نستكمل اليوم حديثنا عن
الأغاني الشعبية عند البدو، بعد أن تحدثنا في العدد السابق
عن الأنواع الرئيسة الأربعة التي يعتبرها البدو أغانيهم
الأصيلة التي تربطهم بصحرائهم، وتُعبِّر عنهم أكثر من أيّ
لونٍ آخر من ألوان الغناء، أما الأنواع الأخرى فهي وإن
كانت معروفةً لديهم إلا أنها تُعتبر دخيلةً عليهم، ولا
تحظى بذلك الاهتمام الذي تحظى به تلك الأنواع التي
ذكرناها، ومهما يكن من أمر فقد استطاعت هذه الأغاني
الدخيلة أن تَشُقَّ طريقها إلى قلب البدويّ وتجعله يفتتن
بها وبلحنها ويردِّدها في مناسباته المختلفة، ويُعبّر بها
عما يعتلج في نفسه من أحاسيس ومشاعر، ونحن هنا نأتي ببعض
النماذج منها ونبدأ بأشهرها وهو غناء العتابا:
العَتَابـا:
العتابا لونٌ من ألوان
الموّال الشعبي والغناء الوجداني الذي يتغنّى به الرجال في
مناسباتهم وظروفهم المختلفة، وفيه تعبيرٌ صادقٌ عن الإحساس
والمشاعر وشكوى الزمان ولوعة الحرمان وغيرها من المواضيع
التي يتعرّض لها الإنسان في رحلة حياته، فنجد الناس في
مجالس سمرهم يُغنُّون العتابا، وفي أوقات عملهم يتسلّون
بموَّال العتابا ليخفّفوا به من عناء العمل وما يرافقه من
التعب والإرهاق، وحتى في أوقات الراحة والاسترخاء يتغنّون
بهذا الموّال، وربما اختاروا مقطوعاتٍ بعينها ليعبِّروا
بها عن الوضع الذي يَمُرّون به والظروف التي يعيشونها.
ويتركّب
بيت العتابا من بيتين، أو من أربعة أشطر، على أن تكون
نهاية الأشطر الأول والثاني والثالث قائمة على جِنَاسٍ
واحد وتلاعبٍ لفظيّ، ولعلّ هذا الأمر من أهم القواعد التي
يسير عليها هذا اللون من الغناء، بينما يلتزم الشطر الرابع
قافيةً أخرى مغايرة، غالباً ما تكون على حرف الباء وتُمَدّ
فتسمع وكأنّ في آخرها لازمة "آبا" المأخوذة من كلمة عتابا،
ويُمَهَّد أحياناً لموّال العتابا بكلمة (أوف)، ويتفنّن
المغنِّي في تمديد وتمويج صوته حسب قدراته الفنية لينطلق
بعدها بموال العتابا.
ويذكر البعض أن كلمة
عتابا مشتقة من العِتَاب الذي يكثر في هذا النوع من
الغناء، ويقال إنه نشأ زمن العباسيين حيث أُطلق على بعض
الأشعار التي غنتها جارية البرامكة عندما نَكَّلَ بهم
هارون الرشيد، ولكن يبدو لي أنَّ كلمة عتابا مشتقة من اسم
فتاة ربما كان تدعى "عِتَاب" وقد أحبها شاعر يبدو أن اسمه
محمد العابد، وتغنّى بها كثيراً في شعره ومواويله، وكثيراً
ما يعاتبها على صدّها له وبُعدها وهجرانها عنه، فنجده
يقول:
يقول محمد
العابد يا لابِد |
|
وعزرايين
جُوّا القبر لابد |
ُبكْرَة تموت
يا محمّد العابد |
|
وبعدك مين
يغنّي في عتابا |
|
*** |
|
والأمثلة كثيرة
تجدها ضمن هذه النماذج التي نسوقها هنا.
نماذج من شعر العتابا:
عتابا
عاتَبَتْنِـي وأنا صْغِيـر
|
|
وهَدّتْ حيط
بُنياني وأنا صْغِيـر |
رَبِّـي لا
تْمَوّتْنِـي وأنا صْغِير |
|
لما أَشِيب
والظَّهْـر انْحَنـى |
|
*** |
|
أنا كنت
صْغِير واتْدَلَّل عَ بِيِّي |
|
ولَمَا
كْبِرْت لَبَّسْنِي عَبَيَّه |
ولَمّـنِّي
ركبـتْ العْبَيِّـه |
|
اهتَزّ
الجَبَـل وبَيّي مَشَى |
|
*** |
|
أنا لأبكي
عليهم طُول عُمري |
|
عَ اللي ما
أزعلوني بطُول عمري |
وإن طالَ
الزمان وطالَ عُمري |
|
لأجعل مونْتي
عشب الخلا |
|
*** |
|
شربنا كاس
مُرّ وكاس تَفْ ريقْ |
|
وقَدّر المولى
علينا بتفريـقْ |
يوم فراحهم
حَرّ ونِشَاف رِيقْ |
|
ويوم فراقهم
مَقْت وغَثَـى |
|
*** |
|
ثلاثة
والثلاثة طُول واحـد |
|
وخَلاَّق
المَبَاسِم رَبّ واحـد |
وواحدْ
بالسَّمَا والرَّبّ واحد |
|
وواحد يوم
حَاشِـر واللقـى |
|
*** |
|
جْمَال مْحَمَّلَهْ
وِجْرَارْ بِتْعِـنّ |
|
ليالي مَضَتْ عَ البَال
بِتْعِـنّ |
حَمَلْتْ بْضَاعْتِي
ودُرْتَ أنا أعِنّْ |
|
غَرِيب وما حَدَا مِنِّي
اشترى |
|
*** |
|
صباح الخير صَابَحْتـه ولا
رَدّ |
|
وعَاتَبْتـه بزَلاَّتـه
ولا رَدّ |
ريت اللي يِحْرم الرَّايِد
من الرَّدَ |
|
يموت وخَاطْره شَـمّ
الهـوا |
|
*** |
|
أنا لأبْكِي على حَالِي
وأنا حَـيّْ |
|
يا نَفْسِي عَافَت
المَطْبُوخ والنَّـيّْ |
صَدِيقٍ ما يوَاسِينِي
وَأنا حَـيّْ |
|
شو بدِّي بيه يوم هَيْلات
التّراب |
|
*** |
|
جَمَل جَابوك للقَلْعَة
ونَاخوكْ |
|
وحَطُّوا العُقْل في
ذرَاعكْ ونَاخوكْ |
وليش ما جِيتنـي وأنا
أَخُوك |
|
أنا شَيَّـال حِمْلـك
والصّعَـاب |
|
*** |
|
أنا لأَشِدّ مَاكِن فوق
مَاكِنْ |
|
ذَلُول مطَبَّـعَة
وشْـدَاد مَاكِن |
سألت الوَاردَات منين مَاكِن |
|
قالن لي قَطِيـف من
النَّـدَى |
|
*** |
|
ثلاث غزلان يَرْعَنْ في
حَبَلْهِنْ |
|
سَلَنْ عَقْلي وحتى الروح
معهن |
أنا لأشلح ثيابي وأسوح
معهن |
|
وأجعل مونتـي عشـب الخلا
|
|
*** |
|
حَسَن يا سايق البَكْرَة
والقعُود |
|
وعندك طابَت العِشْرة
والقعـود |
متى يا حلو نتلملم ونقعد
|
|
ونتْحَرَّى الليالـي
اللي مضـى |
|
*** |
|
على بير الصَّفا وردت
حليمة |
|
جدايل سُود أرختهـن حليمـه |
رُوحَن يا شُقُر ما انتنش
غنيمة |
|
حليمة سهيل ونجـوم الضحـا
|
|
*** |
|
علـــينا مـا علـينا وما
علينا |
|
وَقِيَّـة شحم ما ظلت
علــينا |
يا من يقول للوالدة ترضى
علينا |
|
رضاها من رضى رب السمــاء |
|
*** |
|
الدلعونا:
الدلعونا نوع من الغناء
الذي يُغَنّى على الشبابة، ويتغنّى به الرعاة مع مواشيهم
في الفلوات، وكذلك في مناسبات الأعراس حيث يخرج أحد
الشبّان الذين يتقنون الغناء على الشبابة ويتحلّق حوله
كثير من الشباب ويأخذ في "العزف" على شبابته، ويغني شخص
آخر ألحان الدلعونا بينما يقوم الآخرون بالسحجة (التصفيق)
على الأكفّ.
ومن لفظة الدلعونا
اشتقوا فعلاً فقالوا: دَلْعَنَ، يُدَلْعِنُ، دَلْعَنَةً؛
أي تغنّى بهذا النوع من الغناء.
نماذج من الدلعونا:
على دلعـونا وليـش
دَلَّعْتِينِي |
|
وَلَمَّنِي متْجَوِّز ليش
أخذتيني |
لأكتب كتابـك ع ورق تيني |
|
واجعل طلاقك حَبّـة زيتونا |
|
*** |
|
على دلعـونا من هَـان
ورايح |
|
واطْراف الحَطَّة بتُنْقُط
روايـح |
والله لآخـذكِ واتَمْنِـي
رايح |
|
ع بلاد الغُرْبَة ما
بيعرفونـا |
|
*** |
|
علـى دلعونـا ويا حبايبنـا |
|
بَطَّلْـنَا ناخـذ من
قرايبنـا |
بَطَّلْنَـا ناخذ غير اللي
يعجبنا |
|
وانتو انقهروا ياللي
تكرهونا |
|
*** |
|
هيه يا أمّ الشَّعَر ع
الحَنَك مَحْنِي |
|
سواد عيونك بقلبـي
جَرَّحْنِي |
وادعي لي يُمَّـه ربي
يسامِحني |
|
في مشي الجهل وأنا زغنونا |
|
*** |
|
واصبر يا قلبي وايش اللي
صابك |
|
داير متلوِّع على فراق
حبابك |
يا رب العالي ما أوسع
أبوابك |
|
حـرام الجفا ليش بينسونا |
|
*** |
|
يُمَّـه يا يُمَّـه ما
بَدِّي الشايب |
|
قلبـي من جور الليالي
ذايب |
بَحَّاش القبـر عَلّـُوا
النصايب |
|
ورُشُّوا ع الكفن مَيَّـة
ليمونا |
|
*** |
|
من هان ورايح من هان
ورايح |
|
دربك يا حليوة تنقـط روايح
|
يا ما سوّينـا معكم ملايـح |
|
واجـب عليـكو تتذكرونا
|
|
*** |
|
عَ
الزَّنْزَلَخْـتِ عَ الزَّنْزَلَخْـتِ |
|
ريتك يا
حلوة من حظي وبختي |
قُدَّام
الخَلِق بأقول لك يا أختِي |
|
وما بيني
وبينك ما بيفهمـونا |
|
*** |
|
ظريف الطول:
هو لحن
شعبيّ آخر ليس من ألحان البادية ولكنه انتشر في الأوساط
الشعبية وغنّى به العامّة ألحانهم التي تحمل طابع التحسّر
أو الغزل، وكانوا يلفظون كلمة ظريف الطول كما يلفظها
المصريون فيقولون: "زريف الطول"، وكان منهم من يُسَمِّي
ابنته "زريفة"، أي ظريفة، وانتشر هذا الاسم في العقود
الأولى من القرن الماضي حتى أصبح دارجاً مألوفاً. ولحن
ظريف الطول لحن قرويّ أو جبليّ، وهو لا يتناغم بشكل تام مع
طبيعة أهل الصحراء ولولا ما فيه من الحسرة واللوعة لما
استساغته روح أهل البادية التي تميل بطبعها إلى الانطوائية
والحزن، وبرغم كلّ ذلك ظَلَّ هذا اللحن أقل انتشاراً، ولم
يحظ بذلك الانتشار الذي حظيت به الألوان الأخرى.
وهذا نموذج
لبعض الأبيات من ظريف الطول:
يا ظريف الطول رَيِّظ تا
قولّك |
|
رايح الغُربة بلادك أحسن
لك |
خايف يا محبوب تروح
وتتملَّك |
|
وتعاشر الغير وتنسانـي أنا |
|
*** |
|
يا ظريف الطول وين رايح
تروح |
|
جرحت قلبيي وغمَّقت الجروح |
من رافق الزين لازم ما
يسوح |
|
لو كان عقله بالجبال
موَزَّنَا |
|
*** |
|
يا ظريف الطول والله انك
ظريف |
|
عذّبت قليبي يا بو الخد
النظيف |
يا من يحب الله ويعطيني
رغيف |
|
من خبز المحبوب يكفيني سنة |
|
*** |
|
يا ظريف الطول ع عين
العَلَق |
|
والعنـق شبرين وهيك الله
خَلَق |
حلوة مليحة لو لبست خَلَق |
|
وايش حال لو تلبس هدوم
الولدنة
|
|
*** |
|
يا ظريف الطول يا عيني
اليمين |
|
قولّي يا محبوب بعدي تهوى
مين |
والله يا ابن العم لأحلف
لك يمين |
|
ما يخش الدار غيـر أنت
وأنا |
|
*** |
|
يا ظريف الطول مشيك دَلَع
ليش |
|
يا كحيل العين هالبغضة
عليش |
لو سقوني المر بعد المـر
شيش |
|
لا غِنَـى عنكم حبابـي لا
غنى |
|
*** |
|
يا ظريف الطول مَرّ وما
الْتَفَتْ |
|
وَلَّعَت ناره بقلبي وما
انطفت |
إن كان يا ولفي هالعِشْرة
جفت |
|
لا بارك الله في عِشْرة
غيرنـا |
|
*** |
|
يا ظريف الطول ماشي القوز
القوز |
|
يا خسارة الحزام في صُلب
العجوز |
لأروح للحاكم أقول له ما
بيجوز |
|
حَزِّمها بتلفون واحكمها
بسنـة |
|
*** |
|
ولهم أغان أخرى كثيرة في
استقبال الأعياد، وفي استقبال المطر، وعند الحصاد للتنشيط
ورفع الهمة، وكذلك عند نشل الماء من البئر وسقي المواشي
مما لا يتسع المجال لذكره.
أغاني
النساء:
أما أغاني النساء فتقتصر
على مناسبات الأعراس والطهور وبعض المناسبات الأخرى ومنه
نوع تغنيه النساء المتقدمات في العمر والعجائز ويسمى
تقطِّر، ويقال يُقَطّرن، حيث تجتمع عدة نسوة ويتقابلن في
شبه دائرة ويغنين بلحن ممطوط لا إيقاع فيه فيقلن يا بو
محمد بالطريقة التالية: يااااااا بووووو محاااااامد،
وهكذا.
وقد انقرض هذا اللون من
الغناء أو كاد، ولم يبق مَنْ يعرف عنه سوى بعض النسوة
المخضرمات والمتقدمات في السن كما ذكرنا، أما الجيل الجديد
فيكاد يجهل هذا اللون من الغناء ولا يعرف عنه شيئاً.
وهناك أنواع أخرى من
الغناء الراقص الذي تؤديه الشابّات من النساء أو البنات
ويصاحبه الرقص والضرب على الطبل والزغاريد وتصفيق الأيدي،
وتنتظر النساء هذه المناسبات لتفرغ وطاب فَنِّها وإبداعها
أمام زميلاتها فتمتاز بعضهن بالرقص وأخرى بطول الزغرودة
وقوتها وغيرها بجمال الصوت والغناء وما إلى ذلك.
وبهذا نصل إلى نهاية هذا
المقال، حيث نخرج بعده في إجازة لعدة أسابيع نجمع خلالها
مادة من تراثنا الغالي ونعود إليكم وفي جعبتنا الكثير
الكثير بعون الله تعالى.
---------------
نشرت في صحيفة أخبار النقب بتاريخ 28/03/2005
جـميع
الحقـوق مـحفوظـة
« لا يسمح باستخدام هذه المادة
بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »
ولا
يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.
|