تكثر في شهر رمضان
المبارك الولائم والمناسبات، وهي في أغلبها ولائم يُقدّم فيها الطعام من
أجل الدعاء والترحُّم على الأموات، خاصة وأن هذا الشهر الفضيل تَحلُّ فيه
البَرَكة وتكثر فيه الصلوات ويُستجاب فيه الدعاء، ويجوز فيه ذكر الأموات
والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، ونذكر هنا بعض هذه المناسبات قبل أن نتطرق
لموضوع الطعام الخاص بها، وهي:
الرَّحَمَة:
في مساء كلّ خميس أو ليلة الجمعة كما يسمونها، تقوم العديد من العائلات
بعمل «رَحَمَة»، أو لقمة كما يسميها البعض، ويُدعى إليها الأقارب
والأصدقاء، ويقدّم فيها الطعام الذي غالباً ما يكون من لحم الطيور من
الدجاج أو الدجاج الروميّ (الحَبَش) المطبوخ باللبن، وقد يقدّم مع الثريد
(الفَتّ) أو مع المفتول المُشَرَّب بشوربة خاصة من البطاطا والحمّص
والخضروات الخفيفة.
ولا تقتصر الرحمات على شهر رمضان المبارك وحده بل يمكن عملها في أي وقت
آخر، ولكن من المفضل أن تكون في ليلة جمعة، وهي تزداد كما ذكرنا في أيام
الجمعة من شهر رمضان المبارك. كذلك يمكن أن يكون طعام الرحمة عبارة عن
مديدة قمح مثرودة وعليها آدام من السمن البلدي، أو حتى فتّة عدس وعليها
آدام من السمن كما ذكرنا، والعبرة ليست في الطعام بقدر ما هي في قراءة
الفاتحة والتي يوهب أجرها لروح الفقيد.
أما بعض العائلات الموسرة فغالباً ما تعمل رحمة تُقدِّم فيها اللحم الضأني
وتدعو العديد من الناس للعشاء وقراءة الفاتحة، وهذا في نظرهم له قيمة أكبر
ويمكن أن يكون أكثر أجراً بسبب كثرة المدعوين الذين يقرأون الفاتحة
ويترحَّمون على الفقيد، والله تعالى أعلم.
وإضافة إلى الرحمة التي ذكرناها، هناك مناسبات أخرى مشابهة يُقدَّم فيها
اللحم وهي:
الجمعة
اليتيمة:
وهي آخر جمعة في رمضان، وتأتي في العَشْر الأواخر منه، وهي الأيام التي
تكون فيها ليلة القدر، والتي هي خير من ألف شهر، ومن الطبيعي أن يذكر الناس
موتاهم بالدعاء والصدقة وعمل الرحمة ودعوة الناس ليقرأون الفاتحة وفي هذا
أجر وثواب كبير.
خميس الأموات:
ويأتي في الربيع في شهر الخميس حسب التقويم الذي كان دارجاً في العقود
الماضية، وفيه يذكر الناس موتاهم بطقوس تشبه تلك التي ذكرناها في الجمعة
اليتيمة.
عشاء المتوفى:
وهو عشاء يُقام في اليوم الذي يتوفى فيه أحد الناس حيث يذبح أهل الفقيد عدة
ذبائح يعملوا منها عشاءً للمعزين ويقرأ الجميع الفاتحة على روح الفقيد قبل
رفع الصحون، وهناك من يعمل هذا العشاء في اليوم الثالث من العزاء وبانتهائه
يُهدم البيت ويتفرّق المعزون. ويُكره إبقاء البيت ليوم إضافي لأنه في نظرهم
فألٌ غير مستحب، يُخشى منه وقوع مكروه أو ضرر.
وهناك مناسبات أخرى تقدم فيها اللحوم منها:
النَّذر:
وجمعه نذور وهو ما نذره المرء على نفسه من صدقة يتقرّب بها إلى الله تعالى،
كأن ينذر على نفسه أن يذبح ذبيحة لوجه الله تعالى إذا شفي من مرضه، أو إذا
حملت زوجته بعد عقم، أو إذا فُكّ أسر سجين له أو ما شابه ذلك. وعلى الذي
ينذر على نفسه أن يفي بنذره، وفي القرآن الكريم: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»(1) . وفي
لسان العرب: « أَن ذلك أَمرٌ لا يَجرُّ لهم في العاجل نفعاً ولا يَصرِف
عنهم ضَرًّا ولا يَرُد قضاء، فقال: لا تَنْذِرُوا على أَنكم تُدرِكون
بالنَّذرِ شيئاً لم يُقدِّرْه الله لكم أَو تَصرفون به عنكم ما جرى به
القضاء عليكم»(2).
الفَدْو:
وهو ما يُفتدى به من الذبائح التي يُتقرّب بها إلى الله بعد أن يخرج أحدهم
من حادث صعب، أو يشفى من مرض عضال، أو يخرج سليماً من مصيبة كبيرة. وفي
القرآن الكريم: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»(3)، وفي
اللسان بيت شعر يقول:
فلَوْ كانَ مَيْتٌ يُفْتَدَى، لَفَدَيْتُه.... بما لم تَكُنْ عَنْهُ
النُّفُوسُ تَطِيبُ(4)
زيارة قبور
الأولياء والصالحين:
هي بدعة يتقرّب بها بسطاء الناس من الأولياء والصالحين ليشفعوا لهم عند
ربهم لما لهم من كرامات، فيذبحوا الذبائح عند قبورهم، ويأخذوا قطعاً صغيرة
من القماش الأخضر أو الأبيض الذي يغطي به البعض تلك القبور تبركاً منها ومن
أصحابها، وقد اضمحلت هذه العادة حتى كادت تنتهي بفضل انتشار الوعي والصحوة
الدينية التي فقَّهت الناس وعلمتهم أصول دينهم.
وهناك مناسبات أخرى يُقدَّم فيها اللحم كالختان أو الطهور، وقدوم الحجاج
والمعتمرين، وقِرَى الضيف، وخروج أحدهم من سجن أو مستشفى، وغيرها من
المناسبات.
وبما أننا نتحدث عن اللحم وما يُقدّم منه للضيوف، تعالوا بنا نتعرّف على
أسماء القطع التي تُقدّم منه على المناسف وعلى أنواعها المختلفة والتي من
خلالها يُعبّر صاحب البيت عن مدى تقديره لضيوفه وتقديم الواجب لهم، وهذه
القطع هي:
الجَوَازِل:
اسم يطلق على القطع الكبيرة من اللحم والتي تصلح لتقديمها للضيوف، وهي قطع
معروفة ومحددة، والواحدة منها جازلة، وهي تعني القطع الجزلة الكبيرة، وقد
جاءها الاسم من الجزالة، والشيء الجزل هو العَظيم الكبير، والرجل الجزل هو
الذي يعطي الكثير ويُكثر من العطاء. وأَجْزَلْتُ له من العطاء أَي أَكثرت.
وعطاء جَزْلٌ وجَزيل إِذا كان كثيراً.
والقطع التي تندرج تحت اسم الجوازل هي:
المُخَّة:
وتجمع على مِخَاخ، وهي قطعة اللحم التي تغطّي عظماً من عظام المفاصل،
وتُستخرج مُخَّتان من كلّ طرف من أطراف الشاة الأربعة فيكون عدد المخاخ
ثمانية لا تزيد ولا تنقص، وقد سميت المُخَّـة بهذا الاسم نسبة إلى مُخّ
العظم وهو النخاع الموجود فيه، وكثيراً ما يخرجه الأولاد بطرف عود أو ما
شابه ويأكلونه ويجدون فيه طعماً لذيذاً ومتعة خاصة.
الكتف:
هي القطعة التي تكون على لوحة الكتف، ويوجد في كلّ شاة كتفان، ولحمة الكتف
طرية تشبه لحمة الساق، وبها قطعة من الغضروف أو «قٌرْقُشَّـة»، وغالباً ما
يبحث عنها أصحاب الأسنان القوية ليقضمونها مع ما يعلق بها من لحم لدن طريّ
ويجدون في ذلك متعة ولذة.
الساق:
هي قطعة اللحم التي تغطي عظم العرقوب حتى مفصل الورك، وفي كلّ شاة ساقان،
ولحمة الساق طرية وبها لزوجة خاصة، وليست بها ألياف كالتي في لحمة المُخّة
والورك، وغالباً ما يبحث عنها كبار السنّ لسهولة قضمها وأكلها.
الورك:
هي القطع التي تؤخذ من الأطراف الخلفية للشاة، ويقسم كل ورك إلى قطعتين
فيكون عدد الأوراك في كلّ شاة أربعة، ولحمة الورك كبيرة ولحمها أكثر صلابة
من غيره، وبه ألياف متينة تحتاج إلى أسنان قوية لتلوكها جيداً قبل بلعها.
هذه هي الجوازل، أما القطع الأخرى التي يمكن تقديمها للضيوف والتي تضاف
لتملأ الفراغ حتى يبدو المنسف مليئاً باللحم فهي الأضلاع وهي قليلة اللحم
وليس بها سوى قطعة صغيرة تكون في نهايتها.
وهناك قطعٌ لا يجوز تقديمها للضيوف وهي الذراع الذي يعتبر لحمة الطبّاخ
التي يذوقها حتى يعرف إذا كان اللحم ناضجاً أم لا، كذلك فإنّ الرقبة لا
تُقدَّم للضيوف لرداءة لحمها، وهناك قطعة أخرى تُطبخ مع اللحم ولا تُقدّم
للضيوف وتُسمّى «معقودة»، وهي قطعة لحم رقيقة ومنبسطة تؤخذ من صفاق البطن
من الجانبين وتُعقد على شكل عُقدة، وتطبخ مع اللحم، وغالباً ما تكون من
نصيب الأولاد لقلة اللحم الذي عليها.
أما من يقدم هذه القطع لضيوفه فيُعدّ غشيماً وغير متعود على إقراء الضيوف،
ولو كان كذلك لعرف هذه القطع ولم يضعها على المنسف ويقدمها للناس.
ومن عادة البدويّ أن يتفرّس في قطع اللحم التي أمامه، فإذا كانت سليمة يعرف
أن مضيفه من الأجواد، أما إذا كان تقطيعها غير سليم كأن يكسر الكتف ويقسم
إلى نصفين، أو إذا جُرِّدَت المخة من لحمها فبدت صغيرة ولم تعد جزلة كبيرة،
فهذا يدلّ على أن المضيف ليس من أصحاب الكرم المعدودين الذين من عادتهم
إطعام الضيوف وعمل القِرَى لهم.
أما إذا كانت الشاة كبيرة كأن يكون خروف حَوْلِيّ، أي عمره عام أو أكثر،
فإنّ القطع تكون كبيرة جداً ولا بدّ من تصغيرها فعندها يجعلون من الكتف
قطعتين ويخففون من اللحم الذي على القطع الأخرى حتى يتناسب حجمها مع المنسف
ويمكن تناولها بسهولة أكبر.
وعملية تقطيع اللحم وغسله وطبخه والإشراف عليه هي من مسؤولية الرجل ومن
الأعمال التي يقوم بها بنفسه، وهو لا يعتمد على المرأة في ذلك، وينحصر
دورها في طهي ما يكفي من الخبز لهذا الغرض ليس أكثر، وهو الذي يشعل النار
تحت القدور ويضيف الملح واللبن ويحرك اللحم حتى ينضج، ثم يقوم بإعداد
المناسف، فيفرشها بأرغفة الخبز ويضيف إليها المَرَق ويعمل فتحات وشقوقاً في
الخبز حتى يصل المرق إلى قاع المنسف، ثم يضيف قطع اللحم الكبيرة وبعدها يضع
عدداً من الأضلاع حتى يمتليء المنسف، ثم يكمل بقية المناسف بنفس الطريقة
وبعدها يقدم ذلك لضيوفه.
وغالباً ما يرقب الصحون بعينيه قبل تقديمها ليتأكد من أنها مليئة بما فيه
الكفاية، ويفحص اللحم إذا كان ناضجاً وطرياً أم لا حتى لا يكون عرضة للومٍ
أو عتب، وكذلك حتى يخرج الضيوف من عنده بانطباع بأنه ما ترك شيئاً من جهده،
وأنه كان معهم جواداً كريماً.
أما القِطع التي تُشوى من اللحم فهي: الكبد، والقلب، والكلى، وما يقطع من
اللحم النظيف من أجل ذلك، إضافة إلى الفَشّ (الرئتان) والطحال، وهناك من
يشوي «الجَرْجُور»؛ وهو قصبة الرئة ويَقْرش أو يقضم غضروفها، أما المرأة
فتشوي قطعة دهنية تسمى «دَوَّارِيَّة» لأنها مستديرة الشكل، وهي قطعة دهنية
مليئة بنتوءات وغدد بيضاء كبيرة وهي ما يسمى بالبنكرياس، ولها رائحة زكية
عندما تُشوى على النار وربما من أجل ذلك تفضلها النساء وتحبها أكثر من
غيرها.
أما عَفْش الشاة فيُسَمّى عند البعض «دْبَاش»، هو ينحصر في: الرأس
والكوارع، والأظلاف، والكرش والأمعاء (المصارين)، ويكون استعمالها حسب وضع
العائلة، فإذا كانت مستورة الحال فهي تنظف هذه القطع وتطبخها وتأكل ما
عليها من لحم مهما كان قليلاً، أما إذا كانت العائلة موسرة ولديها قطيع من
المواشي والأغنام فغالباً ما ترمي هذه القطع ولا يستعملها أحد منهم.
وإذا كان الخروف صغيراً يرضع من أمه فإنهم يُخرجون منه «مُصْرَان اللبن»
حيث تشويه النساء أو الأولاد بسبب بعض الدهنيات التي به، وهو يشبه الدوارية
في طعمه ورائحته.
وتجدر الإشارة إلى أن القَرَم وهو اشتهاء اللحم لا يكون إلا للحم المواشي،
أما لحم الطيور فيُعَدّ نوعاً من الطبيخ العاديّ الذي لا يَقْرم له أحد.
كذلك فإن إعداد لحم الدجاج والطيور وطبخه من المهام التي تقوم بها المرأة،
ولا يقوم الرجل بأي شيء من ذلك.
----------------------------
(1) -
سورة الإنسان، الآية 7 .
(2) – لسان العرب: مادة "نذر".
(3) - سورة الصافات، الآية 107 .
(4) - لسان العرب: مادة "فدي". |