لا يختلف اثنان في أنّ اللغة العربية كانت
معروفة في العصر الجاهلي، وأنّ لغتنا الجميلة كانت تشغل بال كثير من
المفكرين والشعراء والخطباء،، يلتمسون ودّها، وينظمون دررها،
ويغترفون من نبع معانيها الثرّ أجمل القصائد، وأعذب الألحان. ومن
يراجع معجم مفرداتها في ذلك العصر، يجدهُ من أغنى المعاجم من حيث وفرة
الكلمات وكثرة التشابيه، وتعدد الأسماء للمسمى الواحد.
ومن حسن الحظ أن يحفظ لنا التاريخ شيئاً غير
يسير من آداب تلك الفترة وأشعارها، لعل أهمها تلك القصائد الطويلة
التي تسمى بالمعلقات، وقد ذهب بعض الرواة إلى أنها قصائد كُتبت في القباطيّ بماء الذهب وعُلّقت على أستار الكعبة. إضافةً إلى العديد من
أشعارهم وخطبهم، وأمثالهم، وأخبار حروبهم ووقائعهم التي تحفظها لنا
أُمهات الكتب من كتب الأدب القديمة.
وبرغم وفرة ما وصل إلينا من أدب الجاهليين
وشعرهم، إلا أن الضياع قد أتى على الكثير من آدابهم وأخبارهم، وخاصةً
القديمة منها، ويقول أبو عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالته
العرب إلا أقلّه، ولو جاءكم وافراً، لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير".
ويقدّر الباحثون عمر الأدب المدوّن الذي وصل
إلينا من الجاهليين بقرنين من الزمان قبل الإسلام. ولعلّ من الدليل
على شيوع الكتابة في العصر الجاهلي، إننا نجد شعراءهم يصفون الأطلال
كثيراً بنقوش الكتابة، فها هو المرقَّش في فاتحة قصيدةٍ له يقول:
الدار قفر والرسوم كما
رَقَّشَ في ظَهرِ الأديمِ قَلَم
ويقول لبيد في مطلع معلقته:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبَّدَ غولُها فرجامُهـا
فمدافع الريان عري رسمها خلقاً
كما ضَمِنَ الوُحيَّ سِلامُها
والوحي: الكتابة، والسِّلام: الحجارة البيض
التي كانوا يكتبون عليها وكانوا يكتبون أيضاً في الأدم، أو الأديم
الذي مرّ في بيت المرقّش، وهو الجلد المدبوغ يُكتب عليه، كما كانوا
يكتبون في عسب النخل، ويستمر لبيد في معلقته فيقول:
وجلا السيولُ عن الطلولِ كأنها
زُبُرٌ تجدُّ مُتونَها أقلامُها
والزبر جمع زبور وهو الكتاب.
ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي:
لإبنةِ حِطَّان بن عوفٍ منازلُ
كما رَقَّشَ العنوان في الرَّقِّ كاتبُ
والرَّقّ: الجلد الرقيق يُكتب عليه.
ويقول سلامة بن جندل وهو فارس جاهليّ
معروف:
لمن طللٌ مثل الكتابِ المنمّقِ
خلا عهدُهُ بين الصُّلَيبِ فمُطرِقِ
والصليب ومطرق: اسمان لمكانين .
كذلك نجدهم يذكرون الصحف والصحائف والكتب التي
تعني الرسائل، كما ورد في قصة مقتل طرفة بن العبد:
رُوي أنَّ طَرَفَة بن العبد الذي كان يمدح الملك
عمرو بن هند، أحد ملوك المناذرة (الذين تأسست دولتهم حول عام 240 م
واستمر حكمها حتى سنة 633م حين فتح عاصمتهم الحيرة خالد بن الوليد)
قد انقلب على الملك وهجاه، فصمّم عمرو بن هند على التخلّص من طرفة ومن
خاله الشاعر المتلمّس، وما كان منه إلا أن حمّل كلا منهما كتاباً إلى
عامله على البحرين، وفي كل كتاب أمر بقتل حامله، بينما الشاعران
يظنّان أن فيهما أمراً بجائزة لهما، وفيما هما في الطريق ساور الشك
صدر المتلمّس فارتاب في أمر كتابه، ففك ختمه، وجاء إلى غلام من أهل
الحيرة فقال له: أتقرأ يا غلام ؟
فقال: نعم، فأعطاه الصحيفة فقرأها فقال الغلام: أنت المتلمّس؟ قال: نعم، قال: النجاة! فقد أمر بقتلك،
فأخذ الصحيفة وقذفها في جدول اسمه كافر ثم أنشأ يقول:
وألقيتُها بالثني من جنبِ كافرٍ
كذلك ألقي كلَّ رأيٍ مضلّـل
رضيتُ لها بالماءِ لما رأيتُهــا
يجولُ بها التيّارُ في كلِّ جـدولِ
وهرب المتلمّس إلى الشام وعند وصوله
أنشأ يقول:
من مبلغُ الشعراءِ عن أخويهـمُ
نبأً فَتَصْدُقُهم بذاكَ الأنفُــسُ
أودى الذي عَلِقَ الصحيفةَ منهما
ونجا حذار حياتِهِ المُتَلَمِّـــسُ
أما طرفة الذي لم يشكّ في أمر صحيفته،
فقد مضى إلى حتفه.
وقد ردّد الشعراء مثل هذه الصور كثيراً في
أشعارهم، وما من ريب في إنّ ذلك يؤكد أنّ الكتابة كانت معروفةً في
العصر الجاهلي، كذلك كانوا يكتبون عهودهم السياسية، وكانوا يسمون تلك
العهود المكتوبة "مهارق" وقد جاء ذكر هذه المهارق في معلقة الحارث بن
حلّزة مشيراً بها إلى ما كُتب من عهود بين بكر وتغلب إذ يقول:
واذكروا حِلْفَ ذي المجازِ وما
قُدّمَ فيه العهودُ والكُفـــلاءُ
حذر الجورِ والتعدّي وهل ينقضُ
ما في المهارق الأهــواءُ
فالعرب إذن، استخدموا الكتابة في العصر الجاهلي
لأغراض سياسية وتجارية، إضافة إلى الأغراض الأخرى المذكورة، وكانوا
يجلبون الورق من الصين، وورق البرديّ من مصر. وبهذا نكون قد ألقينا
بصيصاً من نور على هذه الفترة والتي تمتد حتى بداية القرن الثالث
الميلادي، ووجدنا أنّ اللغة العربية كانت تتمتع بقدر كبير من العناية
والاهتمام، تكلماً، وقراءة، وكتابة، أما عن أحوالها في فترة منسية
من التاريخ لَم تلقَ عليها إلا أضواء خافتة ضئيلة، فهذا ما سنتناوله في
مقال قادم إن شاء الله....
الأحد 30 /10/1994
* * *
|