الغولة وابن الملك |
كان لأحد الملوك ثلاثة أولاد في غاية الجمال والأدب، وقد بنى لهم قصراً من زجاج ووضعهم فيه، ولم يسمح لهم بالخروج خوفاً عليهم، وكانت إحدى الخادمات تأتيهم بطعامهم في كل يوم، وهو عبارة عن بيضٍ لا قِشْرَ فيه, ولحم لا عظم فيه, وفجل لا ورق فيه, وظلت هذه الخادمة تأتيهم بطعامهم وتخدمهم فترةً طويلة حتى توفاها الله، فصارت تأتيهم بطعامهم خادمةٌ جديـدة فأتـت لهم بالبيـض وقشـره فيه, واللحم وعظمه فيه, والفجل وورقه فيه, فقالوا لها لماذا تأتينا بالطعام على هذه الصورة, وقد تعوّدنا أن يصلنا البيض ولا قشر فيه، واللحم لا عظم فيه، والفجل لا ورق فيه, فقالت لهم: تُقشِّرون البيض فتتسلون بتقشيره, وتأكلون اللحم وتمصمصون العظم فتتسلون بذلك, وقد يعجبكم ورق الفجل فتأكلون منه, فقالوا لها: نِعم الرأي فعلتِ، وأنت على حقّ في ذلك, واستمرت الخادمة تأتيهم بطعامهم على هذه الطريقة مدةً من الزمان، وفي إحدى المرات رمى أحدهم بالعظم فكسر زجاجةً من زجاج القصر وعمل فجوة صغيرة فيه, فنظروا من خلالها إلى العالم الخارجي, وإذا هناك بيوت وأناس ودواب وأراضٍ خضراء, فأعجبهم ذلك المنظر، وقالوا لماذا نحن في هذا السجن, وعندما أتتهم الخادمة قالوا لها قولي لأبينا, إذا كنا بنات نريد أن نتزوج, وإذا كنا أولاداً نريد أن نتزوج, وإذا كنا زرعـاً نريد أن نُحصد. فأبلغت الخادمة أباهم الملك بذلك، فذهب إليهم وقال لهم سأزوجكم, وغداً سآمر جميع بنات المملكة بالمرور من تحت هذا القصر, وإذا أعجبت أحدكم واحدة منهن فليرمها بحبة تفاح، وسوف أزوجها له. ومرّت البنات .. جميع بنات المملكة مررن من تحت القصر، وكان أولاد الملك يتفحصون بأنظارهم تلك البنات, ورمى أكبرهم واحدةً بحبة تفاح، وبعد فترة, رمى أوسطهم حبة التفـاح على فتـاةٍ أخـرى، أما الصغير فلم يرمِ بحبة التفاح التي كانت معه, وأمر الملك البنات أن يمررن مرةً أخرى ففعلن, ولكن الابن الأصغر لم يرمِ إحداهن بتفاحته، وكانت هناك فتاة تخلّفت عنهن فأمرها الملك بالمرور فمرّت, فرمى ابن الملك تفاحته عليها, فكانت البنتان التي رماهما الأخوان الأكبر والأوسط ابنتي عميهما, أما التي رماها الابن الأصغر فكانت "غولةً". وزوج الملك أبناءه ودخل الأخوان الأكبر والأوسط على عروسيهما وخرجا للناس، أما الأصغر فلم يخرج, وبقي ثلاثة أيام دون أن يخرج فقلق والده الملك وأهله عليه, وفي الليل تسلّل أبوه ونظر من خلال فتحة في القصر فرأى ابنه مرمياً على ظهره وعلى صدره رحىً ثقيلة, وغولة عيونها صفراء كالنار تديرها وتجْرُشُ عليها, ففزع الملك مما شاهدت عيناه وفرّ هارباً, وأمر جميع قبيلته بالهروب في جنح الظلام, ولم يبقَ خلفهم سوى فرس عجوز هرمة, وعندما أتى الصباح لم يبقَ لهم أثر في المكان, وعاد الابن الأصغر إلى وعيه وطلب من زوجته الغولة أن تسمح له بالخروج ليرى النور ولو لفترة قصيرة, فقالت له: لا تحاول أن تهرب, لأنك لو هربت خمسة أعوام فأنا أقطع هذه المسافة في خمسة أيام, وسمحت له بالخروج فرأى النور ولم يرَ أحداً من أهله وقبيلته فتعجّب لذلك, ورأى الفرس الهزيلة وأراد أن يركبها ويهرب من المكان، فنطقت الفرس وتكلمت وقالت له: أنا فرس هزيلة ولا أستطيع الجري، وإن هربنا فسوف تلحقنا الغولة وتأكلنا معاً، وكانت مع الفرس مُهرة صغيرة، فقالت له: خذ هذه المُهرة واركبها, وستكلمك المهرة كما كلمتك أنا, وخذ معك هذه العيدان الثلاثة، وهي عود أسود، وعود أحمر، وعود أبيض، وعندما تلحقك الغولة ارمِ بالعود الأسـود, فينبت بينك وبينها شوكٌ كثيف يُعيقها إلى حين، فتبتعد عنها، وعندما تلحقك مرةً ثانية ارمِ بالعود الأحمر, فتهب نيران بينك وبينها تعيقها إلى أن تبتعد عنها, وعندما تلحقك للمرة الثالثة ارمِ بالعود الأبيض فيصبح بينك وبينها سبعة بحور وهكذا تتخلص منها نهائياً. وفعل الابن الأصغر ما أشارت به الفرس العجوز وركب المهرة وأخذ العيدان الثلاثة وهرب. وانتظرت الغولة أن يعود زوجها ولكنه تأخّر وأبطأ عليها فخرجت تبحث عنه وعندما تأكد لها أنه هرب منها، لحقت به مسرعةً حتى اقتربت منه، فرمى بالعود الأسود فسدّ بينه وبينها شوكٌ كثيف وما استطاعت أن تخلّص نفسها منه إلا بعد جهد، وقد أصبح على مسافة بعيدة عنها, ولحقت به للمرة الثانية وعندما اقتربت منه رمى بالعود الأحمر، فشبّت نيرانٌ عالية وحالت بينها وبينه, وما أطفأت قسماً منها، وفتحت ممراً لها, حتى أصبح على مسافة بعيدة عنها, وعندما لحقت به للمرة الثالثة واقتربت منه، رمى بالعود الأبيض فسدَّ بينه وبينها سبعة بحور, وهكذا تخلص منها نهائياً. سار ابن الملك على مهرته وحيداً في البراري بعد أن أمن شرَّ الغولة, وأثناء سيره وجد ريشة طيرٍ مكتوب عليها, «مَن يأخذني يندم ومَن يتركني يندم», فقال في نفسه إذا تركتها فأنا نادم وإذا أخذتها فأنا نادم, فآخذها وأندم أفضل من أن أتركها وأندم, وهكذا فعل، وسار حتى وصل إلى أقرب بلدٍ وبات فيها, وكان مبيته قريباً من قصر ملك تلك البلاد, وفي الليل غنّت الريشة غناءً شجياً، وطرب ابن الملك لغنائها، وسمع ملك تلك البلاد ذلك الغناء الشجيّ فقال آتوني بالمغنّي, فبحثوا عن مصدر الغناء وسألوا الناس القريبين من المكان عن مصدر هذا الغناء، فأنكروا خبره، وقال بعضهم إنهم لم يسمعوا به، وأخيراً قال أحدهم ربما يكون مع هذا الغريب، وعندما سألوه قال نعم، إنها هذه الريشة، وهي التي كانت تغني في الليل بذلك الصوت الشجي، فأخذوه للملك، وعندما عرف الملك بأن الريشة هي التي كانت تغنِّي، قال لها: غنِّ يا ريشة، فقالت لا أغني حتى تأتوني بطَيْرِي، فقال الملك: ومن يستطيع أن يأتي بطيرك، فقالت الذي أتى بي يستطيع أن يأتي بطيري، فقال ملك تلك البلاد لذلك الغريب: أمهلك ثلاثة أيام وثلث اليوم على أن تأتيني بطيرها, وإن لم تفعل، فسوف أقطع رأسك، فخاف ابن الملك الصغير وندم على حمله لتلك الريشة وقال هذا أول الندم, وسار ابن الملك على وجهه, والهمّ يعتصره ويأكل قلبه, ورأته المهرة وهو على هذه الحالة، فقالت له: ما الذي جرى لك، ولماذا أنت قلق, فأخبرها بالقصة, فقالت له: لا تقلق فهذا من أسهل الأمور، فقال لها: كيف ذلك، فقالت: اذهب إلى الملك واطلب منه قفصاً، وحبّةً سوداء وتعال إليّ, فذهب للملك فأعطاه ما طلب, وعاد فدلته المهرة على مكان يضع فيه القفص ويضع فيه الحبة السوداء، وجاء الطير, ودخل في القفص وأخذ يأكل من الحبة السوداء، فأغلق ابن الملك القفص عليه, وأخـذه إلى الملك, فقال الملـك: غنِّ يا ريشة، فقالت لا أغَنِّي حتى يُغَنِّي طيري، فقال غنِّ يا طير، فقال لا أغنّي حتى تأتوني بزوجي، فقال الملك ومن يستطيع أن يأتيك بزوجك، فقالت الذي أتى بالريشة، وأتى بي هو الذي يستطيع أن يأتي بزوجي, فقال الملـك: أمامك ثلاثة أيام وثلـث اليوم لتأتي به, وإن لم تأتِ به أقطع رأسك, وسار ابن الملك على وجهه, وهو حيران قلق, والحزن ينهش قلبه, ورأته المهرة وهو على هذه الحال فقالت ما بك هكذا، وما الذي أصابك فأخبرها بقصتـه, فقالت وهذا هيّن أيضاً, فقال لها وماذا أفعل، فقالت: عُد إلى الملك واطلب منه عربتين مملوءتين بالألبسة وتعال إليّ, فعاد إلى الملك وأعطاه ما طلب، فقالت المهرة: اذهب الآن إلى السوق وبع هذه الألبسة بنصف الثمن وعندما يأتي زوج الطير سأدلك عليه، فأغلق عليه الباب وأمسك به. وذهب ابن الملك إلى السوق وذهبت معه المهرة وصار يبيع الملابس بنصف الثمن وأقل من النصف, وتهافت عليه الناس وبدأوا يزدحمون حوله, وأقبل زوج الطير وأراد أن يشتري فقالت له المهرة هذا هو فقال له ابن الملك ادخل واختر ما تريد من الملابس، فدخل, وعندها أغلق ابن الملك عليه الباب, وحمله وسار به إلى الملك, فقال الملك: غنِّ يا ريشة فقالت لا أغني حتى يغني طيري، فقال غنِّ يا طير، فقال لا أغني قبل أن يغني زوجي، فقال غنِّ يا زوجها, فقال لا أغني حتى تأتوني بخاتمي، فقال الملك: وأين هو خاتمك، فقال: سقط في البحر, فقال ومن يستطيع أن يأتيك به. فقال الذي أتى بالريشة والطير وبي, هو الذي يستطيع أن يأتي بخاتمي, فقال الملك أمامك ثلاثة أيام, إذا أحضرت خلالها الخاتم عفوت عنك, وإذا لم تحضره أقطع رأسك. فذهب ابن الملك وهو يكاد يجنّ، وهو يضرب كفاً بكف وقد بدا القلق على وجهه وهو يقول: كيف أستطيع أن أُحضر خاتماً سقط في البحر، وأين أبحث عنه يا إلهي، وفي أي مكان من البحر ؟! ورأته المهرة وهو على هذه الحال البائسة، فسألته عما حدث له فأخبرها بما طلب منه الملك، فهدأت من روعه وقالت وهذا أيضاً أمر هيّن، عُد الآن إلى الملك واطلب منه سفينتين مليئتين باللحم وتعال إليّ، فذهب إلى الملك وأعطاه ما طلب، وعاد إلى المهرة فقالت: أنزل الآن بسفينتيك إلى البحر وارمِ قطع اللحم هنا وهناك في أماكن مختلفة من البحر حتى يخرج إليك ملك السمك وهو الذي سيعطيك مرادك إن شاء الله، فنزل إلى البحر وصار يرمي قطع اللحم هنا وهناك والسمك يلتهمها بنهم، ورآه ملك السمك فخرج إليه وقال له: ما بك أيها الرجل ولماذا ترمي هذه اللحوم إلى البحر، فقال إني أبحث عن خاتم لي سقط في البحر، فقال ملك السمك انتظر قليلاً وسأدعو جميع السمك الذي في البحر، فدعا السمك وأمرها جميعاً أن تقذف ما في بطونها، ففعلت الأسماك جميعاً ما أمرها به ملكها ولكنهم لم يجدوا الخاتم، وأخيراً رأوا سمكةً متأخرة يبدو عليها التعب والإعياء، وعندما قذفت ما في بطنها وجدوا الخاتم، فأخذه ابن الملك وعاد إلى الملك بعد أن شكر ملك السمك، وأعطى الخاتم للطائر وسأله هل هذا خاتمك فقال نعم، فقال الملك إذن غنِّ يا ريشة فقالت لا أغني حتى يغني طيري فقال: غنِّ يا طيرها، فقال لا أغني حتى يغني زوجي، فقال غنِّ يا زوجها فقال لا أغني حتى تشعلوا ناراً ثلاثة أيام ويدخلها الذي أتى بي إليك ويقف فيها ثم يعود ويخرج إلينا دون أن تمسّه النار بأذى. وأعطى الملك مهلة ثلاثة أيام وثلث لابن الملك التعيس الحظ ليهيئ نفسه للدخول في النار والوقوف فيها، وشعر ابن الملك بأن نهايته قد اقتربت، وقال في نفسه لا مفر من الموت في هذه المرة، ولن أنجو كما نجوت في المرات السابقة. وأمر الملك بإشعال النار فأشعلوها حامية عالية، ورأت المهرة آيات القلق والخوف والحزن ترتسم على وجه ابن الملك فسألته عما حدث له، فأخبرها بقصة النار، فقالت: أحضِر إناءً وأملأه من عَرَقِي واغسل به جسمك قبل أن تدخل النار بقليل، وادخل النار فلن تؤذيك بعون الله تعالى، وعندما جاء اليوم المحدّد غسل ابن الملك جسمه بعرق المهرة ودخل النار أمام الجميع، ووقف داخلها عدة دقائق فلم تؤثر فيه ولم تؤذه بالمرة، ثم خرج منها سليماً معافى، فقال الحاضرون: إذا كان هذا الصعلوك الفقير يدخل النار ولا تؤذيه فكيف أنت يا ملك الزمان، فتجرأ الملك أمام شعبه ودخل النار ولكنه لم يخرج منها فقد أحرقته والتهمته ألسنتها الحامية، وأراحـت النـاس منه ومن ظلمـه، وعندها قال الشعب بلسانٍ واحد، لا يليق بالمُلك علينا إلا هذا الشاب الذي فعل الأعاجيب ودخل النار ولم تحرقه، ونصبوه ملكاً عليهم، وغنّت له الطيور في كل يوم وأدخلت الفرحة على قلب الملك الجديد، وفرح سكان البلدة بملكهم الذي أحبهم، وحكـم بينهم بالعدل والمحبة. |