مشكلتي أنني عندما أتكلم تثور حولي ألف
زوبعة.
لا شك أن أدبنا المحلي في الجنوب هو أدب وليد
ناشئ، ما زال يخطو خطواته الأولى على طريق الأدب وعلى دروب الفكر،
لذلك فهو بحاجة ماسّة إلى من يرعاه، ويأخذ على عاتقه النهوض به، لينمو
ويتطور ويبلغ ما وصل إليه الأدب العربي في البلاد، وفي البلدان العربية
الشقيقة.
ولكن الناس في الجنوب عامة - ولا أقول
القارئ -
فالقارئ يتذوق الأدب الجيّد ويقرأه بشغف، ويتابع تطوره باهتمام.
الناس هنا يعتبرون الأدب من البضاعة الكاسدة، التي لا تسمن ولا تغني
عن جوع، ويعتبرون الكاتب أو الشاعر رجلاً أضاع وقته في الثرثرة والحكي
الفاضي.
في حين أن الحقيقة تنفي هذا القول،
وتدحض هذه الحجة الباطلة، لأن الأدب يدلّ على رقيّ الأمة، وعلى المستوى
الثقافي الذي وصلت إليه.
الأدب يدلّ على عقلية العصر، ويؤرخ للعصر الذي
يعيش فيه، فلولا أدب المتنبي وشعره لما عرفنا دقائق حياة سيف الدولة،
ولولا المعلقات لما عرفنا عن العصر الجاهلي شيئاً، ولولا أهمية الأدب
لما قام سوق عكاظ ليفد إليه القاصي والداني من بلغاء العرب وشعرائهم.
التعتيم المتعمد:
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الصحف العربية التي
تصدر في الشمال تفتح صدرها لإنتاجنا المتواضع، ولما تجود به قرائحنا
من خواطر أو قصائد أو مقالات. بينما الصحف العربية في الجنوب على
قلتها، وضحالة المادة التي تنشرها، وتخبطها الفظيع في الأخطاء اللغوية
والنحوية، تتجاهل أدبنا بشكل تام، وكأنما ما يحدث هنا في واد، وهي في
واد آخر.
فإذا بعث أحدنا إلى صحيفة هنا بمقال
أو قصيدة، يضعها المحرر بعد أن يعصرها بيده الكريمة في سلة المهملات
التي تفغر فاها لابتلاع مثل هذا الأدب الذي لا يروق صاحبنا لأنه لا
يفهمه ولا يتذوقه.
وإن اضطر بعضهم أن ينشر القليل من هذا
الأدب، فإنه يصغره حتى لا تكاد تراه إلا بمجهر، وتمر من جانبه دون أن
تراه إلا إذا دققت النظر أو استعرت عيني زرقاء اليمامة.
بينما السائد هنا هو النسيان التام
وعدم النشر المطلق، فالنسيان نعمة من نعم الله على البشر، فتبصروا يا
أولي الألباب.
المجالس لديها ما يشغلها:
من ناحية أخرى لو أننا أردنا التطفل قليلاً،
وقام أحدنا بالتوجه إلى المجلس المحلي في بلده، أو إلى المسؤول عن قسم
الثقافة في البلدية ، فانه عادة يرحب به ويعده خيراً، وأنه سيبحث
الموضوع مع المسؤولين، ولكن بمجرد أن يخرج من عنده ينساه المسؤول لأنه
ليس على البال أصلاً. وكأنه يقول له:" أبْشِر ولا ترْكن ".
وإذا سألتهم مرة أخرى يقولون لك: يا
أخي لدينا قسم للثقافة فتوجه له فهذا الموضوع من اختصاصه، وسيعطيك
الرعاية التامة.
وعندما نذهب، وهذا ما حدث بالفعل، يجلس المسؤول
يشرح لنا عن نفسه وعن قدراته المختلفة أكثر من ساعتين، وفي نهاية
الجلسة نخرج بخفي حنين، ولو كان حنين موجوداً يبيع الخفاف لأصبح أكبر
تاجر في المنطقة لأن بضاعته رائجة جداً في منطقتنا.
المصالح
الشخصية:
وهناك مشكلة من نوع آخر، وهي كيفية الانتفاع من
الأدباء، أو استثمارهم حسب التعبير الاقتصادي. فإذا أقام أحدهم
احتفالاً انتخابياً، فهو يفضل أن يزيّنه بمزهرية شعرية ينتقيها هو حسب
ذوقه ومزاجه. فيدعو شاعرنا ليكتب له قصيدة "يفجّر" فيها هذا الحدث،
ويعدد مناقب صاحبنا وصفاته الكريمة، ويذكر مشاريعة "الخطيرة " التي
ينوي القيام بها مستقبلاً لخدمة الأهل وأبناء البلد، "وغالباً ما يخدم
أبناء عائلته وحمولته المقربين".
فإذا اعتذرت ولم تقم "بالواجب" فلا تنتظر منه أن
يحيّيك في الغد، أو أن يرد عليك السلام. وهنا يبرز بيت الأخطل الصغير
الذي يقول فيه:
أفحتمٌ عليَّ إرسال
دمعي كلما لاحَ بارقٌ في مُحَيَّا
بينما تكون مشكلة شاعرنا مع قريحته التي تشبه
الناقة التي لا تدرّ إلا إذا أحضرنا إبنها لها، وكذلك الحال بالنسبة
لقريحته فهي لا تجود إلا إذا عاشت الحدث وشعرت به يتغلغل في عمق
أعماقها.
الصحافة المحلية بحاجة إلى عصا غليظة:
ليس عيباً أن نعرف أخطاءنا، ومن منا لا يخطيء
فالكمال لله وحده، إنما العيب أن نترك هذه الأخطاء تسرح وتمرح كيفما
شاءت، فتزيد من حدة الوضع وتشوّه الصورة التي نريدها جميلة جذابة.
فالصحف المحلية في جنوبنا الغالي تعاني من مرض الأخطاء اللغوية
والنحوية، وهي بحاجة إلى تطعيم ضد هذا الوباء، ولا بد من حقنة.
وعلى كل صاحب صحيفة أو مجلة أن يعهد إلى معلم
للغة العربية ينقح له المادة، ويصحح له الأخطاء اللغوية والنحوية قبل
الطباعة، وهذا لا يدلّ على جهل صاحب الصحيفة باللغة - حاشا لله -،
إنما يدل على وعيه التام، وحرصه على صحيفته أن تخرج للناس سليمة
معافاة. كما يحب لها أن تكون.
ما قلناه ليس الكل:
إذن هذه بعض الأمور التي نخشى مواجهتها، ونتجاهلها على أهميتها،
ونتحاشى الخوض فيها، وقد أكون وفقت في طرح بعضها، ولكنها ليست الكل، فهناك أمور عديدة أخرى يجب أن نواجهها بكل شجاعة، لنقلل من الأخطاء
التي يتخبط فيها مجتمعنا، لأننا نريده مجتمعاً طيباً نعتز ونفخر به
أمام الشعوب، والله من وراء القصد.
26 تموز 1997م
* * *
|