تُعتبر الصحراء المنبع الثرّ والمنهل الغزير لمفردات اللغة العربية، ولمصطلحاتها المختلفة، الذي نهل منه اللغويّون ودوّنوا مصنفاتهم
المختلفة في النحو والصرف وعلوم اللغة الأخرى. ويعتبر البدويّ المصدر
الموثوق الذي أخذ عنه هؤلاء العلماء واعتمدوه واستشهدوا به، ومن يراجع
معاجم اللغة العربية يجد ذلك الأثر واضحاً جلياً، فهناك بيت البدويّ
وأدواته ودوابه وشِعره وأراجيزه، وقد أخذت في هذا المقال أداة من
الأدوات التي استعملها البدويّ في حياته البسيطة المتواضعة وهو الحبل
الذي يشدّ به بيته ويربط به دابته، وهذه بعض الأمثلة:
يقال فلان يمسك بزمام الأمور، والزِمام هو الخيط الذي يُشَدّ إلى طرفه
المقوَد الذي تُربط به الدابة، وكأن الأمور دابة لها زمام تُمسك منه، وتُشَدّ ويحكم قيادها، ويقال كذلك: قطع عليه حبل أفكاره، وهو من
الحبل الذي تُربط به الدابة، فإذا انقطع انتبهت إلى نفسها وأفلتت وتركت
مكانها.
وهناك قول آخر يقول: لم يستطع الكاتب أن يتحرر من ربقة العادات..
وأعتقد أن الجميع هنا يعرفون الرِّبْق وهو حبل ذو عُرى وحلقات لربط
الدواب وخاصة المواشي منها، والربقة هي الحلقة الواحدة من الربق، وما
زال الناس هنا يستعملون الربق في سوق المواشي لربط مواشيهم من أجل
بيعها.
ونقول أيضاً: أرخى فلان العنان لعواطفه، والعِنَان هو سَيْر اللجام
الذي تمسك به الدابة وخاصة الفرس، وكأن العواطف فرس فإذا أرخينا لها
العنان أخذت تعدو بسرعة وبحريّة، حتى نحدَّ من جريها بواسطة شدّ
العنان.
وفي
أمثالنا العامية نقول: فلان بطانه رخو، والبطان الرخو هو الحزام الذي
يوضع على بطن الفرس ليشدّ السرج فلا يميل، أما من يتركه رخواً وغير
مشدود فهو يعرّض نفسه للوقوع السريع حين ركوبه على فرسه. وكأن من لا
يحسن تربية أبنائه كمن يركب فرسه دون أن يشدّ حبل السرج باحكام ويعرّض
بذلك نفسه للوقوع في كل لحظة.
ويقال: أرخى لها الحبل على الغارب، والغارب من البعير هو ما بين
السنام والعنق وهو الذي يلقى عليه خِطام البعير إذا أرسل ليرعى حيث شاء،
وأرخى لها الحبل على الغارب يقال للمرأة التي تركت لتعمل ما تشاء دون
أن يكون هناك من يراقبها ويحافظ عليها من جانب الأهل أو الزوج.
ونقول كذلك: فلان تقيده ظروف المجتمع، والقيد
هو الحبل الذي يوضع ويربط في
رجل الدابة فيمسكها ويحدّ من حريتها في التنقل.
ومن
أمثالنا العامية أيضاً: "العقدة اللي بتحلّها بايدك أحسن من اللي بتحلّها بسنونك"، يقولون ذلك عند حدوث بعض المشاكل وضربوا لذلك مثلاً
عقدة الحبل التي يمكن حلّها في البداية باليد دون أي عناء، فإذا تركت
يصعب حلّها ونحتاج إلى استعمال الأسنان إضافة إلى الأيدي في حلّها.
والعُقْدَة هي ما انعقد من الحبل، حتى يصعب فكها، ويقال: تعقّدت الأمور
أي أصبح حلها عسيراً.
ونقول في أحاديثنا العامية: لا ترخي لها المَرَس، والمَرَس هو حبل
البَكَرَة، أي لا تتركها وشأنها، وكذلك نقول إذا أطلقت المَرَس لفلان
فهو يسرح بعيداً، أي إذا تركته على رأيه فانه يسرح بعيداً وهو بحاجة
إلى من يشدّ له الرسن ولا يتركه في غلوائه. يقول أمرؤ القيس في
معلقته يصف الليل الذي تمطّى بصلبه، بعد أن أردفَ أعجازاً وناءَ بكلكلِ:
فيا لكَ من ليلٍ كأَنَّ نجومَهُ بأمراسِ
كِتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
والحقيقة إنني لم أكن أدري حين بدأت في كتابة هذا المقال بأن الحديث عن
الحبال سيتسع إلى هذا الحد، ولكن يبدو أن الحبال تجر بعضها بعضاً وهذا
ما حصل معي بالفعل.
* * *
|