بما أن حياة الناس في
الصحراء كانت صعبة وظروفهم قاسية فقد لجأوا إلى تناول ما يتيسّر من الطعام،
وكذلك فقد طبخوا طبخات بدائية بسيطة كان الهدف منها بَلّ اللقمة الخشنة
القاسية وجعلها أكثر طراوة وليناً، وربما وجدوا متعة في تناول هذا الطعام
على بساطته لأن قلة الشيء وفقدانه تجعل ما حضر منه له متعته ولذته. ومن هذه
الأطعمة البدائية نذكر:
المُبَصَّلَة:
واسمها مأخوذ من البصل، وهي تصنع من الماء والبصل، حيث يُفرم البصل ويُقلى
في الزيت أو السمن البلديّ ويُحرَّك حتى يصبح لونه بنياً، ثم يُضاف إليه
الماء ويُترك ليغلي بعض الوقت، ومن ثم تَثرد المرأة فيه خبز الشعير على
سُمكه وخشونته، وتُحرّكه حتى يتشرَّبَ بالحساء ويصبح طريّاً، وقد تضيف إليه
آداماً من السمن وتُقدّمه لأولادها أو لمن تريد أن تقدمه لهم، فتكون اللقمة
ساخنة طرية مستساغة وبها رائحة السمن ونكهته.
مبَصَّلَة
البندورة:
وهي طبخةٌ تشبه الأولى ولكن يضاف إليها عصير البندورة المجففة بعد نقعها
ومَرْسِها، وهذه الطبخة منتشرة جداً في مجتمعنا وما زالت تستعمل حتى اليوم،
ولكن بدلاً من عصير البندورة المجففة فقد استعاضوا عنها بعصير البندورة
الحمراء الناضجة، أو بعصير البندورة المعلبة، ونشير إلى أن هذه الطبخة
لذيذة رغم بساطتها وسهولة صنعها.
حَرْق إصبع:
كانت المرأة عندما لا تجد ما تطبخه لأولادها فإنها تقوم بإعداد طبخة خاصة
لهم تُسمّى «حَرْق إصبع»، وهي عبارة عن شيء من السمن البلدي تغليه في قاع
الطنجرة ثم تضيف إليه الماء وتتركه حتى يغلي، ثم تفتّ فيه الخبز وتثرده
لأولادها، فيأكلونه لأنهم لا يجدون غيره ويحسون بطعمه وكأنه طبيخ عاديّ.
ريق بنت:
ريق البنت هو الخبز المفتوت في الحليب، ويكون في طعمه بعض الحلاوة التي
يكتسبها من حلاوة الحليب، وقد يضاف إليه شيء من السكر إن وجد، وأذكر بيتاً
من الشعر العاميّ يقول:
رِيق البَنَات
سُكَّر نَبَاتْ.... رِيق العجايز نسِيَّـةْ
وعندما لم أفهم معنى كلمة «نسية» فقد سألت أمي رحمها الله عنها فقالت لي:
إنها اللبن الشديد الحموضة.
ومن الملاحظ أن الناس كانوا يلجأون لمثل هذه الأكلات بسبب الفقر والفاقة،
وعدم توفر الطعام وصعوبة الحصول عليه، بسبب المحل والجفاف الذي يضرب
الصحراء لسنوات متوالية، فيستعملونها لبَلِّ اللقمة الجافة لتصبح أكثر
ليناً وطراوة حتى يمكن أكلها واستساغتها.
بيض الدجاج:
من عادة المرأة العربية في النقب أن تربي الكثير من الدجاج «البيَّاض»، أي
الذي يضع البيض، وغالباً ما تضع هذه الدجاجات بيضها بشكل يوميّ، وقد
تَغِبُّ بعضها، أي تنقطع ليومٍ عن وضع البيض ولكنها تعود في اليوم التالي
لتستأنف العطاء، وإذا ما جاعت الدجاجات فعادة ما يَقِلُّ بيضها، ولكن
المرأة تحرص على إطعامها وإذا لم تجد بعض الحبوب فإنها تفرك لها السنابل
الجافة وتنثر لها الحَبّ فتلتقطه بنهم وسعادة، وتستهلك العائلة حاجتها من
البيض، فمنهم من يقليه في السمن البلديّ، ومنهم من يشويه في الرمضاء، وتجدر
الإشارة إلى أننا كنا نَبلّ البيضة بالماء قبل دفنها في الرمضاء حتى لا
تثور وتفقع، وهناك من يطبخ البيض بالبندورة، أو يسلقه في الماء، وهناك من
يقليه في الزيت ويضيف إليه البصل المفروم، وقد يضاف إليه العجين الطريّ
ويعمل منه زلابية تُقلى في الزيت على شكل أقراص، وكنا نطلب من أمي صغاراً
أن تعمل لنا من هذه الزلابية فكانت تضيف البصل المفروم أيضاً إلى العجين
وتصنع منه الأقراص المذكورة، وكنا نجد متعة في أكلها والتهامها.
ويدخل البيض في الكثير من أنواع الطعام، وكلٌّ يستعمله بالطريقة التي تناسب
ذوقه ورغبته.
المختوم:
هو لونٌ خاص من المأكولات التي تستعمل للمرأة النفساء، وهو عبارة عن عدة
أرطال من العَجْوَة تضاف إليها كمية غير قليلة من المرَبَّى ويُسكب فوقها
زيت الزيتون حتى يغطيها، ثم تُطبخ على نار هادئة وتُحَرَّك حتى تختلط في
بعضها البعض ويمتزج بها الزيت، وقد تضاف إليها بعض التوابل من صنوبر وما
شابه، وتترك حتى تنضج، ثم توضع في وعاء معدني وتُحفظ، وإضافة إلى النكهة
التي يُكسبها زيت الزيتون للمختوم فإنه يحفظه من الفساد التلف، والمختوم
يستعمل غذاء للمرأة النفساء ويوضع منه للـ «طَلاّلات»؛ أي النسوة اللاتي
يزرن النفساء ويهنئنها بالمولود الجديد. وللمختوم رائحة زكية وطعم لذيذ.
القَلِيَّة:
وقد ينقطع الطحين ليوم أو لأكثر فيجد الإنسان بطبيعته الوسيلة لتناول ألوان
أخرى من الطعام، فإذا كانت لديه بعض الحبوب فإنه يصنع منها القلية، حيث
يأخذ كمية قليلة من القمح ويحمِّصها على النار في قلاية القهوة حتى تصبح
شقراء وناضجة، وقد يضاف إليها الملح في بعض الحالات مع قليل من الماء
وتحمّص على النار حتى تنضج، ثم تؤكل حيث تكون أكثر طراوة وهي ساخنة وكلما
بردت تصبح الحبات أكثر صلابة. أما إذا كانت العائلة تريد كمية أكبر من
القلية فتقوم المرأة بتنظيف الصاج وتضعه على النار في وضع مقلوب حيث تكون
الحدبة إلى الأسفل وتحمص حبّات القمح كما ذكرنا.
الفريكة:
أما في موسم الزرع وخاصة في أواخر شهر آذار حيث تمتليء سنابل الزرع في تلك
الفترة وتصبح ممتلئة ومكتنزة فعادة ما يقوم الناس بقطع عيدان القمح مع
سنابلها وهي خضراء وممتلئة، أو حتى خلعها من جذورها، ثم تشعل النار وتوضع
السنابل عليها، حيث تحرق النار سَفِّيرَها وتسقط السنابل في النار فتنضج
وتلين بفعل الحرارة، ثم تُخرج وتُفرك وتزال عنها قشورها بواسطة النفخ
عليها، ثم تؤكل وهي ساخنة وتسمى فريكة لأنها تُفرك في راحة اليد، وفي القرى
يجففون الفريكة ويجرشونها حيث تستعمل كجريشة القمح إلا أنها ألذ طعماً
منها، ويباع قسم منها في الأسواق.
الهَوِيسَة:
بعد أن تجفّ سنابل القمح تماماً وقبل أن تُحصد، تقطع السنابل مع عيدانها في
عملية تشبه عملية صنع الفريكة إلا أن الفرق أن تلك خضراء طرية وهذه يابسة
وجافة، ثم تُخرج السنابل من النار وتُفرك فيكون طعمها كطعم القَلِيَّـة ولا
يختلف عنه بشيء.
حفظ المواد الغذائية:
ولا بدّ أن نذكر هنا ونحن
بصدد المأكولات الشعبية وأنواع الطعام إلى أن المرأة العربية في البادية
استطاعت أن تحفظ كثيراً من الأطعمة والمواد الغذائية لفترات مختلفة من
الزمن، مستخدمة أساليب متوارثة اكتسبها الإنسان في صحرائه عبر عصور الزمن
المختلفة وحفظ بها طعامه ومقومات حياته حتى يستخدمها في حلّه وترحاله وفي
المواسم التي تكون هذه الأصناف معدومة فيها. ونحن نستعرض هنا بعض هذه الطرق
لحفظ الطعام والتي استخدمها الإنسان في العصر الذي لم تكن تتوفر فيه
الثلاجات ومنها:
حفظ اللبن
ومشتقاته:
يحفظ اللبن بعدة طرق مختلفة منها حفظه وهو لبن طريّ في كيس نقيّ من القماش
يُسَرِّب الماء عنه ويبقى اللبن الخالص النظيف، وهو يُسمى «جميد» في هذه
الحالة، ويكون حفظه لفترة قصيرة ومحدودة، ويحفظ كذلك لفترة طويلة بواسطة
تجفيفه على شكل أقراص كُرويّة الواحد منها بحجم البرتقالة، ويسمى في هذه
الحالة بـ«العفيق»، وقد يضاف إلى العفيق شيء من الفلفل الأحمر المطحون
وقليل من الطحين فيصبح أكثر هشاشة وطراوة وهو يسمى في هذه الحالة
بـ«الكِشك».
وقد سبق أن تناولناها بالتفصيل في الفصل الثامن عند حديثنا عن المأكولات
التي تعد من الألبان.
أما فائض السمن فيحفظ في جرة تُغطى فوهتها بقطعة من القماش ثم تُغطّى بطبقة
من الطين وتترك لعدة أشهر حتى يحين استعمالها في الفترة التي لا يكون فيها
لبن أو سمن.
حفظ اللحم
المطبوخ:
ليست لدى البدويّ في صحرائه ثلاجة يحفظ فيها طعامه، وحتى لو وجدت لتعذّر
عليه حملها في تنقله الدائم طلباً للماء والكلأ، فكيف يحفظ إذن ما يزيد
لديه من اللحم، فكان من أجل ذلك عندما يذبح شاةً يطبخها مرة واحدة، وتضع
المرأة ما يزيد عن حاجة العائلة منها في خريطة اللبن الجميد الذي ذكرناه،
حيث يبقى محافظاً على طراوته لعدة أيام لا يتغير طعمه ولا يفسد، وعند
الحاجة إليه تخرج المرأة منه بعض القطع التي تكون باردة وبها طعم اللبن
وحموضته مما يكسبها طعماً ونكهة زكية خاصة، ومن المعروف أن اللبن يقضي على
رائحة الزَّفَرة التي في اللحم، ومن أجل ذلك يضاف إلى اللحم عند طبخه.
حفظ البندورة:
البندورة من الخضراوات الموسمية التي تنضج في فصل الصيف، وتكون معدومة في
فصل الشتاء، ولذلك لا تترك المرأة موسم البندورة يمر دون أن تدَّخر لموسم
الشتاء ما يكفيها منها، ولذلك فهي تقوم بـ «تشقيح» البندورة من النصف ورشّ
الملح عليها ونشرها في وعاء فوق البيت أو على شيء مرتفع حتى تجفَّ ثم تُحفظ
للاستعمال في فصل الشتاء، وتسمى «بندورة ناشفة». أما في الشتاء فهي تنقعها
بالماء حتى تصبح طرية ثم تمرسها لتخرج منها عصيراً أحمر داكن اللون تضيفه
إلى بعض الأطعمة كالجريشة وغيرها أما طعمها فهو كثير الحموضة.
ملاحظة: نحن نقول؛ شَرَّ البندورةَ أي نشرها وكشفها للشمس لكي تجفّ، وكذلك
شرَّ الغسيل. وكلمة شرَّ يشرُّ صحيحة لغوياً ويمكن مراجعتها في لسان العرب
أو بعض المعاجم الأخرى.
حفظ البامية:
وهي أيضاً من الخضراوات الصيفية، وتقطع القرون الصغيرة منها وتنشر في وعاء
حتى تجف، أو «تُلْضَم» القرون في خيط وتنشر في الشمس وهي على شكل قلادة
كبيرة، وبعد أن تجفّ تحفظ للاستعمال في فصل الشتاء وتسمى «بامية ناشفة».
حفظ الليمون:
كان الليمون نادراً قليل الوجود، وكان يستعمل دواء للسعال والرشح، وإذا
حصلت العائلة على كمية قليلة منه فإن المرأة تقوم بحفظ بعض حبَّاته حتى
تستعملها عند الحاجة، فتحفر حفرة صغيرة داخل البيت في الأرض الرطبة وتضع
حبات الليمون فيها ثم تغطيها بالتراب وتصبَّ عليها الماء حتى يصبح التراب
الذي عليها رطباً وتتركها في مكان ظليل، فتبقى حبات الليمون طازجة طرية كما
هي لفترة طويلة دون أن يصيبها التلف. وغالباً ما تُخرج المرأة بعض الحَبّات
لاستعمالها، ثم تُعيد طمرَ ما تبقى من جديد.
تبريد الماء:
تشتد الحرارة في الصحراء في فصل الصيف أو في «القيظ»، وتكون شربة الماء
الباردة ضرورية جداً في مثل هذه الحالة، وإذا لم يتوفر الماء البارد
فغالباً ما يُملأ وعاءٌ كبير بالماء ويوضع في مهبّ الريح وفي الهواء الطلق،
وبعد فترة قصيرة تصل إلى ربع ساعة أو أكثر يكون الماء قد برد بعض الشيء،
ويمكن عندها شربه واستعماله.
وغالباً ما تَرِد النساء على البئر في ساعات الصباح ويملأن جرارهن حيث يكون
الماء بارداً، ويكون في البيت زير مغطى بقطعة كيس قد خيطت حوله، فتملأه
المرأة بالماء البارد ثم تبل القطعة التي حوله بالماء وتتركه في مكان ظليل
حيث يحفظ الماء بارداً طيلة النهار.
وقد تحفر حفرة للزير المذكور ويدفن في الأرض وتبقى فوهته خارجاً ويملأ
بالماء البارد ويرشّ الماء على التراب الذي حوله فيحافظ على رطوبته ويظلّ
الماء بارداً فيه طيلة النهار أيضاً.
وهناك عملية عكسية من حفظ الطعام لفترات قادمة وهذه العملية هي تسريع إنضاج
بعض الثمار، فإذا كانت لدينا بندورة خضراء فجة فيمكن وضعها داخل برميل
الطحين حيث تنضج خلال يومين أو ثلاثة وتصبح حمراء صالحة للأكل وذلك بفضل
الحرارة التي تكون داخل الطحين، وهذه العملية تشبه عملية إنضاج الموز.
أما التين فله طريقة أخرى حيث تُغْمس قطعة قطنٍ صغيرة في زيت الزيتون وتدهن
بها فوّهات حبّات التين الكبيرة فتنضج خلال يوم أو يومين، ويحفظها الزيت
ويمنع دخول الذباب إليها ووضع بيوضه عليها وإتلافها.
وكان لدى المرأة صندوق خشبي كبير تخزن فيه المواد الغذائية، فنجد فيه
صُرَّة فيها عدس، وأخرى فيها بازلاء، وصرر أخرى فيها نواشف مختلفة من أرز
وقمح مجروش وغيره، ونجد كيساً فيه كمية من العفيق إضافة إلى إناء السمن
والزيت وغيره، وهذا الصندوق يكون بمثابة خزانة مطبخ كاملة.
المُسَلِّيَات:
هناك بعض النباتات
البرية التي تنضج ثمارها في فصل الربيع، فيلاحقها الأطفال والأولاد في
المزارع والحقول ويأكلون ثمارها، كما يتسلى بها الرعاة فيأكلون منها خلال
رعيهم لمواشيهم، وقد يجد الكبار أحياناً متعـة في قطفها وأكلها، ونذكر
منها:
الدرَيْهِمَة:
هي نبتة ذات أزهار بيضاء على شكل عش عصفور، ولها أجراس صغيرة مستديرة الشكل
وكأنها قروش صغيرة، تؤكل هذه الأجراس وهي طريّة، ومنها نوع أملس وآخر أكثر
خشونة، والأملس طعمه أفضل من طعم الخشن.
الخبيزة:
يؤكل ساقها بعد إزالة قشرته الرفيعة.
البسوم:
نبتة ذات زهرة صفراء كبيرة ولها رائحة فوّاحة، يؤكل ساقها الطريّ بعد إزالة
قشرته.
وهناك نباتات أخرى مختلفة ذات قرون تشبه البازلاء تؤكل منها حباتها ومنها:
قرن الغزال، والجيلبّان، والبُرَّيدي، والسعيسعة، والبخراء وغيرها.
وهناك بعض النباتات التي تؤكل جذورها ومنها نوع يسمى «دقن شايب» وهي نبتة
ذات أوراق عريضة تشبه نبتة لسان الثور إلا أن أوراقها أصغر قليلاً، ويحفر
الأولاد على جذرها وهو أبيض مكسو بقشرة سوداء غليظة ويأكلونه، ونوع آخر
يسمى «جُزَّير أبو علي» له جذر يشبه الجزرة إلا أن لونه أبيض وله أشواك
صغيرة يأكل الأولاد جزرته بعد مسحها وتقشيرها.
وكانت بعض العائلات لا تجد قوت يومها فتأكل من هذه النباتات في فصل الربيع
إلى أن يبعث الله لها بفَرَجٍ من عنده.
---------------------------- |