مسك الخواتم
قراءة في باكورة سهيل عيساوي
بقلم: مصطفى مراد
إحدى
عاداتي الطيبة أنني أضع الملاحظات على كل كتاب أقرأه. ويحدث
أحياناً أنني أعيد قراءة كتاب ما ، بعد فترة قد تطول أو تقصر ،
فيحدث عندها أن تتوفّر لديّ الفرصة لمقارنة ما لمسته في
القراءة الثانية بما لمسته وسجلته في القراءة الأولى .
وإحدى عاداتي السيئة أنني أُستَفّزُّ سلباً أو إيجاباً ، فأقرر
أن أكتب عن كتاب ما ، إيماناً مني أنّ صاحبه يستحق التشجيع
ولفت النظر، ثم أظلّ أرجىء ذلك حتى تتراخى الخيوط وأهمل ما كنت
نويته .
وكم أهملت ما نويت ، وكم كانت نواياي حسنة ، وكم هم كثيرون
الذين يستحقون أن نشدّ على أيديهم . ومن هؤلاء الكثيرين ذلك
الشاب ، سهيل عيساوي ، الذي يظلّ يفاجئنا بنشاطه ، فيثير عندي
نوازع الغيرة على هذه الهمة العالية وهذه المواظبة المحمودة .
فإذا كان سهيل عيساوي قد أعلن عن نفسه في مجموعته الشعرية
الأولى "وتعود الأطيار الى أوكارها " قبل نحو خمس سنوات فقط ،
فإنّه يكاد يسبقني بعد أن أصدر في أربع سنوات فقط ثلاثة كتب
غيرها ، يُضاف إليها مجموعة مشتركة قام بإعدادها ومجلة أخرى
وصلتني مؤخراً هي "الفانوس الجديد" . هذا بالإضافة إلى نشاطات
أدبية أخرى أتابعها ، مثل تنظيم أمسيات شعرية وندوات أدبية
وغير ذلك .
هنيئاً لسهيل عيساوي على هذا النشاط . ومَن مثله يستحق أن
يُشار إليه ، ومن مثله يستحق أن نعينه على مؤامرة الصمت
والإهمال التي يجيدها بعضهم وبعضهم . ولست منهم . ولست منهم .
على الصفحة الأخيرة من باكورة سهيل عيساوي "وتعود الأطيار إلى
أوكارها " الذي صدر عام 1994، والذي عدت إليه بعد قراءة قصيدته
الأخيرة في مجلة الفانوس الجديد فلفتت نظري ، وجدتني قد كتبت
ما يلي ، ( وأضع النص الذي سجلته على الكتاب كله) :
قرأته للمرة الأولى في 30 / 6 / 1994،
1. يعرف كيف ينتهي .
2. يعرف كيف يبدأ .
3. لا يلتزم قافية إطلاقاً وهذا شرط شعر النثر .
4. القصائد هي خواطر وأفكار .
5. متنوّع الأغراض ويكتب عن الشعر وعن المرأة وعن الوطن .
6. عنده أفكار جديدة .
7. وبعض التشبيهات والصور الجميلة .
8. أخطاء طباعة كثيرة .
9. كل المقطوعات قصيرة وجاءت في صفحة واحدة فقط .
10. هنالك ثلاث مقطوعات جاءت في صفحتين .
11. يكتب بتلقائية وعفوية .
12. الكتاب بدون فهرس .
فكأنني
إذًا ، هنا ، قد أتممت ما جاء في العنوان ، وأنجزت ما ادّعيته
هناك ، من كون هذا النص قراءة في باكورة سهيل .
يجوز.... !
غير أن أخي غسّان حاج يحيى لن يغفر لي أنني أشرت الى خلوّ
الكتاب من فهرس . فاستعملتها هي ، وهي الفارسية . أما الصحيح
الصحيح فهو أنّ الكتاب يخلو من قائمة محتويات ، وهذا أحد
الأخطاء الكبيرة في الكتاب . أمّا الخطأ في استعمال اللفظة
الفارسية ، فقد درجت من جهتي على تجنبه فيما أصدرته من كتب ،
بعد ملاحظة ذلك الغسان .
وسأرتكب خطأً أكبر إذا لم أنبِّه الى بعض النصوص وبعض المواضيع
التي استوقفتني في باكورة سهيل .
* * *
إنّ مفتاح لغز كتابات سهيل ، حتى الكتابات النثرية منها ، وهي
ما قرأناه لاحقاً في كتابين آخرين له ، هو أنّه يكتب بعفوية
وتلقائية . إنّه ، ببساطة ، يسجّل ما يجول بذهنه ، ويسجّل
مشاعره . والعفوية هي أهمّ شروط الشعر .
الشعر هو تدفّق .. تفجّر .. هو الكتابة بدون تخطيط . فإذا جاء
النصّ كذلك ، وعرف كاتبه كيف يبدأ وأين ينتهي ، مسجّلاً تلك
الدفقة الشعورية بصدق ، فإنّ ما يضعه هو قصيدة ، إذا أحسن ،
أيضاً ، وضع خاتمة لها .
وتختلف القصيدة عن سواها من الأشكال الأدبية ، في رأيي
المتواضع ، من حيث كونها عملا غير مبرمج ، وغير معدٍّ
سلفاً ، بالإضافة الى
ضرورة توفّر الشروط الفنية للشعر ، من صورة مبتكرة ولغة موحية
وتكثيف للفكرة .
وأستطيع أن أدّعي أنّ سهيل قدّم لنا عدداً من النماذج الجديدة
في باكورته ، بالإضافة الى أنّ هناك عدداً من النماذج الأخرى .
دون أن نغفل أننا نتناول باكورةً لشاعر شابّ .
وأكثر ما لفت انتباهي في أغلب ما استوقفني من نصوص باكورة سهيل
،
أنّ القصيدة تظلّ تتقدّم حتى تصل حدَّها
في النهاية ، وأنه يتوقف
حيث يجب أن يتوقف ، فتأتي الخاتمة راضية مرضية ، توفّر للقارىء
ذلك الشعور بالمتعة ، الذي يجب أن يوفّره النص الأدبي .
وقد كانت خواتم أغلب القصائد موفقة . وكنموذج لقصيدة جيدة أشير
إلى "كتاب مفتوح" (ص 26) ، وأضع نصفها الأخير :
"
عجباً ... قرأ الأمّيون باكورة نحسي
رغم التعتيم .. والتضليل .. والتمويه ..
رصدوا كلّ خواطري
عيناي تقولان كلّ شيء بصمت مطبق
أثر خطواتي يوحي بالمكتوم
يا إلهي .... لقد كنت كتاباً مفتوحاً "
وهذا نموذج آخر من قصيدة "أنا عربي":
"
قسمات وجهي .. تقول أنا عربي
نبرات صوتي الجريحة .. تقول أنا عربي
براءة عينيّ .. هامتي الشامخة
والجراح على جسدي
ونظرات الغرباء لي
وإهانة الشرطي لي تقول أنا عربي
كلّ شيء حواليّ يشهد
أنني عربي" .
لنلاحظ
كيف ينهي الشاعر هذه القصيدة السياسية بهدوء ودون ضجيج ودون
لجوء إلى الشعارات الطنانة الرنانة. إنّ العفوية التي يكتب بها
هي التي تقف وراء هذا النجاح . هذا بصرف النظر عن كون هذه
القصيدة بالذات خالية من أيّة صورة جميلة يمكن أن تستوقف
القارىء . ولكنها ، كقطعة متكاملة ، قصيدة جيدة ، رغم ذلك
النقص.
نفس هذا الابتعاد عن الشعار نلاحظه في قصيدته " اقتراب الفجر "
التي تتحدث عن الانتفاضة ، والتي ينهيها كما يلي:
" أبناء عمومتنا
لم يعرفوا أنّ الله من السماء السابعة
كان ينظرهم بعين الغضب
وينذرهم .. وينذرهم ..." .
هكذا،
وببساطة تستوقف القارىء ، ينهي سهيل أغلب قصائد باكورته .
ولنلاحظ الفرق بين النص أعلاه ، وبين نموذج آخر ردىء ، أختار
أن أورده ، يتناول نفس الموضوع / الانتفاضة :
"قالوا : لِمَ تبكي؟
قلت : كيف لا أبكي
والوطن الحبيب في الأسر
بيد أني كفكفت دموعي
بعد أن أيقنت أن النصر للحجر" .
("تعليل" ص 54)
هنا
.. حاول سهيل أن يقفي ، فجاءت محاولته ضعيفة جداً . بل إن
القافية المتوخّاة جاءت مكسورة ، لأنّ " الأسر " لا تلتقي مع "
الحجر " في القافية .
ونفس هذه الملاحظة يمكن أن نسوقها حول قطعة " أنا لن أنسى "
على الصفحة التالية ، التي تتناول مجزرة كفر قاسم. يقول هناك:
" والجوع يشقّ ثوب الطفل
والأسود يغادرونها
تحت التهديد والقتل " .
تعمّد الشاعر هنا أن يقرن "الطفل" بـ " القتل " سعياً وراء
القافية ، فجاء المعنى هشاً ضعيفاً ، علاوة على كونه مكروراً .
وهذا ما يجنيه تعمّد إحراز القافية ، وهذا ما نراه شائعاً في
كتابات الشعراء الشبان ، الذين يفعلون ذلك مفترضين أن وجود
القافية تدليل على قدرتهم ، في حين أن القافية تصبح مقبولة ،
لا ضرورية ، في الشعر المرسل الذي يتحقق فيه شرط الوزن . أما
ما جاء منثوراً ( وهو الشعر الشعر ، كما أرى ، وهو النتاج
الحتمي للتلقائية والعفوية ، التي هي شرط النص الشعري ) فلا
يحتاج الى قافية .
يظلّ أن أشير الى بعض الصور الشعرية التي استوقفتني في باكورة
سهيل ، والتي هي من " الضرورات الفنية " للكتابة الشعرية ،
ولكن دون أن يصبح وضعها هدفا بحدّ ذاته ، بحيث تسيطر على
القصيدة وتثقل كاهلها وتسيء إليها ، بدل أن تفيدها ، وهذا ما
ألاحظه عند قراءتي للكثير من النصوص الشعرية لشعراء شبان . ومن
ذلك :
1. " اضطجعوا على أمواج البحر
همسوا لحبّات الرمل
بأسرارهم " (ص 19).
2. " يشكّكون بأصلك
كأنّك علكة
أو ملعقة شهد " ( ص 31).
وتذكّرني
تلك " العلكة " بما ثار من نقاش حول " وشربت شاياً في الطريق "
التي اجترحها الشاعر المصري صلاح عبد الصبور ، فأثارت
الاستهجان والاستهزاء في حينه ، ولكنها لقيت أيضاً من الاهتمام
ما مهّد الطريق لاستعمال المفردات اليومية في الشعر العربي ،
ومهّدت لتحقيق الانتصار على لغة القاموس ، التي كانت سائدة
متسلطة آنذاك .
3. " ورثنا كل شيء
حتى الابتسامة الصفراء
في الزمن النحاسي " (ص 51).
4. " جرّديني من أيّ شيء
واتركي لي قلمي
فأنا من دونه
طفل يتلعثم بالكلمات " (ص 62).
ويظلّ
أن أضيف أنني توقّفت عند الإيجابي في باكورة أخي سهيل عيساوي
،وأنني فعلت ذلك لأن ذلك الإيجابي قد زاد في كتاباته التالية ،
الأمر الذي يوضح لنا أنه يتقدّم .
إنّ من يتقدّم ببطء ، وإلى الأمام ، يقال له بثقة أكيدة : الى
الأمام .
بانوراما
23 / 7 / 1999
|