قال لي صاحبي والليل معتكر، إني أراك منطوياً
على نفسك، غارقاً في همومك، فتعال بنا نتذاكر بعض الأحاديث، ونتداول
في شؤون الساعة. قلت: إني أجد متعة في الانطوائية لا تفوقها متعة،
وأشعر أن الكاتب الإنجليزي شكسبير قد بلغ قمة البلاغة حينما قال:"
أشعر أنني أقل وحدة عندما أكون لوحدي ".
قال صاحبي: دعك من هذا الهذيان، وهذا التقوقع
الفارغ، وحدثني عن أدبنا المحلي، فهو أحد المجالات التي تجيد الخوض
فيها، وهو ربما أقرب المواضيع إلى قلبك.
قلت: وأي أدب تقصد ؟
قال: الأدب الذي ينتجه أدباؤنا من
الجنوب وتفرزه قرائح أبنائنا من النقب.
قلت: نعم، لنا أدب جنوبي وليد، ما زال يخطو
خطواته الأولى، وأتمنى أن ينمو ويزدهر، ولكن هناك أدب من نوع آخر،
بدأ يظهر على الساحة، ألم تسمع به ؟
قال مستغرباً: وما هو هذا الأدب ؟
قلت: ألا تذكر معي قصة الجمل والطرمبيل الذي
لحمه من الكاوشوك وعظامه براغي؟
وهنا لم يتمالك صاحبي نفسه وبدأ يقهقه
بصوت عال.
قلت: لا تضحك يا صاحبي، هذا هو الأدب الذي
نقرأه الآن في الصحف. فهو يحدثنا عن الناقة، والبُطنان، والوِثر،
والهودج، وكل ما استعمله السلف في الأزمان الغابرة.
قال: وماذا يضيرك من ذلك ؟
قلت: يضيرني انه يكتب "ضحك" بالظاء، "بعيداً" بالنون، ويعيدنا إلى عصر السجع الممقوت الذي قضى نحبه في بداية هذا
القرن.
قال: هذا رأيك فعبر عنه كيف شئت، ولكن هل لك
ما تقوله حول صحافتنا المحلية ؟
قلت: أجل، أجل، ما أكثر الصحف المحلية التي
ظهرت في بلدنا، وما أكثر الضجة التي أثارتها حول نفسها، ولكنها كانت
صحفاً دعائية، أشبه بالمناشير منها بالصحف، فهي تظهر لإبراز رأي معين، أو لتضخيم فكرة معينة،
ثم لا تلبث أن تذوي كشمعة قديمة بجانب الموقد.
قال: وما رأيك في الأدباء والشعراء ؟
قلت: نعم، إنهم يشبهون السلعة الكاسدة التي لا
تجد من ينظر إليها، أو يلتفت لها، أو يشبهون الوردة الذابلة التي ذهب
أريجها، فسقطت على الطريق، وداستها الأقدام السائرة، دون أن تحس بها،
أو تشعر بوجودها، انهم ينتظرون لفتة محبة من سيف الدولة، ولكن هيهات
فأبو فراسٍ يقف بالمرصاد.
قال: وماذا يعني لك ذلك ؟
قلت: يعني لي أننا نعيش في ليل فكري مطبق، لا
أدري متى تشرق شمسه، وفي عصر يرى في المفكرين فئة هامشية ثرثارة، لا
حول لها ولا قوة، ولا عمل لها إلا الثرثرة الفارغة، والكلام الأجوف
المقيت.
قال: أراني بحديثي قد أخرجتك من
انطوائيتك ؟
قلت: وليتك لم تفعل ذلك، فقد فتحت عليّ جروحاً،
قد يمر وقت طويل قبل أن تلتئم.
2/9/1994
* * *
|
|