|
ربما يَجنح بنا الخيال
قليلاً عندما نتحدث عن المطبخ في بيت البدويّ وخيمته، وربما نتصور مطبخاً
حديثاً مكتظاً بالأدوات المنزلية المختلفة، والأصناف المتنوعة من الطعام،
ولكننا عندما نتذكّر بأننا نتحدث عن حقبة من الزمن تمتدّ من ستينيات القرن
المنصرم وما سبقها من سنين، عاش فيها الآباء حياة البادية بكلّ معانيها،
وما في هذه الحياة من البساطة والفقر وقلة ذات اليد، فكيف يكون إذن مطبخ
البدويّ في خيمته المتنقلة، والتي تختلف أحجامها حسب عدد أفراد العائلة، أو
حسب الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي الذي يتمتع به صاحب البيت وربّ الأسرة.
ولكي نتعرف على ذلك المطبخ الذي نتحدث عنه لا بدّ أن نتعرَّف أولاً على
تركيبة ذلك البيت وهيئته، وعلى تقسيمته الداخلية وعدد حجراته، وعندها
تتكوّن لدينا صورة واضحة لهذا المطبخ المتواضع الذي هو محلّ بحثنا في هذا
الفصل.
بيت البدوي كما هو معروف هو بيت مصنوع من قطع منسوجة من شعر الماعز، يتكوّن
منها سقفه وجوانبه، وعندما يُبنى في بداية الأمر يكون عبارة عن حجرة كبيرة
واحدة، ثم يفصلون حجرةً منه لتكون للرجال خاصة، يجلس فيها صاحب البيت
يُعِدّ قهوته ويستقبل ضيوفه، أما بقية الحجرات فتكون للنساء وشؤونهن
الخاصة.
وبيت الشَّعْر يُقسم إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسية هي:
1- «الشِّقّ» أو «مقعد الرجال»: وهو الجزء الشمالي من البيت، وهو
مكان مخصّص للرجال فقط.
2- «المَحْرَم»: وهو الجزء الأوسط من البيت، وهو مكان خاص بالنساء
والأطفال، وقد اشتق اسمه من كلمة «حُرْمَة» أي امرأة، وجمعها حريم أي نساء.
وهذا القسم عبارة عن غرفة نوم المرأة، ومكان تواجدها الدائم هي وأطفالها،
وفيه أثاث بيتها البسيط، حيث تتناول فيه طعامها، وتستقبل ضيوفها، وتغسل
ملابسها وتُعِدّ شؤونها المنزلية الأخرى.
3- «الرُّفَّـة»: وهي الجزء الجنوبي من البيت، وهي مكان صغير نسبياً
لا يفصله عن المحرم فاصل، والرُّفَّة هي المكان الحقيقي للمطبخ في هذا
البيت.
وبين الشقّ والمحرم يوجد فاصل منسوج من خيوط متينة ومبرومة من شَعر الماعز
ومن صوف الأغنام، ويسمّى هذا الفاصل «المَعَنَد» وجمعه «مَعَانِد»، ويصل
ارتفاعه إلى مترين حيث لا يستطيع الرجل الواقف أن يرى ما بداخل البيت في
الحجرات الأخرى.
وإذا كان البيت كبيراً فإن الشقّ والرفّـة يبقيان على حالهما بينما تزداد
غرف الحريم، وتسمى كلّ حجرة من هذه الحجرات «بَاهرة» وتجمع على «بَوَاهِر»،
فيقال في الباهرة الوسطى أو في الباهرة التي تليها وهكذا. وفي لسان العرب:
«وبُهْرَةُ كلّ شيء: وسطُه»(1).
وإذا كان البيت كبيراً تستعمل الغرفة المحاذية للرفّة كمطبخ حيث توضع فيها
أواني الطعام من صحون وطناجر وما شابه، وتُصفّف على خشبة عريضة مرفوعة عن
الأرض تشبه الطاولة وتُسمّى هذه الخشبة «المَجْلَى» حيث توضع عليها الأواني
التي تُجلى وتُنظّف، وكذلك يكون هناك صندوق تخزن فيه المواد الغذائية من
حبوب ولبن مجفّف وغير ذلك من المأكولات. أما الرفّة فتُترك لإشعال النار
ولطهي الخبز وطبخ الطعام لا غير.
أدوات الطبخ وإعداد الطعام
الطاسة:
وتجمع على طُوس(2)، وهي الطنجرة التي يُطبخ فيها الطعام، ومنها
أنواع وأحجام مختلفة، وكلّ عائلة تشتري الحجم الذي يناسبها، وكانت الطاسة
في البداية تصنع من النحاس، وتُطلى من الداخل بطبقة رقيقة من القصدير، وإذا
ما تآكلت هذه الطبقة فعادة ما تؤخذ إلى «مُبَيِّض النحاس» حيث يقوم
بتنظيفها و«رَبِّها» بطبقة جديدة من القصدير فتصبح كأنها جديدة. والطاسة
التي تُطلى من الداخل بالقصدير تسمى طاسة مربوبة. ووظيفة الطلاء هو منع
التأكسد وظهور الجنزارة التي تحدث للأواني النحاسية.
أما غطاء الطاسة فيسمى «كُفَّارَة»(3) وهي مؤنثة هنا، وتجمع على
كفافير، وكل غطاء لإناء ٍفهو كُفَّارة، كغطاء القنينة، والمرطبان والبرميل
وغيرها.. والفعل منها: كََفَّرَ يُكَفِّر.. أي غطى يُغطّي.. وإذا كان هناك
أمر يريدون طمسه وعدم إفشائه والبوح به يقولون: «كَفِّر على الطابق»، أي
غَطّ على الموضوع ولا تفتح سيرته، والطابق هنا بمعنى الموضوع.
وعلى ذكر الطاسة فهناك «طاسة الطَّرْبَة»، وهي وعاء نحاسيّ يشبه الزبدية
نقشت عليه من الداخل آية الكرسي من القرآن الكريم ويستعمل لعلاج الخوفة
والخريعة(4)، وهي تباع اليوم في السعودية بشكل تجاريّ بخمسة
ريالات فقط.
وما زلنا نحتفظ بطاسة أمي النحاسية التي كانت تستعملها في الأربعينيات من
القرن الفائت كنوع من الذكرى.
القِدْر:
هو وعاء كبير يشبه الطنجرة، وله مقبضان في جانبيه لكي يحمله شخصان عند
تنزيله من على النار بسبب ثقله وكبر حجمه، ومنه أحجام مختلفة وهو يستعمل
لطبخ اللحوم في المناسبات والأعراس، وكان في البداية يصنع من النحاس، ثم
أصبح يصنع من الألمنيوم فيما بعد، وهناك قدر نحاسيّ كبير جداً يسمى في
القرى «الدِّسْت»، وكان يستعمل للمناسبات الكبيرة كالأعراس وغيرها ولا
يتعداها.
المسواطة:
هي مغرفة خشبية كبيرة يُحرّك بها الطعام داخل الطنجرة أو القِدْر. وسَاطَ
الطعام أي حَرَّكَهُ. وعادة ما يُحرّك بها اللحم في القدور، وكذلك طبيخ
مديدة القمح في الطنجرة حتى لا «يُجَعْجِل».
وفي الأعراس تضاف لمقبضها خشبة طويلة لكي تصل القِدر دون أن يقترب حاملها
من النار التي تكون عالية في الغالب.
وفي لسان العرب: السَّوْطُ: خَلْطُ الشيء بَعْضه ببعض، ومنه سمي
المِسْواطُ. وساطَ الشيءَ سَوْطاً وسَوَّطَه: خاضَه وخَلَطَه وأَكثَرَ ذلك.
وخصَّ بعضُهم به القِدْرَ إِذا خُلِطَ ما فيها. والمِسْوَطُ والمِسْواطُ:
ما سِيطَ به(5).
وفي الأمثال الشعبية يقولون: «اللي في القِدْر بتجيبه المسواطة»(6).
المغرفة:
تشبه المسواطة ولكنها أكثر عمقاً منها، ومنها الخشبي والمعدني، وهي تستعمل
لاغتراف الطعام من الطناجر، وكذلك لاغتراف الحساء والمرق من قدور اللحم.
المخشاقة:
هي الملعقة التي يحرك بها الطعام أو يؤكل بها، وكانت في البداية تصنع من
الخشب، ثم صنعت فيما بعد من المعدن، وقد جاءها الاسم من «الخَشْق»، وهو
الصوت الذي تُصدره لدى احتكاكها بجدار الصحن. والخَشْق: هو صوت احتكاك جسم
خشبي أو معدنيّ بجسم آخر، وهناك عدة أنواع من الأصوات تأتي على وزن «فَعْل»
منها الخَفْق، والقَضْم، والجَرْس، والطَّرْق والهَمْس وغيرها كثير. وهناك
من يسميها خاشوقة، أو مَعْلَقَة، وفي الشمال يسمونها «زَلَفة».
الصحن:
هناك أنواع مختلفة من الصحون، وأحجام متعددة من حيث السعة والعمق، وكانت
الصحون في البداية عبارة عن صحون خشبية ونحاسية، ثم تلتها موجة من الصحون
المعدنية المطلية بالصيني أو القيشاني، ومنها ما هو باللون الأبيض ومنها ما
هو باللون الأزرق من الخارج والأبيض من الداخل. وللصحون أسماء مختلفة تشتقّ
من استعمالاتها، فيقال: صحن عجين، وصحن طبيخ وغير ذلك.
الباطية:
الباطية عبارة عن صحن خشبي كبير ذو حوافٍ سميكة يستعمل كصحنٍ للعجين،
وتستعمله العائلة أيضاً لتثرد (تفتّ ) فيه طعامها، ومنه نوع آخر أصغر حجماً
يستعمل كصحن عادي تُقدّم فيه أنواع الطعام المختلفة.
وإذا ما عبَّرَ أحدهم عن تفضّلِه على شخص آخر، يردّ عليه الثاني بقوله:
«أنا لا أعيش على باطيتك أو باطية أهلك».
الأنجر:
صحن غير عميق يستعمل لتقديم مناسف اللحم في الأعراس والمناسبات، ويقدّم فيه
أيضاً الفتيت كـ«فتّة» العدس، أو جريشة القمح، أو الفتّة مع لحم الطيور من
دجاج أو حبش خاصة في المناسبات أو الولائم، واستعماله يقتصر على هذه
الأشياء المذكورة لا يتعداها، وكلمة أنجر لم تكن منتشرة عند كثير من الناس،
وكنا نقول عنها صحون اللحم.
الزبدية:
هي صحن من الفخار ضيق القاعدة ثم يتسع قليلاً نحو حافته، وهو يستعمل لتقديم
السَّلَطَات والمريسة وبعض المأكولات الخفيفة الأخرى.
الصحن أبو
عشرة:
هو صحن متوسط الحجم مصنوع من الفخار تكون حافته واسعة من الأعلى ثم تضيق
نحو الأسفل، وهو يستعمل لمريسة اللبن وأنواع الطبائخ المختلفة كشوربة العدس
وما شابه، وسُمّي بـ «أبو عشرة» لأنه يتّسع لطعامٍ يكفي لعشرة أشخاص،
يغمسون خبزهم بما فيه من طعام، وحدثني جاري أبو سليمان رحمه الله بأنه حضر
عشاء في سيناء وجاء القوم بصحون فخارية من فئة «أبو عشرة» وهي مملوءة
بالطعام، وكان الواحد منهم يغمس خبزته وينفضها في الصحن ويخرجها مبلولة
فقط، وقال إنهم أكلوا جميعاً حتى شبعوا وظلّ بقية الطعام في الصحون.
الخُوصَة:
هي السكين بأحجامها المختلفة، وهي تستعمل لتقطيع وتفريم الطعام كالخضر
واللحم والفواكه وغيرها. وجاءها الاسم من « الخوصة» وهي ورقة النخيل،
وجمعها خُوص، وهي تشبه السكين في شكلها وحِدَّتِها، وربما كانوا يقطعون بها
في بداية الأمر بعض الأنواع الهشَّة من الطعام. وفي لسان العرب: والخُوصُ:
ورَقُ المُقْلِ والنَّخْلِ وما شاكلها، واحدتُه خُوصة(7).
وكانت هناك سكاكين قصيرة يصنعها الحدَّاد ولها مقبض من نفس حديدتها ولكنها
ملوية من طرفها الأخير، وكانت المرأة تربطها بخيط رفيع وتعلّقها في أعلى
ثوبها، وتستعملها لتقشير البصل أو لتفريم بعض الخضروات الأخرى. وكانت هناك
موسى حادة تسمى «موس ناصري» تستعمل للذبائح وتقطيع اللحم، وهي من الحدّة
بحيث يمكن أن تُزَيِّن بها الشعر أي تقصه وتحلقه كما روى لي جاري أبو
سليمان. وكنت أسمع مقولة شعبية تقول: «زي اللي طواقيهم خُوص» ولما سألت أحد
الشيوخ قال لي: كنت أسمع بهم من صغري، ويبدو أنهم أقوام كانوا يأتون من
الصعيد المصري في مواسم الزرع والحصاد، وعلى رؤوسهم طواقٍ من خوص النخل.
المغزل:
هو المغزل المعروف الذي يستعمل لغزل الصوف والشَّعر، وهو يستعمل عند ربة
البيت لفَرْكِ الخبيزة في الطنجرة عند طبخها، حيث تخرج الخيوط الرفيعة التي
تكون في الأوراق وتلتصق بـ«فراشة المغزل»، فترميها المرأة وتعيد الكَرَّة
عدة مرات حتى ترضى عنها ويكون طعامها طازجاً ونظيفاً.
المفراك:
هو عبارة عن عصاة مبرومة تشبه عصا المغزل، ولها في أسفلها عدة عيدان قصيرة
تلتصق بجوانب المفراك بواسطة ثقوب تُثبّت فيها، وهو من عمل النجار،
والمفراك يشبه المغزل في استعماله لتنظيف طبيخ الخبيزة من الخيوط الرفيعة
التي ذكرتها.
العُكَّة:
هي زقّ من الجلد يُنظّف ويُدبغ ثم يوضع بداخله مقدار أوقية من العسل أو
الدِّبْس وتُحرّك بداخله حتى تغطي جدرانه الداخلية، ثم تملأ بزيت الزيتون
الصافي وتترك للاستعمال، ووظيفة العسل أو الدبس هو منع تسرّب الزيت من
مسامّ الجلد بسبب كثافته وتلاصق ذراته، والعُكَّة أَصغر من القِرْبة.
جرة السمن:
أما بالنسبة للسمن فيحفظ في جرة خاصة، ويُغطّى فم الجرة بقطعة قماش نظيفة
وتُشدّ بخيط متين حول عنق الجرة يُحكم إغلاقها، ثم تُطيّن بالطين أي تُغطى
بطبقة من الطين فوق قطعة القماش المذكورة، وتقول المرأة عن إغلاق الجرة:
«صَمْصَمْتُ الجرة»، أي أحكمت إغلاقها، أما السمن الذي يستعمل للاستهلاك
اليومي فتبقى جرته مفتوحة إلا من غطاء خفيف ولا يغلق بالطريقة التي ذكرنا.
القلاية:
وهي تستعمل لقلي البيض أو لغلي اللباء وهو حليب الشاة التي تلد لتوّها،
وربما تستعيض ربة البيت عن المقلى باستعمالها لقلاية القهوة ثم تغسلها بعد
ذلك، وحدثني أحدهم بأنهم كانوا يضعون قليلاً من الطحين في قلاية القهوة ثم
يضعون البيض فوقه بعد ذلك دون زيت فلا يلتصق بالقلاية.
وهذه هي أهم الأدوات المنزلية التي تستعملها المرأة البدوية في مطبخها
الصغير المتواضع، إضافة إلى أدوات أخرى تُستعمل في الطهي وإعداد الخبز
وغيره، وستجيء في مواضعها من هذا الكتاب بعون الله تعالى.
----------------------------
(1) -
لسان العرب – مادة " بهر " .
(2) - في مادة «طوس» من لسان العرب، والطَّاسُ: الذي يُشرب به.
(3) - في مادة « كفر » من لسان العرب، والكَفْرُ، بالفتح: التغطية.
وكَفَرْتُ الشيء أَكْفِرُه، بالكسر، أَي سترته.
(4) - الخريعة، والفعل منها خَرَع، يخرع؛ أي أخاف وأفزع، هي مرض الخوفة كما
ذكرنا، ويعالجونها بخوفة أخرى ويقولون: «خريعة بتطرد خريعة».
(5) - لسان العرب، مادة «سوط».
(6) - من الأمثال البدوية، ص 56.
(7) - لسان العرب: مادة «خوص».
|