عن مبنى قديمٍ واحد، ثم أضافوا
إليها مبنى آخر يتسع لعدة صفوف، وكان للمبنى نوافذ زجاجية
كبيرة وبابه يفتح من جهة الشرق، ونقلوا صفنا لهذا المبنى
فسررنا كثيراً لأنه أوسع وأكبر ولأنه جديد أيضاً، وكان
يعلمنا معلم من الشمال يدعى حسني مواسي، وكان هذا المعلم
على درجة كبيرة من السماحة والطيبة، وكنا نحبّه ونرتاح
لدروسه، وحدث ذات يوم أن دخل عصفورٌ من عصافير الدوري في
غرفة الصف ولكنه عندما رأى الغرفة مليئة بالطلاب اتجه نحو
النافذة الزجاجية الكبيرة وهو يظنها مفتوحة فارتطم رأسه
بها ووقع على الأرض وقد فارق الحياة على الفور، أمسك
الأستاذ حسني ذلك العصفور الميت بين يديه وقد تدلى رأسه،
وصار يقلبه وينظر إليه ويبكي، وكان غريباً علينا أن نرى
منظر رجل كبير وهو يبكي، فكيف إذا كان أستاذنا، ورغم أننا
كنا صغاراً إلا أننا فهمنا أن أستاذنا توفيت له ابنةٌ في
ذلك الوقت، وعندما مات العصفور بين يديه تذكرها وبكى
بمرارة، وما زال ذلك المشهد حاضراً في شريط ذكرياتي حتى
اليوم، فرحمة الله على أستاذنا وعلى ابنته التي توفيت
قبله.
فظاظة الصحراء:
كنتُ في الصف الثاني عندما
رحل والدي إلى مدينة الرملة، وكانت المدينة صغيرة، وحولها
مزارع كبيرة من أشجار الزيتون التي كانت للعرب وهُجِّرَ
أصحابها في زمن الحرب، وبنى أبي بيته بين أشجار الزيتون
وكان بيتاً من الشَّعْر، وذهب في ذلك اليوم لسوق المدينة
لكي يشتري أغراضاً ولوازم للبيت وأخذني معه، وفي طريق
عودتنا مرّ بنا فتى يركب دراجة هوائية وعندما التفت إلينا
قلت لأبي أنظر إنه أحول، وكان به حَوَلٌ خفيف فسمع ما قلته
ولم يرقه ما سمع، ولكنني لم أكن لأخشاه لأني برفقة أبي،
وفي اليوم التالي أخذني أبي لمدرسة الجواريش وسجلني هناك
وعاد أدراجه، وما إن خرجنا للفرصة حتى لمحني ذلك الفتى
فجاء مسرعاً نحوي، وكان يكبرني بسنوات فأمسك بقميصي وهزني
بقوة وقال لي لماذا قلت عني ما قلت بالأمس، حاولت الإنكار
ولكنه عندما رآني غريباً قال لي بتهكم: لا تعيدها مرة أخرى
هل فهمت، فهززت رأسي بالإيجاب، ثم تركني وذهب، فنفضتُ ريشي
كطيرٍ يُفلت من بازيّ، ولم أكن أتصور بأنني سأخرج منها
بهذه السهولة، ولكن يبدو أن الحظ ابتسم لي في ذلك اليوم،
وأذكر أنني لم أكن أقصد الإساءة لذلك الفتى ولكن لغة
الصحراء رغم بساطتها وعفويتها وصدق معانيها إلا أن البعض
يرى فيها جفاءً وغِلظة نابعة من بيئة أهلها الصحراوية
الجافة.
درس الانجليزي:
كان أبي يدللني كثيراً،
وربما كان يفرط في ذلك بعض الشيء، وكثيراً ما كان يصطحبني
معه لسوق الخميس فأجدها فرصة سانحة لأغيب عن المدرسة، ولكن
معلم اللغة الانجليزية لم يكن يعجبه غيابي، وكنا نتعلم
الانجليزية في كتاب اسمه "تعلَّم الانجليزية" وكان له
قاموس صغير فيه المفردات الجديدة لكل درسٍ ودرس، وفي أحد
الأيام التي غبتُ فيها تعلّم طلاب صفنا درساً جديداً وشرحه
المعلم لهم مع مفرداته الجديدة، وأخبرني ابن عمي أن المعلم
سأل عني، ولما كنتُ أعرف شراسة عقل ذلك الأستاذ قلت بأنه
سيبحث عن أي سبب ليعاقبني على غيابي، فما كان مني إلا أن
قرأت الدرس عدة مرات حتى حفظته جيداً، ثم حفظت المفردات
الجديدة عن ظهر قلب، ولما عدنا للمدرسة وفي الحصة التي
يعلمنا فيها ذلك المعلم، أخذ يسأل الطلاب في بداية الأمر
ويتجاهلني، ثم تقدم عدة خطوات ووقف بجانبي ومعه ذلك
القاموس الصغير، وأخذ يسألني عن كلمة وكلمة، وكنتُ أجيبه
عن كل واحدة منها إجابة صحيحة، وقد سألني عن جميع المفردات
الجديدة ولم يترك واحدة منها وكانت أكثر من 30 كلمة، ولما
أعيته الحيلة ولم يجد سبباً يعاقبني من أجله التفت إليّ
وقال بحنق: أتدري لو غلطت في كلمة واحدة ماذا كنت سأفعل
بك، قلت أعرف ومن أجل ذلك حفظت الدرس جيداً، فتركني وذهب،
فتنفست الصعداء وأفلتُّ بريشي مرة أخرى من عقابٍ كان شبه
مؤكد.
نحفظ القرآن في الطريق:
لم يكن
أهلنا من المتعلمين بل كانوا من عامة الناس، وكنا نذهب
للمدرسة سيراً على الأقدام مسافة 3 كيلومترات ذهاباً
ومثلها إياباً، وكنا في الطريق نطلب من الطلاب الذين
يكبروننا سناً أن يعلمونا سورة الفاتحة وسورة الإخلاص وبعض
السور القصيرة الأخرى التي كنا نتعلمها في دروس الدين في
ذلك الوقت، وقد اتسعت صدورهم فعلمونا إياها حتى حفظناها عن
ظهر قلب، وكذلك الحال بالنسبة للدروس الأخرى، ولولا هؤلاء
الطلاب للاقينا من العذاب والعَنَت الشيء الكثير، فأين نحن
من طلابنا اليوم والذين تتوفر لديهم كل الأشياء التي كانت
تنقصنا في السابق، وكل الأشياء التي لم نكن نحلم بها من
قبل.
الأستاذ نظير:
كان الأستاذ نظير في العقد
الخامس من عمره، وكان رفيعاً ناحل الجسم، وكان يُعلّمنا
النشيد في مدرسة الجواريش الابتدائية في الرملة، وكانت تلك
الأناشيد التي يعلمنا إياها من كتابٍ لشاعر يُدعى سليم
شعشوع، وعندما ذكرتُ اسمه لأبي قال إنه يعمل كاتباً في
المحكمة الشرعية في يافا، وجاءت بعده معلمة لا أذكر اسمها،
وكان صوتها عذباً رخيماً فعلمتنا أنشودة ما زلت أذكر
بعضها، ومنها:
قُم بنا نمشي سوى .... قُم
إلى شم الهوا
إنه خير دوا ....قُم بنا
نمشي سوى
وهكذا تقدم بنا العمر،
وأبعد بنا نَوْءُ الزمان وأصبحت تلك الأحداث التي مررنا
بها صفحاتٍ مطوية في سجّل الذكريات، نقفُ عندها مرةً
للذكرى، وللعِبرة مرات أخرى.
رهط
في: 03 أيار، 2010
qqq
---------------
نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء،
05
أيار، 2010،
العدد (135).
جـميع
الحقـوق مـحفوظـة
« لا يسمح باستخدام هذه المادة
بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »
ولا
يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.
|