المجتمع العربي في النقب هو مجتمع محافظ،
له عاداته وتقاليده الاجتماعية المتوارثة، وله طرقه
الخاصة في التعامل مع هذه المواضيع، ومن بينها موضوع
الزواج والذي هو من أكثرها حساسية نظراً لتعلقه بموضوع
العِرْض والشرف والكرامة والتي يضعها الرجل البدويّ فوق كل
القيم والاعتبارات، وحتى ربما فوق الحياة نفسها.
ونظراً للعُزلة التي تفرضها البيئة
الصحراوية على حياة الناس وظروف معيشتهم، نجد أن موضوع
الزواج كان يدور في نطاق العائلة والقبيلة، ولا يتعداهما
إلا في القليل النادر، وكانت الطرق التي يتم بها تزويج
الأبناء، أو يتم بها الزواج بشكل عام تتلاءم مع بيئة
البدويّ وحياته في الصحراء. وإن كانت تجري في مجملها
بالطرق الإسلامية الصحيحة على سنة الله ورسوله.
والزواج
اصطلاحاً: هو ذلك الرباط الشرعيّ المقدس الذي يربط
بين الرجل والمرأة ليقترنا ويكونا زوجين، وهو عقد شريف
مبارك شرعه الله سبحانه وتعالى ليحفظ به الذرية والنسل،
ويعفّ من خلاله الناس عما حرّم الله.
وفيه
هدوء للنفس، ونشر للفضيلة، وبقاء للنوع، وحفاظ على
النسب، وفي القرآن الكريم: "وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ" [
الروم: 21].
وفي آية أخرى:"
وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ
أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم
بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ
يَكْفُرُونَ
" [النحل:72 ].
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
للزوجة المسلمة "الدنيا
متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة".
أخرجه مسلم (1467).
الزواج في اللغة:
هو اقتران الرجل بالمرأة بمراسيم شرعية
دينية. وفي لسان العرب؛ مادة زوج: الزَّوْجُ: هو
الفَرْدُ الذي له قَرِينٌ. وزَوَّجَ الشيءَ بالشيء،
وزَوَّجه إِليه: قَرَنَهُ. وفي التنزيل: وزوّجناهم بحور
عين؛ أَي قرناهم، وكل شيئين مقترنين، شكلين كانا أَو
نقيضين، فهما زوجان؛ وكلُّ واحد منهما زوج.
والزوج: الاثنان. وعنده زَوْجَا حمام؛
يعني ذكراً وأُنثى. وزوج المرأَة: بعلها. وزوج الرجل:
امرأَته؛ والرجل زوج المرأَة، وهي زوجه وزوجته وكل شيئين
اقترن أَحدهما بالآخر: فهما زوجان.
والزَّوْجُ: خلاف الفَرْدِ. يقال: زَوْجٌ
أَو فَرْدٌ، وقال تعالى: وأَنبتنا فيها من كل زوجٍ بَهيج، قال ابن سيده: ويدل على أَن الزوجين في كلام العرب اثنان
قول الله عز وجل: وأَنه خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
والأُنثى؛ فكل واحد منهما كما ترى زوج، ذكراً كان أَو
أُنثى. وقال الله تعالى: فاسْلُكْ فيها من كلٍّ زَوْجَيْن
اثنين.
ونحن نتناول موضوع الزواج هنا من الناحية
التراثية وليس من باب البحث العلمي الشامل، حتى لا نخرج
عن المسار الذي رسمناه لأنفسنا لبحث عاداتنا وتقاليدنا
وموروثاتنا الشعبية. ولذلك نريد أن نركّز هنا على الطرق
المتبعة والتي يتم من خلالها أو ضمن إطارها إجراء مراسيم
الزواج وهي تتلخص في الطرق التالية:
الزواج الاعتيادي:
وهو الزواج الذي يتقدّم فيه رجلٌ لطلب يد
فتاة أو امرأة من أهلها، وهذا النوع من الزواج هو الأكثر
انتشاراً بين الناس، وهو النوع السائد في مجتمعنا، حيث
تأخذ المراسيم الشرعية مكانها فيه من عقدٍ شرعيّ حسب الدين
الإسلامي الحنيف. وتجري المراسيم بأن يتقدّم أهل العريس
ووجهاءٌ من قومه لوالد العروس وأهلها، ويطلبون يدها،
وإذا تمت الموافقة يقرأون الفاتحة ويتفقون على المهر وربما
على بعض الشروط التي يطلبها أهل العروس، وكذلك على يوم
الزفاف أو "يوم الأخذ" كما يسمونه ثم تتم المباركة بقولهم:" مبروك.. إن شاء الله يكون كعبها أخضر عليكم ويكون منها
الذرا والذرية ". وعندما يعود أهل العريس إلى بيوتهم
ويُخبرون بما تم من أمر الخطوبة تبدأ النساء بالزغاريد
والمباركة، وتتوافد النساء يباركن لأم العريس وكذلك الشباب
يباركون للعريس بهذه المناسبة السارة.
وهذا الزواج يتم فيه كما هو معلوم زواج شاب
وفتاة، أو رجل وامرأة ويكون مبني على شخصين فقط لا
يتعداهما.
زواج البَدَل:
هو زواجٌ يتمُّ خلاله تزويج أربعة أشخاص،
أثنين من الذكور واثنتين من الإناث، وهذا النوع من الزواج
منتشر في مجتمعنا بشكل كبير، وإن كان في السنوات الأخيرة
قد أخذ طابعاً بفضل الوعي الديني يتلاءم بشكل أو بآخر مع
روح العصر. وذلك من خلال عدم ربط أي طرف من الزواجين
بالطرف الآخر فيما لو حدثت مشاكل مستقبلية بين طرف من
الأطراف فلا يكون ذلك على حساب الطرف الآخر الذي قد يكون
يعيش في تفاهم ووفاق، ويتم الاتفاق بهذا الخصوص بين
الجانبين بحضور المأذون الشرعي الذي غالباً ما يسجل ذلك
الاتفاق ضمن الشروط الموجودة في وثيقة الزواج.
وزواج البَدَل يحدث إذا كان لأحد العائلات
ابن وابنة ( ولد وبنت ) في سنّ الزواج، فإن الأب يبحث عن
عائلة تناسبهم من حيث الحَسَب والنَّسَب إن كان من أبناء
حمولته المقربين أو من أي عائلة أخرى يكون بينهم نَسَب
سابق، أي تكون مَنْسَبَاً لهم كما يقولون.
ويتم الاتفاق بين الطرفين على المُبَادلة
حيث يُزوج كلّ أب من الطرفين ابنته لابن الرجل الآخر شريطة
أن لا تكون هناك ممانعة من أحد الأبناء أو البنات، لأن
الزواج يكون بالرضى والاتفاق ولا يُفرض فرضاً على أحد من
الأبناء، حتى يبنى على التفاهم والوفاق منذ البداية.
والهدف من زواج البَدَل هو تزويج البنت قبل
الولد لأن الولد يمكن أن نبحث له عن زوجة متى شئنا، أما
البنت فالوضع يختلف ولا يمكن أن نبحث لها عن عريس لأن:"
اللي بيدَلِّل على بضاعته بتبور
"، ويقولون كذلك:"دوِّر
لبنتك قبل ما تدَوِّر لولدك
"، لأن الزواج يصون العِرض ويحمي الشرف ويحفظ الكرامة
والعفّة وماء الوجه، وعِرض الإنسان كالزجاج إذا انكسر
يصعب جبره وإصلاحه والمثل الشعبي يقول:"
العِرض ما بينحمى بالسيف"، فالزواج يحفظ للمرأة شرفها وعفتها كما ذكرنا، ولذلك
يكون للصهر أو " النسيب " احترامه وقيمته، لأنه يستر
الوليّة ويقولون:"
النبي فَرَش عباءته لنسيبه
".
أما إذا كبرت الفتاة عند أهلها وفاتها قطار
الزواج فإن القلق يأخذ مجراه من نفس والدها، وربما تسأله
والدتها لماذا لا يُدبِّر لها زواجاً فيجيبها متذمراً:"
ماذا تريدين مني، هل أمسكها من يدها وأُدَلِّل عليها في
السوق. وترد الوالدة بقولها وكأنها تعزي نفسها:" بيجيها
ابن الحلال، وتضيف متمثلة بالمثل الشعبي:"
خَلِّي السمن في جراره لما تجيك أسعاره"،
دلالة على عدم الاستعجال لأن:"
اللي بتصبر بتنول"، أي تنال منيتها ومبتغاها بفضل تحملها وصبرها.
أما إذا أغلقت جميع الطريق في وجه الفتاة
ولم يتقدم أحد من الناس لطلب يدها، أو إذا لم يكن لها أخ
يبدِّل بها فغالباً ما يلجأ والدها لطريقة ربما لا يجد
غيرها في تلك الظروف وهي أن يقوم هو بالتبديل بها،
ويزوجها لرجل متزوج في مثل سنه فتكون تنتظرها ضُرّة لا
تتفق معها في كثير من الأحيان وتعيش في ظل تلك الظروف مهما
كانت قاسية، بينما يتزوج هو ابنة ذلك الرجل حتى لو لم تكن
لديه رغبة في الزواج.
أما إذا أبعد قطار الزواج كثيراً عن الفتاة، فإنها تجد في كثير من الأحيان من يتقدم لطلب يدها ولكنه
لا يكون شاباً بل يكون كهلاً في متوسط العمر، ويتزوجها
على ضرة، أو ربما يتزوجها أحدهم إذا مرضت زوجته وطال
مرضها أو إذا توفيت في بعض الحالات، لتعمّر له تلك الزوجة
بيته وتقوم برعاية شؤونه وشؤون أولاده.
ومن هنا نرى أن الناس في مجتمعنا لجأوا إلى
طريقة زواج البَدَل للأسباب المذكورة وربما نضيف أيضاً بأن
بعض العائلات المستورة ربما تلجأ لذلك ليكون لديها متسع من
الوقت تشتري خلاله المصوغات والملابس وكل متطلبات العروس،
وكذلك يلجأ إليه البعض لحجز فتاة معينة حتى لا يتقدم أحد
لطلب يدها ويغلقون بذلك الطريق أمام الخاطبين.
وقد يكون البَدَل بين جيلين متفاوتين، أي
أن يزوج الرجل ابنه من فتاة في جيله مثلاً على أن يزوج
ابنته الصغيرة لابنهم بعد عام أو عامين أو أكثر، وإذا لم
يوفَّق الزواج الثاني لسبب من الأسباب كرفض الابن أو
الفتاة، أو وفاة أحدهما أو غيره من الأسباب، فإنَّ الأب
يدفع مهراً لوالد العروس في مثل هذه الحالة.
ولا بد أن نشير أن زواج البَدَل كثيراً ما
تحدث به المشاكل والخلافات، فقد يتخاصم أحدهم مع امرأته
فيطردها أو يطلقها، فيضطر الثاني الذي يعيش في وفاق مع
امرأته أن يقابله بمثل صنيعه، وإن لم يفعل فإن الأول الذي
طرد زوجته يستدعي أخته ويحجزها عنده حتى تنتهي المشكلة إما
بعودة النساء إلى بيوتهن وإما بطلاقهن ولذلك نجدهم يقولون:"
البَدَل قلة عَدَل
"، أي قلة عَدْل وإنصاف.
زواج المثالثة:
هي طريقة يُزَوَّج بواسطتها ستة أشخاص
ثلاثة من الذكور وثلاث من الإناث، حيث أن البدل يكفل زواج
أربعة أشخاص، ولكن في حالة وجود شخص ثالث له أخت ولكن ليس
له من يقابله ليتبادل معه، فإنهم يقومون بهذه الطريقة حتى
يتسنى لهم تزويجهم جميعاً، وإذا لم يقوموا بها فإن ذلك
الشخص يظل بلا زواج.
ولكي نسهِّل الأمر نقول: إن سعيد لديه أخت
تدعى "سلمى"، وعبد الله لديه أخت تدعى "فضة"،
وحسان لديه أخت تدعى "فاطمة" فيتم الزواج بالطريقة
التالية:
سعيد يعطي أخته " سلمى " زوجة لحسان،
وحسان مقابل ذلك يعطي أخته "فاطمة" زوجة لعبد الله،
وعبد الله يعطي أخته "فضة" زوجة لسعيد.
وكانوا يستعملون هذه الطريقة من البدل لقلة
البنات، حيث كانت نسبة المواليد من الإناث أقل من نسبة
الذكور في تلك الفترة، وكان انتشار الأمراض والأوبئة
كالحصبة والجدري يحصد أرواح الكثيرين في ظل التمسك
بالعادات التي لم تكن تعرف الطب أو العلاج وتعتمد على
الرقى والحُجب وبعض الأعشاب والخرز من الحصى وغيره. كذلك
فإن المجتمع الصحراوي كان مجتمعاً منغلقاً على نفسه، لا
يختلط بأهل القرى، أو بأهل المدن إلا فيما ندر، وحتى
القبائل البدوية نفسها لم يكن من عادتها الاختلاط بعضها
ببعض فنشأت من جراء ذلك مثل هذه الصعوبات، وقد ظننت باديء
الأمر بأن هذه العادة قد انقضت فأخبرني أحدهم بأن فلاناً
زوّج ابنه في العام الماضي بهذه الطريقة وقد حضرت بالفعل
عرس هؤلاء الشباب ولكنني لم أكن أعرف بأنهم تزوجوا بهذه
الطريقة.
زواج الغُرَّة:
ليست هذه طريقة من طرق الزواج، ولكنها
حالة كان يُلجأ لها للصلح في حالة وقوع شرِّ ودم بين
قبيلتين. وبدلاً من أن يثأر أهل القتيل لدم ابنهم المقتول،
فإنهم يطلبون من غرمائهم أن يعطونهم فتاة يزوجونها لأحد
أبنائهم لتنجب لهم ولداً مكان ابنهم القتيل.
ويتفق أهل الفتاة على ذلك من أجل الصلح
وإنهاء الخلاف وحقناً للدماء بين الطرفين، ويزوجونهم فتاة
من فتياتهم زواجاً صحيحاً من حيث المراسيم، ولكنه يكون دون
رغبة الفتاة التي يُفرض عليها هذا الزواج فرضاً ولا تستطيع
الرفض خوفاً من تعرض أهلها وإخوانها للانتقام أو القتل في
حالة استمرار الشرّ بين الطرفين.
وبعد أن تنجب تلك المرأة ابناً ذكراً
وترضعه وتربيه حتى يصبح يستطيع المشي على قدميه، تمسكه من
يده وتأخذه إلى أهل زوجها وتقول لهم:" ها قد أنجبت لكم
ولداً مكان ابنكم"، وبذلك يكون قد تحقق الشرط. ويمكنها
بعد ذلك أن تغادر بيتها وتعود إلى أهلها، أو أن تستمر في
حياتها الزوجية إذا كانت راضية عنها.
وكثيراً ما تتعرض تلك المرأة " الغُرَّة "
في ظل تلك الظروف إلى الإهانة والإذلال وسماع ما لا يسرها
من الكلام جراء ما فعل أهلها مع تلك العائلة، ولكنها كانت
تتحمل وتصبر لأنه ليس أمامها إلا الصبر، وهي هنا تعاقب
بذنب لم تقترفه، وهذه العادة ليست من الإسلام في شيء بل
هي من مخلفات الجاهلية، وقد بطلت قبل سنوات طويلة، وكانت
موجودة حتى العقود الأولى من القرن الفائت.
وسمعت أمي ذات مرة تتشاجر مع أبي وهي تقول
له بحنق:" أنا ماني غُرَّة عندك "، أي أنا لست غرة عندك
حتى تقسو عليّ وتعاملني بهذه الطريقة.
وهذا يدلّ على أن الغرة كانت تُعامل بقسوة
وفظاظة لأنها أُخذت كنوع من متاع الصلح ولم تؤخذ بطريقة
الزواج الشرعي الصحيح.
وقد سألت أحد الشيوخ عن زواج الغُرَّة
زيادة في التأكد فشرح لي مثلما ذكرت وزاد:" مسكينة كانت
تتحمل كثيراً ".
وبهذا نكون قد أتينا على بعض الجوانب
المهمة من هذا الموضوع، ونأمل أن تجد لديكم الرضى والقبول،
ونسأل الله أن يسدد خطانا ويوفقنا لما يحب ويرضى إنه على
كل شيء قدير.
---------------
نشرت في صحيفة أخبار النقب بتاريخ 8/12/2003
جـميع
الحقـوق مـحفوظـة
« لا يسمح باستخدام هذه المادة
بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »
ولا
يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.
|