قراءة في كتاب "بين فكي التاريخ" للكاتب سهيل عيساوي

قراءة في كتاب

"بين فكّي التاريخ" للكاتب سهيل عيساوي

بقلم: صالح أحمد

 كلما طال بنا العهد ... وكلما تعبت أعناق المتطلعين الى الأمام لا بدّ من شادٍّ يشدُّنا ليعلمنا أنّ المجد لم يصنعه المرتاحون .. وأن الحضارة لم يصنعها الكسالى والمقلّدون .. وأنّ التاريخ لم يصنعه الجبناء ولا المتواكلون .. وأنّ الأرض لا يحرّرها التبعيون ولا المتحذلقون ... وإنما يُصنع المجد بدم الأحرار .. وتصنع الحضارة بدم المفكرين .. ويصنع التاريخ بجهد المخلصين .. ولا تكون الحرية إلاّ لمن فكّر بحرية .. بمعنى .. أنّ الحرية لا يمكن أن ينالها من عبَّدَ نفسه لفكر غيره واجتهاد غيره .. وحصر نفسه في دائرة غيره .. إنما الحرية ثمرة يقطفها من ملك بستان الفكر وغرسة الإرادة .. وسقاها بماء الجهد الشخصي الحرّ المستقلّ البعيد عن أيّة تبعية إلاّ لفكره ورأيه وواقعه وانتمائه الحر المنطلق .

هذه هي الرسالة التي أراد أن ينقلها لنا الأخ الكاتب سهيل إبراهيم عيساوي في كتابه " بين فكّي التاريخ ". وهو يحدّثنا عن قادة الفكر والسياسة والحضارة والمجتمع والأدب في عالمنا ، لنقف بأنفسنا على أنّ هؤلاء القادة والمفكرين ما كانوا ليصلوا الى ما وصلوا إليه ولا ليتركوا لنا ما تركوا من آثار فكرية واجتماعية وسياسية وقرآنية ، إلاّ لأنهم استشعروا قواهم الذاتية وحاجة شعوبهم إليها فانتصبوا يطلبون حقوقهم بقواهم واستقلاليتهم .. وكانوا مستعدين لدفع الثمن أيًّا كان .. لأنهم عرفوا أنّ الحرية إطلاقاً .. تبدأ من حرية الرأي .. وحرية الفكر .. وحرية القرار .. وأنه لا حرية لمن يتلقى الرأي والفكر والقرار من لدن غيره .. حتى وإن كان اعتقاداً .. إذ كيف ينال الحرية من لا يملك فكراً مستقلاً ، بل يعتمد على فكر غيره ؟

وكيف ينال الحرية من يعتمد على قرار غيره؟ وكيف ينال الحرية من يقيّد نفسه بجهد غيره؟ وكيف ينال المجد .. من لا يرى في فكره وذاته أهلاً لإيصاله الى هذا المجد؟

وهذه هي أزمتنا المعاصرة .. بحيث أصبح مفكروناً .. أو من يعتقدون ويعتقد الناس أنهم مفكرون ، يرون الصواب كلَّ الصواب عند الأغراب ... والحقّ كل الحقّ في تصرّف الأغراب ... والنجاح كلّ النجاح في اتّباع منهج الأغراب .. والمستقبل في السير على طريق الأغراب وترك علمنا وحضارتنا وطريقنا ونهجنا ، بل والطعن فيه .

سهيل إبراهيم عيساوي أراد أن يوجِّه رسالة الى هؤلاء ليقول لهم .. عودوا الى التاريخ .. تجدوا أبطالاً .. في كلّ المجالات .. فكراً وسياسةً وثقافة وحضارةً .. برزوا لأنهم اعتمدوا ذاتيتهم .

نعم .. لم يترددوا بالأخذ بالأسباب من الاطّلاع على ما للغير ، أو ما عند الأغراب ، ولكن ليستفيدوا منه لا ليعتمدوه أو ليستبدلوا به ما لديهم .. أبداً .. بل انطلقوا من ميدان الفكر العربي الإسلامي ليبنوا حضارة الأمة ، بدءًا من عليّ بن أبي طالب والصحابة الكرام .. وانتهاءً بحسن البنا وسيّد قطب ومن سار على نهج الرسول مثلهم الى يوم الدين .. مروراً بخالد بن الوليد ... وعمر بن عبد العزيز .. وقطز وبيبرس .

وفي مجال الفكر والفقه كأصحاب المذاهب الأربعة رضوان الله عليهم .

وفي مجال الأدب كالمتنبي وابن المقفع وغيرهما ممن أناروا بفكرهم صروح المجد .. ومهّدوا سبل الحضارة .. لم ينظر هؤلاء بانبهار الى ما عند الأغراب من فكر ولا من عدد ولا من عدة.

ولكنهم نظروا الى أنفسهم فوجدوها لا تفتقر الى شيء من مقوّمات الرفعة والرّقيّ .

ونظروا الى ما عندهم من فكر ومن ركائز فكرية حضارية فوجدوها أعظم ما وجد من ركائز فكرية .. فانطلقوا من خلالها ليعانقوا المجد فكراً وحضارة وحرية .. واستقلالية .

نعم ، بالفكر الإسلامي المستقلّ المستنير بنوا ما بنوا من حضارات وأمجاد .. يعجز اليوم التبعيون الأدعياء .. أقزام الغرب .. أن ينالوا معشار معشاره .. ويبقى التاريخ هو الحكم .. وهو الميزان ..

ويخلص سهيل عيساوي الكاتب الى أننا لا ننظر الى التاريخ لنأخذ الصواب منه فقط ... أو لننزّه أهله ... فالخطأ نصيب من يعمل ، ومن يعمل يخطىء ، وقد كان في التاريخ أخطاء لا ننكرها ، ولكن نتعلّم منها ونتجاوزها ولا تحبطنا وتقعدنا وتنسينا ما كان الى جانبها من عظام الأعمال والأفكار .

فالدارس المتعمّق للتاريخ وبشكل موضوعي ، لا يقف عند الحسن لينسى السيء ، ولا يقف عند الأخطاء لينسى الصواب ، بل يتعلّم من هذا ومن ذلك ، أقصد من الصواب لدعمه ، ومن الخطأ ليتجاوزه ، وهكذا يبنى التاريخ .

وقد جاء عيساوي بهذا ، وأنصف التاريخ وأهله ، كما فعل من قبله الدكتور أحمد الشلبي ، عندما كتب سلسلة " تاريخ بحاجة الى إنصاف ".

وأخيراً .. جزى الله الأخ عيساوي خيراً على جهده ، وبارك الله فيه ، ونفع به الأمّة .

 صوت الحق والحرية -  22 / 10 / 1999

 


رجوع