المأكولات التي يتمّ
إعدادها من الحبوب متنوعة وكثيرة، ولعل من أهمها تلك التي تُصنع من القمح
ومشتقاته، والتي تعتبر من المأكولات الرئيسية في قائمة الأطعمة والمأكولات
المفضّلة عند أهل الصحراء، وإليك تفصيلاً عن كلٍّ منها:
مَدِيدَة القمح
باللبن:
هي عبارة عن طبخة يتم إعدادها من القمح المجروش المطبوخ باللبن، وهي تسمّى
أيضاً الجريشة، لأنها تُصنع من القمح المجروش، وليس من البرغل الذي يُصنع
من القمح المغسول والمنزوع القشرة، وكان القمح يُجرش على الرَّحَى، وإذا ما
خرجت الحبة المجروشة كبيرة نوعا ما فإنَّ المرأة تعيد جرشها مرة أخرى حتى
تصبح بالحجم الذي ترضى عنه، ثم تنخل ذلك بالمنخل حتى ينزل منه الطحين
والفتات الصغيرة وتبقى الحبّات المجروشة النظيفة، فتَهزّها في المنخل حتى
تتجمع النخالة في طرف المنخل فتخرجها وتضعها في صحن، وتضع الجريشة النظيفة
في صحن آخر، وتُكرّر العملية حتى تحصل على الكمية المطلوبة.
وتكون خلال ذلك قد وضعت طنجرة كبيرة على النار وبها بعض الماء، ثم تتركها
حتى تسخن أو تغلي، ثم تضيف إليها القمح المجروش، وتسكب عليها اللبن في موسم
اللبن، أو العفيق الممروس في المواسم الأخرى، وتُحرّك ذلك الخليط بالمسواطة
حتى لا تلتصق كُتَلٌ منه ببعضها البعض، وتُحرّكه بين الحين والآخر وهو يغلي
حتى تخرج منه فقاقيع أو «يُنَبِّل» كما يقولون، وبعد أن ينضج تماماً تنزله
من على النار، ثم تقطع عدداً من الأرغفة من خبز الصاج إلى قطع صغيرة وتضعها
في صحن كبير وتضيف إليها المديدة الساخنة وتحركها بملعقة أو بأصابعها حتى
يتشَرَّب الخبز المفتوت بكامله ثم تضغط بيدها في وسط الطعام وتسكب السمن
البلدي، أو زيت الزيتون في بعض الأحيان القليلة الأخرى.
وإذا وُجدت ليمونة أو شيء من البصل الأخضر فإنه يساعد على فتح الشهية،
ويعتبر هذا اللون من الطعام من الأكلات الشعبية المفضلة، وهو خفيف على
المعدة لا يشعر الإنسان بعد تناوله بأيّ ثقل في معدته كما هو الحال بعد
تناول فَتّة العدس أو البقوليات الأخرى.
مديدة القمح
بالبندورة:
هي طبخة تشبه الطبخة الأولى ولكن بدلاً من إضافة اللبن يضاف إليها عصير
البندورة المجففة، حيث تُنقع كمية من البندورة المملحة والمجففة في ماءٍ
فاتر بعد أن تُغسل وتُشطف وتنظَّف من الغبار العالق بها، وبعد أن تلين
وترتخي تمرسها المرأة بيدها حتى يخرج عصيرها سميكاً لزجاً بلونٍ أحمر غامق،
ثم تُصفَّى بعد ذلك من البذور وذلك بسكبها في منخل حيث يسقط العصير النظيف
في صحن وتبقى البذور والقشور في المنخل فترمى بعيداً.
وبعد أن تَسكب العصير المذكور تقوم ببقية الأمور التي ذكرناها سابقاً
وتقدّم طعامها ساخناً وطازجاً، وتجدر الإشارة إلى أن عصير البندورة المجففة
تكون به «حُدُوقَة» وهي الملوحة مع الحموضة، والليمونة الحادقة هي التي بها
ملوحة مع حموضة كما ذكرنا.
وفي عصر المعلبات لم يبقَ مكان للبندورة المجففة فاستعيض عنها بعصير رُبّ
البندورة المعلبة. وكان الناس يشعرون بنكهة خاصة وطعماً أكثر لذة مما
يشعرون به اليوم بسبب قلة الألوان المستعملة من الأطعمة في ذلك الوقت،
والكبار منهم يتحسَّرون على تلك النكهة وذلك الطعم الشهيّ الذي فقدوه ولم
يعد له وجود في حياتنا المعاصرة.
المَفْتُول:
يؤخذ السميد الناعم ويوضع مقدار حفنة منه في صحنٍ كبير، ويُرَشّ عليه ماءٌ
ممزوج ببعض الملح «تمليحة»، ثم يُرَشّ عليه بعض الطحين وتبدأ المرأة بتحريك
تلك الحبيبات من السميد داخل الصحن بشكل دائري، ثم ترشّ عليها من الماء
المذكور وتُذَرْذِرُ عليها من الطحين وتحركها وتفتلها بيدها مراتٍ ومرات
حتى تكتسي تلك الحبيبات بالطحين وتصبح وكأنها كُرَيّات صغيرة، وحجمها كحجم
حبات العدس البلدي، ثم تضع ما أنجزته في صحنٍ آخر وتعود لتفتل حفنة أخرى من
السميد وهكذا حتى يصبح لديها ما يكفي لعمل المفتول.
وتكون خلال ذلك قد أحضرت طنجرة خاصة تسمى مفتولية ووضعتها على النار
وملأتها حتى النصف بالماء، والمفتولية تتكوّن من قسمين، القسم السفلي وهو
عبارة عن طنجرة أسطوانية الشكل بطول حوالي نصف المتر ولها حواف من الأعلى
متسعة بعض الشيء ليجلس بداخلها القسم الثاني والذي يسمّى القُوَّار، وهو
يشبه الصحن وبه ثقوب في أسفله تسمح بمرور البخار إلى المفتول الذي بداخله.
وبعد أن يغلي الماء الذي في المفتولية لا يكون أمام بخاره منفذاً سوى من
تلك الثقوب التي في القُوّار، وهو القسم العلوي الذي يشبه الصحن المخرّم
كما ذكرنا، وبعد أن يتصاعد البخار من المفتول تقوم المرأة بتحريكه بمسواطة
من الخشب وتقلب أعلاه إلى أسفله، وأسفله إلى أعلاه حتى يصل البخار إلى كلّ
ما يحتويه القوَّار من المفتول فينضج جميعه بشكل متساوٍ وترتخي حبيباته
وتصبح أكثر طراوة وليناً.
تُفرغ المرأة المفتول الذي في القوّار وتضعه في صحن كبير ثم تعاود الكرة
إذا كانت لديها كمية كبيرة من المفتول لعمل وليمة أو «رَحَمَة»(1)
أو ما شابه، وبعد أن يبرد المفتول قليلاً تسكب عليه كمية من السمن البلدي
وتحركه حتى يمتزج بالمفتول بشكل جيد، أو ربما تضيف إليه زيت الزيتون بدلاً
من السمن البلدي إذا كان السمن غير متوفر، أو إذا كان بعض أفراد العائلة لا
يستسيغ المفتول بالسمن.
ثم يصبح المفتول بعد ذلك جاهزاً للتقديم ولا تنقصه سوى الشوربة، وتكون
المرأة قد أعدّت العدة لذلك وطبخت عدداً من الدجاجات يكفي لتلك المناسبة،
فتسكب مرقها على المفتول حتى يلين ويتشرَّب ثم تُصَفِّف فوقه قطع اللحم
الطازجة وتقدمه لأفراد عائلتها، أو يُقدم للضيوف في بعض المناسبات التي
ذكرناها.
أما إذا أرادت المرأة أن تطبخ المفتول لأولادها فكثيراً ما تقوم بعمل
يَخْنِيَّة وشوربة من البندورة والبطاطا والتوابل الأخرى وتسكبها على
المفتول حتى يتشرَّب بها وتقدمها لأولادها.
وقبل أن توجد الطناجر الخاصة بالمفتول في الأسواق كان الناس يستعملون بعض
الأدوات المنزلية لصناعة المفتول، حيث كانوا يستعملون طنجرة عادية ويأتون
بصحن من الألومنيوم من صحون العجين القديمة ويثقبونه ثقوباً عديدة في أسفله
بواسطة مسمار، ثم يضعونه فوق الطنجرة، وحتى يُمْسِك ولا يتسرَّب البخار منه
تضع المرأة طوقاً من العجين على مكان اتصاله بالطنجرة فلا يجد البخار
مخرجاً إلا من الثقوب المذكورة وبذلك ينضج المفتول.
وقد سُمّي المفتول بهذا الاسم نسبةً إلى الفَتْل؛ وهو تحريك حبيباته حتى
تكتسي وتصبح مكورة كما ذكرنا. أما القُوّار فقد اكتسب اسمه من الفعل قَوَّر
أي فتح فتحة مستديرة، نقول قَوَّرَ البطيخة أي فتحها من أعلاها فتحة
مستديرة، وكذلك نقول: قَوَّرت المرأة جيب الثوب إذا فتحت فيه فتحة مستديرة،
وفي لسان العرب: قَوَّرَ الشيء: أي قطع من وَسَطه خرقاً مستديراً(2).
الرِّقَاقَة:
تعجن المرأة الكمية المطلوبة من الدقيق عجناً يابساً، وتُقَطِّعها إلى قطعٍ
كقطع الخبز تماماً ولكن هذه القطع تكون صلبة وليست رخوة، ثم تُرقّقها حتى
تصبح مستديرة ورقيقة بواسطة أداة خاصة تسمى «مرَقَّة» وهي عبارة عن خشبة
أسطوانية ملساء، وإذا لم تجد المرأة مثل هذه الخشبة فهي تستعمل قنينة
زجاجية ملساء لهذا الغرض، وبعد أن تصبح القطعة مستديرة ورقيقة تثني المرأة
أطراف الرغيف من الجهتين اليمنى واليسرى بشكل طولي، ثم تثني طرفيه من
الأمام والخلف حتى يصبح مستطيلاً، وترشّ عليه الطحين حتى لا يلتصق بالكيس
الذي تحته ثم تضع كَفّة يدها اليسرى على الرغيف وتبدأ بقصه بسكين قصاً
عرضياً بيدها اليمنى إلى شرائح بعرض حوالي 1 سم، وتضع هذه الشرائح أو
الرقائق في وعاء أو صحن وترشّ عليها الطحين، وتكون قد وضعت الطاسة
(الطنجرة) على النار وبها ماء وحَبّ عدس غير مجروش، وعندما ينضج العدس
ويصبح طرياً تضيف إليه الرقائق المذكورة وتحرّكه بمسواطة خشبية حتى لا
«يُجعجل» أي يلتصق ببعضه البعض، وبعد أن يفور وتخرج منه فقاقيع هواء صغيرة
تعمل فجوات صغيرة على سطح الطبيخ وينضج تنزله من على النار، وتكون قد فرمت
بصلاً ووضعته في مقلى مع زيت الزيتون أو السمن البلدي وتقليه على النار حتى
يصبح البصل أشقر اللون فتسكبه على الطبيخ وتحركه حتى يختلط بكلّ محتويات
الطنجرة، وتملأ منه صحناً كبيراً أو أكثر وتقدمه لعائلتها ليؤكل ساخناً.
وغالباً ما تملأ المرأة المقلى المذكور بالرقاقة بعد إفراغ محتواها على
الطبيخ، وتحرّكه في بقايا الزيت وتأكله فيكون زيتها أكثر مما يجعل طعمها
لذيذاً بفضل الزيت المذكور.
وقد سُمّيت الرقاقة بهذا الاسم لأن المرأة تُرَقّق قطعها بمِرَقّة حتى تصبح
ناعمة رقيقة كما ذكرنا، بينما تسمّى في بعض المناطق «رُشْتَة» أو «رشتاية».
البازينة:
هي نوع من الرقاقة ولكنهم بدل العدس يضيفون إليها الأرز والحليب والسكر،
والبعض يضيف إليها الأرز فقط دون حليب.
الهيطلية:
تُنقع كمية من القمح المجروش في ماء فاتر حتى تلين وتصبح هشَّةً طرية، ثم
تقوم المرأة بمرسها وفَرْكِها باليدين داخل صحن أو إناء حتى يخرج النشأ
الأبيض منها وينزل ماؤها في الإناء وتبقى القشور الرقيقة في يدها فترميها
خارجاً، ثم تعاود الكرة حتى تنهي ما لديها من القمح المنقوع.
ثم تضع ذلك النشأ السائل في وعاء وتغليه على نار هادئة وتضيف إليه الحليب
والسكَّر وتحركه حتى يذوب السكر، ثم تتركه حتى يعقِد ويصبح لدناً ولزجاً
فتنزله من على النار وتتركه ليبرد قليلاً ثم تقطع منه وتعطي أولادها.
الصقعانة:
تؤخذ كمية من حَبِّ القمح المجروش جرشاً خفيفاً حيث تبدو الحبة وكأنها قسمت
إلى نصفين، وتوضع هذه الحبوب في وعاء على النار وتترك لتطبخ طبخاً أقل من
الطبخ العادي حيث لا تنضج الحبوب تماماً، ثم تنزلها من على النار وتأتي
بسكين وتعمل بها عدة شقوق وتملأ هذه الشقوق بالسمن، ثم تغطيها جيداً حتى
يبقى البخار محبوساً بداخلها وتتركها لنصف ساعة من الزمن، ثم تفتح عنها
وتقلبها كما تقلب طنجرة المقلوبة فتخرج منها رائحة السمن البلدي بعد أن
يكون قد سرى بها وتشربت به، ثم تقطع منها وتضع في صحون وتعطي أولادها.
وقد جاءها اسم الصقعانة لأنها تُغَطَّى كما يُغطّى من أصابه البرد والصقيع.
أما المأكولات التي تصنع من البقوليات والحبوب الأخرى وعلى رأسها
العَدَس والذي يعتبر من الأطعمة الرئيسية عند البدو فتطبخ منه المرأة عدة
أصناف هي:
شوربة العدس:
يُطبخ من العدس المجروش على شكل شوربة ويُفَتّ بخبز الصاج ليعمل منه ثريد
أو «فَتّة»، ثم يؤدّم بالسمن البلدي، ويعصر عليه الليمون إن وُجِد. وهو من
الطبخات اليومية تقريباً في قائمة المأكولات عند أهل البادية.
وقد تجعل المرأة طبخة العدس ثقيلة نوعاً ما وذلك بتقليل مائها، ثم تفركها
بالمغزل حتى يصبح العدس ناعماً، وتفرغه في صحون صغيرة حيث يؤكل مغمساً
بالخبز.
وقد لاحظت أن من يتعشّى من فَتّ العدس لا يتغطّى في الليل بسبب الحرارة
الزائدة الناتجة من ثقل ذلك الطعام بسبب أليافه التي يحتاج هضمها إلى بعض
الوقت، وربما ساعد ذلك في فصل الشتاء عندما يكون الطقس بارداً.
العدس
بالبامية:
هو عبارة عن العدس المجروش تضاف إليه البامية المفرومة، أو البامية المجففة
بعد نقعها وتنظيفها حتى تصبح طرية لينة، وقد لاحظت أن طبخ البامية مع العدس
يخفّف من لزوجتها ويجعلها أسهل للهضم وأقلّ ثقلاً على المعدة.
العدس بالكوسا:
يشبه الطبخة السابقة إلا أنه يضاف إليها الكوسا المفرومة، وهي خفيفة على
المعدة بسبب طراوتها وكثرة مائها.
العدس
بالباذنجان:
يشبه الطبخة السابقة إلا أنه يطبخ مع الباذنجان المفروم بعد إزالة قشرته.
العدس
بالملوخية:
يشبه الطبخة السابقة إلا أنه يطبخ مع الملوخية المجففة، والعدس يقضي على
اللزوجة التي في البامية والملوخية ويقلّل منها بشكل كبير، كذلك فإن
الملوخية إذا تُركت لتغلي فترة أطول تزول معظم لزوجتها وتصبح مقبولة
مستساغة.
وبهذا نكون قد مررنا على عدد لا بأس به من المأكولات والطبخات الشعبية التي
يستعملها أهلنا في منطقة النقب على اختلاف عائلاتهم وقبائلهم ومدى انتشارهم
في هذه الصحراء الواسعة.
----------------------------
(1) –
الرَّحَمَة: طعام يُوهب ثوابه لأرواح المتوفين من الأقارب.
(2) – لسان العرب: مادة «قور». |