جمر ورماد
(شعر صالح زيادنة - رهط)
بقلم : محمود مرعي
من خلال قراءتي لمجموعة الأخ صالح، رأيته يمخر عباب
الحزن والأسى دون أن يصل ويحط قلوعه على شاطئ الأمل والفرح والرجاء، رأيته
يعيش في دوامة حزن حتى في قصائد الحب التي هي مساحة الكتاب كلّه تقريباً
والتي يمكن تصنيفها كإنسانية، فجميعها يسري في دمها الحزن والأسى، وعلى حدّ
تعريف الشاعر نفسه للقصيدة في المقدمة (والقصيدة عزيزي القارئ معاناة نفس،
كآبة ودموع، إنها ارتعاشات أمانٍ، واختلاجات آمال، تنهدات لوعة وزفرات أسى)
ص 3، وليس هذا فحسب بل اختياره لمن يهدي إليهم شعره وكتابه (إلى الذين
ظلمتهم الحياة، وأغلق القدر أمامهم سبل السعادة، إلى كل النفوس التي غرسها
الحزن بأشتال الألم، إلى الذين تطفح قلوبهم بالدمع، وتفيض بالمحبة .. أرفع
هذا الكتاب) ص 5، ومن اقتباسه قول جبران (أنا لا أُبَدِّلُ أحزان قلبي
بأفراح الناس، ولا أرضى أن تنقلب الدموع التي تستدرها الكآبة من جوارحي
وتصير ضحكاً) ص 6 يمكننا أن نستشعر ثقل الألم والهموم على نفس الشاعر
وقلبه، وهذه ملامح شعر الشاعر بصورة عامة، هذا الشاعر الذي استسلم للحزن
والكآبة والضياع ولا يريد الخروج منها ولا أن يستبدلها، لذلك فقد اخترت
بداية السير داخل المجموعة من نقطة بعيدة عن البداية وتقع تقريباً في آخر
الكتاب. القصيدة "سرت بدربنا وحدي 74-77" يقول فيها: " نفسي لم تعد تهفو
إليها / عفت دمعات الرياء / بمقلتيها / فهي كالأطفال / تعبث الأوهام فيها /
أينما سرت ... وفي أي طريق / أشعر الحزن المؤجج / في ضلوعي كالحريق / فأود
لو أهوى سواها / وأريح قلبي من هواها ) فبينما يقرر بداية ( نفسي لم تعد
تهوى سواها ) لأسباب ذكرها، يعود قائلاً: (فأودّ لو أهوى سواها / وأريح
قلبي من هواها) وهذا يعني أن قوله الأول (نفسي ...) هو مجرد وهم وخداع
للنفس لأنه لا يستطيع التخلص من حبها، ونتيجة للحزن المؤجج في ضلوعه غفل
الشاعر أو انه قصد عمداً إلى إغفال شكل قصيدته، فبينما بدأ قصيدته بالنثرية
ومضى ثلاث صفحات، نجده في نهاية الصفحة الثالثة إلى آخر القصيدة غيّر
طريقته واستعمل تفعيلة الوافر (مفاعلتن) كقوله في آخر القصيدة (ولكن بعد
أعوام / عرفت بأنني وحدي / وأنك أنت في دنيا / من النكران والجحد / فلملمت
بقايا الحب / وكفكفت دموع القلب / وسرت بدربنا وحدي) وهذه المعشوقة التي
تعيش في دنيا النكران والجحود وهذه أوصافها في أكثر من موقع، ولا نخطئ في
ربطنا هذه القصيدة مع ما جاء ص 7 وبصورة مختصرة (في البدء ../ وسمعت صوتك
من بعيد يعتذر / لا تنتظر) بالإضافة إلى صورة توضيحية في نفس الصفحة لفتاة
مدبرة ماضية في طريقها وهي على الأرجح صاحبة القول (لا تنتظر) إذن فالشاعر
في وحدته ومعشوقته الناكرة الجاحدة، قد تركته ولن تعود إليه، ورغم كل هذا
فهو يأبى إلا أن يناديها (حبيبتي) رغم ما فعلت به، وهو دائم البحث عنها
قصيدة (أبحث عنك 8-10) (حبيبتي / عندما تدق أجراس المساء / وأرى الكواكب
باسمات في الفضاء / والبدر يلهو عابثاً في دربه / يجتر أول قصة من حبه /
فتسيل من عيني الدموع / وتثور في صدري الضلوع / وأسير وحدي في الظلام /
بعواطفي ومشاعري / ..../ لا الليل يثنيني ولا البرد الشديد / أبحث عنك في
الأفق البعيد / أبحث عنك في الأفق الموشى بالدموع / في صراخ القلب / في حزن
الضلوع / أبحث عنك في صمت السكون / في ضياء البدر / في الدمع الهتون) وهنا
لا بد من ملاحظة، حيث أرى أن الشاعر كتب إحساسه بكل عفوية وتلقائية وبوح
دون الالتفات إلى الوزن والتقيد به فكلمة (حبيبتي) تأتي على متفاعلن بعد
دخول الوقص عليها أي حذف الثاني المتحرك بحيث يصبح شكل التفعيلة (مفاعلن)
وأكثر ما يرد في القصيدة (متفاعلن) وعليه فإن القصيدة من شعر التفعيلة غير
الجاري، ولكن جملة كهذه (عندما تدق أجراس المساء) أو جملة كهذه (أبحث عنك
في الأفق البعيد) أو هذه (في صراخ القلب) لا يمكن إدخالها ضمن (متفاعلن)
مما يؤكد أن الشاعر يكتب بتلقائية كما تعنّ الجملة الشعرية في المخيلة،
نعود إلى ما كان فيه إلى المعشوقة الناكرة الجاحدة التي لا يتوقف شاعرنا عن
البحث عنها (ويتوه دربي / وتضيع آثار الطريق / ويشب في صدري لهيب من حريق /
وأرى خيالك باسماً / يختال في الأفق البعيد / فأعود وحدي حائراً / لأبحث
عنك في يوم جديد) وإذا أخذنا آخر سطرين (فأعود وحدي حائراً) نجد هنا شطر
بيت من مجزوء الكامل (متفاعلن - متفاعلن) أما السطر الأخير فنجد شطر بيت من
الوافر (لأبحث عنك في يوم جديد) (مفاعلتن مفاعلتن فعولن ) ومن مطالعتي
لأشعار صالح التي ينشرها في الصحف المحلية رأيته يتقن أوزان الشعر فما باله
هنا؟ ونتابع قضية الوحدة والحزن والضياع الذي يحس به، قصيدة (ضياع شاعر
11-14) المهنة شاعر ../ يهيم في أودية الشعر / مسحور يسأل : أين تسير الدرب
/ وكيف يدور الدهر / لو تعرف ليلى المسكينة / ما معنى الشعر / …/ لو تعرف
ليلى / كيف أعيش الحزن ، وألوك الصبر/ لو تعرف ليلى / أثقال الكون على صدري
/ لم تسأل / ما معنى الشعر ؟) وهذا كله يؤدي بالشاعر إلى البحث عن اسمه في
سفر الدهر وإلى عدم معرفة العصر الذي يعيشه (وأنا أبحث مهموماً / عن اسمي
في سفر الدهر لا أعرف حقاً / إن كنت أعيش بهذا العصر / لا أدري حقاً / إن
كنت أعيش بها العصر) وتكرار (إن كنت أعيش بهذا العصر) جاء لزيادة التأكيد
على ما يعانيه الشاعر وما يحس به من الضياع.
وهذه القصيدة
كغيرها جاءت على تفعيلة الخبب (فعلن) ولكن جملة (يهيم في أودية الشعر) التي
جاءت في بداية القصيدة شذّت عن الباقي من حيث الوزن. أما من حيث الضياع
والمتاهة التي تحاصر الشاعر لدرجة قوله (لا أعرف - لا أدري / إن كنت أعيش
بهذا العصر) فقد رأينا لدى زميل آخر هو الشاعر حسين مهنا الذي وصل به الأمر
في لحظة إلى القول (ليس في الحقل سوسن للفرح) أما أنا فأقول: "دائماً هناك
مكان للفرح، ومهما أظلمت تظل دائماً في البعيد كوة من النور تشع وتضيء خطاً
يتسع لنا وهذه الكوة وهذا الخيط كفيل أن يحملنا على جناحه ويوصلنا إلى مروج
النور وإلى بر الأمان. يقع الكتاب في 86 صفحة من القطع الصغير، يضم عشرين
قصيدة من شعر التفعيلة غير الجاري وإن كانت أحيانا تتعثر بين النثر والوزن،
والكتاب صدر في آب 1992.
|||
*- نُشر في حينه في صحيفة
بانوراما.
|