_ كانت ليلة
ليلاء، على جلالته، تعرض فيها لأقصى الأهوال
التي يمكن أن يتعرض لها سلطان.
قال حوات، يقف على صخرة
منبسطة، مخاطبا بقية الحواتين المنبثين على حافة الوادي، في صف طويل فقاطعه أحدهم
.
_ كان جلالته
محظوظا.
_ لا أحد
يعلم ، حتى تظهر أولا نتائج الليلة الليلاء.
قاطع حوات آخر، زميله بلا مبالاة، فأضاف الحوات
الأول:
_ بعضهم
يقول اللصوص، وبعضهم يقول الأعداء.
_ وما الفرق
بين اللصوص، والأعداء؟.
تساءل أحدهم، فأضاف آخر:
_ نعم . لا
فرق بين اللصوص والأعداء . العبرة فيما يريده هؤلاء اللصوص أو الأعداء.
_ أهاه.
رجعتم لكلامي. هنا يكمن الفرق.
قال الحوت الأول . فتساءل آخر:
_ نعم.
اللصوص شيء والأعداء شيء آخر. لكن ما علاقة جلالته بهؤلاء.
فانبرى الحوات الأول ويداه ترشان نخالة، فاسدة،
فوق الماء المتطاول على صخرته المنبسطة.
_ اللصوص
يريدون المجوهرات والثمائن. أما الأعداء فيربدون
السلطان نفسه. يريدون القضاء على جلالته. لإبداله
بآخر أو لتغيير النظام بصفة كاملة. ولربما،
لإلحاق
الرعايا والسلطنة، بسلطان أجنبي .
_ اسحب . اسحب
. اسحب .
انبرى حوات، يخاطب
"علي الحوات" الذي ظل يتابع الحديث، عن السلطان وليلته، ولصوصه،
وأعوانه، باهتمام كبير .
أدار رأسه
حول الشاهد فألفاه يهتز متراقصا، يتردد بين الغوص في
الماء نهائيا، وبين الاستمرار على وضعيته
فوق الماء ولو بصفة مؤقتة:
_ عبث سمك
صغير.
قال علي الحوات،
وعيناه منصرفتان نحو الحوات الأول، الذي
استأنف:
ومهما يكن فالأعداء، يمكن أن يكونوا لصوصا، كما
أن اللصوص يمكن أن يكونوا أعداء. وكما أن
هدف الأعداء قد يكون هو هدف اللصوص. كذلك الأمر بالنسبة لهؤلاء.. العداوة نسبية في
الحقيقة, بينما اللصوصية شيء مطلق.
_ قلت لك
أسحب صنارتك عامرة .
أسرع علي الحوات يرفع القصبة إلى فوق غير واثق
من أمرها وعندما قابلته سمكة صغيرة تتخبط في آخر الخيط همس :
_ كان هذا
رأى من الأول. عبث سمك صغير، لا يهم. خير من لاشيء… أن تمسك ولو سمكة
صغيرة خير من أن لا تمسك.
وواصل في سره.
لولا حكاية الليلة الليلاء، وجلالة السلطان
واللصوص والأعداء هذه، لهتفوا : علي الحوات دائما هو الأول علي الحوات دائما يصطاد
أكثر
.
التفت فجأة إلى الحوات الأول يواصل حكايته :
_ بعد اليوم
السابع من رحلته في الغابات، يواصل قنص الوعول.
لست أدرى ما موقف جلالته من اصطياد السمك. لم
نسمع به قط في الوادي قاطعه أحدهم , فانبرى
آخر يردد .
_ موقف الملوك والسلاطين والأمراء،
وكل العظماء، واضح من الصيد، إنهم بطبعهم ميالون إلى الجري
وراء الأشياء, ولا يواجهون الأمور مثلنا، ثم يروحون يحاولون
التغلب عليها.
_ هذا
التفسير سياسي.
قال آخر:
_ نعم سياسي،
القنص فروسية ورياضة، بينما الاصطياد صنعة
ومهارة يدوية, وهذا من اختصاص الرعية. هذا كل ما
في الأمر، فلِمَ الجري
والمواجهة وغير ذلك من العبارات السياسية.
هتف صياد يقف إلى جانب علي الحوات فراح هذا
يحتج:
_ لو تركت
"بوجمعة" يعطينا تفاصيل ليلة جلالته في الغابات.
فهتف الحوات الأول:
_ أرأيت يا علي
الحوات كيف يقاطعونني .. مع أن الأمر يتعلق بليلة ليلاء، عانى فيها جلالته الأهوال
العظام، فإنهم لا يبدون أي
اهتمام.
_ انك تتهمنا
يا بوجمعة .
_ أريد أن
أقول، إن المسألة على جانب من الأهمية، فجلالته تعرض
لمحاولة قتل.
_ بل يقال إنه
قتل .
قاطعه أحدهم، فبادر آخر:
_ لا يمكن أن
يموت جلالته على يد أعداء، أو لصوص، إنه تحت
رعاية الله وفي حفظه.
_ لو تركتموني
أروي الحكاية كما وقعت، تعلمون أن خال جارى رضيع بستاني
القصر.
لقد بلغتني الحكاية منه، من الجار أعنى.
_ نعم. نعم
واصل يا بومعة
هتف علي الحوات، والتزم باقي جيرانه الصمت،
بينما واصل بوجمعة:
_ في اليوم
الثامن من رحلة جلالته، تصدى له مجهولون, قيل إنهم
كمنوا وقيل إنهم هاجموه في المخيم مع طلوع الشمس.
مات عدد كبير من حراسه. وبعض أفراد حاشيته.
الحاجب ورئيس الحرس وكبير المستشارين. اقترب المهاجمون من خيمة جلالته يهتفون
بسقوطه وبموته. ولم يبق بينهم وبينه إلا عدة
أمتار. في تلك الأثناء، برز ثلاثة فرسان ملثمون، يهتفون بحياة جلالته، وبسقوط
أعدائه، ويُعملون السيف، في رقاب المهاجمين الذين لم
يلبثوا أن ولّوا هاربين. وفي الحين تولى الفرسان الثلاثة،
مناصب الحجابة، ورئاسة الحراسة.
والاستشارة، وعاد الموكب إلى القصر.
_ لقد نجا حينئذ
جلالته.
_ ومن يكون
هؤلاء الفرسان الملثمون.
لكن، أنا، بلغني عكس هذا. يقال إن الفرسان
الثلاثة إنما برزوا من بين المهاجمين، وإنهم دخلوا إلى
خيمة جلالته وخرجوا يعلنون عن تسلم هذه المناصب,
ولا أحد يعلم ما كان مصير جلالته.
_ أُنذر
لجلالته، أحسن سمكة أأصطادها خلال هذا الأسبوع،
احتفاء بنجاته.
هتف علي الحوات، يسكت الجميع,
ووضع الطعم في صنارته، وقذف بها في أعماق الوادي
مطمئنا مرتاحا.
_
2 _
انتشر الخبر بسرعة في القرية، ونسي
الناس أمر الليلة الثامنة، والأهوال
التي تعرض لها صاحب الجلالة، ومصيره الغامض، وراحوا يتحدثون عن علي الحوات.
لقد فاجأهم في الحقيقة.
لا يذكرون آخر نذر باسم صاحب الجلالة. لم يتجرأ
أحد في العهود الأخيرة عن إتيان ذلك. إن
أحسن خدمة تقدم للقصر هي الابتعاد عنه.. هكذا راج بين الرعية. فلم يعودوا يتقربون
لا من القصر ولا من صاحب الجلالة، امتثالا وطاعة. حتى أن
الابتعاد تعدى حدوده العادية، وصار بالكلام والحديث أيضا.
فكما يمكن أن يساء إلى القصر بتصرف ما، ولو عن
حسن النية، فإنه يمكن أن يساء إليه بكلمة ما، أو بعبارة ما.
وإن تجرأ
الحواتون، وبعض العجائز، والشيوخ، والعاطلون
عن الشغل، على التقرب إلى جلالته بذكر أخبار ليلته الثامنة في غابة الوعول، والأهوال
التي تعرض لها، فإنه لا أحد كان يتصور
أن تبلغ بعلي الحوات الجرأة هذا الحد.
علي الحوات الشاب الطيب، الذي شذ عن أخوته
الثلاثة، وعن كثير من أقاربه. فابتعد عن
طريق الضلالة. لم يسرق يوما. لم يكذب
مرة . لم يتعد على أحد. لم يثلب في عرض،
أو يتعرض بسوء لغيره.
كان مثال الشباب المستقيم.
ولع بالصيد مند صباه فلم يكن يفارق الوادي،
يحمل قصبته وعدته على كتفه، ويتسرب مع الشعاب قبل طلوع الشمس، ولا يعود إلا بعد
غروبها. وأحيانا كثيرة، يبيت هناك .
يصطاد كامل اليوم ولا ينقطع إلا ليشوي سمكة
جميلة يتغدى أو يتعشى بها، طعامه من الماء- كما يقال- يترقبه
كل سكان القرية, ليوزع عليهم باسما
صيده، هذا سمكة. وذلك اثنتان
وذاك ثلاث.
"لقد أكلنا
جميعا من سمك علي الحوات" .
هدا ما كان يقوله كل من يتحدث عنه. حتى أن
الناس نسوا كبائر إخوته، اللصوص المجرمين،
ولم يعودوا يذكرون ما كان حديثهم طيلة أشهر،
منذ أربع سنوات خلت.
في أربعة أيام متتالية، كشف اليتامى الأربعة
عن مواهب وإمكانيات وخلائق كل
منهم.
علي الحوات، عاد بكيسين كبيرين من السمك,
فتحهما في ساحة القرية، ووقف بينهما مزهوا. وكل ما
مر به أحد، أو اقترب منه, سأله عن
عدد أفراد أسرته وأعطاه مقداراً
من السمك.
حاول أحد أن يدفع له نقودا، فغضب وانتزع منه
السمكات.
الزيت من الزيتونة والحوت من البحر، ولا حاجة لنقودكم.
جابر أخوه الكبير، عاد مع طلوع الشمس، بكيس على
ظهره يقطر دما. فتح الكيس في الساحة وهتف:
_ كل من
يحاول الاقتراب منى أفج رأسه بهذه الفأس .
تجمهر
الناس حوله. وراحوا يتأملون الكيس
مشدوهين : طفل في التاسعة. ملطخ بالدماء.
مفجوج الرأس.
_ أنا جابر
اليتيم, سرقت هذا الطفل، وفحشت فيه، ثم قتلته بهذه
الفأس، من يحاول أن يتقدم منى أفج رأسه، من طلبت منه نقودا أو حليا أو مجوهرات،
ولم يستحب لطلبي, في تسع
دقائق, فعلت بابنه أو بابنته مثلما فعلت بهذا الطفل . أتفهمون . هيا تفرقوا.
قبل أن
ينصرف الناس هاربين بأبنائهم . كان
جابر، قد وثب خرج الحلقة مهددا بفأسه، ثم
قصد الغابة، ليتخذها مأوى ومقرا ينطلق منه، لارتكاب الشرور والآثام.
سعد، أخوه
الثاني وقف عصر اليوم الثالث في الساحة، وفتح الكيس الذي كان على ظهره، وهتف:
_ يا سكان
القرية. أيها الكلاب التعساء، تعالوا أفهمكم
الحقيقة.
تجمهر الناس حوله، في حلقة كبيرة، وراحوا ينتظرون
ما سيفعل.
فتح
الكيس، وحمله من أسفله, ليفرغ ما فيه.
سقطت عجوز يابسة زرقاء. جاحظة
العينين, مفتوحة الفم.
_ أنا سعد
اليتيم. هذه أم المرحومة أمي. أرسلتها إلى الحمام
لتسرق لي مجوهرات المستحمات، فلم تفعل. قالت إنها
تخاف.
فكان مصيرها مثلما ترون.
هل تفهمونني: من اليوم فصاعدا,
يجب اعتبارى سيد القرية، ومن كان له اعتراض أو وجهة نظر
أخرى، فليتفضل، هنا، الآن.
لقد خنقتها
بإصبعين وفي وسعى أن أخنق سبعة منكم بيد واحدة,
من له اعتراض؟
أطلق سعد صرخة مدوية، وانطلق نحو الغابة.
مسعود أخوه الثالث. حمل ظهر اليوم الرابع
ساطورا وخنجرا واقتحم متجر الشيخ بن داود.
_ يا الشيخ
بن داود يا شبيه الذل. اعطني كل ما تملك من
نقود, وكل ما في
متجرك من ذهب وفضة ومجوهرات. أنا مسعود
اليتيم، أخو جابر وسعد ولص اللصوص.
امتثل الشيخ بن داود، وأسرع يقدم كل ما عنده
ويضعه في جراب قدمه له مسعود.
_ لاشك أنك
أخفيت الأثمن يا شيبة الكلب.
_ أقسم بالله
والأولياء وبكل ما تريد.
_ قل ورأس
جابر وسعد ومسعود وحتى علي الحوات.
_ يا بني هذا
كل ما أملك. هذه ثروتي كلها.
_ تعال. اخرج
هنا يا شيبة الكلب.
خرج الشيخ بن داود متسائلا
عما يريده به مسعود الذي أمسكه من صدره وقاده نحو
الباب هاتفا:
_ أيها
التجار الفجار, يا سكان القرية ويا جميع الكلاب والخنازير.
تعالوا.
تجهر الناس حوله مبهرتين، وراحوا يترقبون ما
سيفعل بالشيخ بن داود الذي ظل يرتجف .
تأملهم مسعود واحد واحد، قبل أن يأمر الشيخ
بالجلوس على العتبة .
امتثل الشيخ مذعنا بينما ظل
بصره عالقا بالساطور.
حدق فيه سعود مليا، ثم رفع يده إلى فوق.
_ أقسم برأس
مسعود اليتيم أنك لم تخلف شيئا دون أن تسلمه لي.
_ أسم برأسك.
قل برأس مسعود اليتيم أخ جابر وسعد وحتى علي
الحوات.
_ أقسم برأس
مسعود اليتيم أخ جابر وسعد وعلي الحوات, أنني ما
خلفت أغلى مما سلمته لك.
_ يا كلب .
يا كلاب.
هم أن يهوى على رأسه بالساطور..
ضغط أسنانه. أغلق عينيه، ورفع يده إلى الأعلى،
أكثر.
_ لا لن
أقتلك اليوم، ينبغي أن تبكى المجوهرات والنقود كما يجب.
حمل مسروقاته وعدته وأم الغابة. دون أن يعترض
طريقة أحد.
هذه عادة القرية. ورثوها ابنا عن أب عن جد.
هناك الخير وهناك الشر، ومن كان فيه طبع وأخفاه،
فهو جبان ونذل، وإذا ما كشف الخيرون والشريرون عن أنفسهم , كشف العصر عن سمته, فهو إما عصر خير
أو عصر شر، وإما عصرهما معا.
ومادامت الغابات تبتلع، والقرى الأخرى تجذب،
فليفعل الشرير كبير ته الأولى في القرية
ويذهب بسلام، وليبق من الخيرين من طاب له البقاء.
المهم ألا يؤدى اعتراض منا إلى تدخل السلطان.
شرنا خير من شر الغير. وعدم إزعاج
رجال السلطان عبادة لجلالته وطاعة له.
لقد ظل جلالته ورجاله في منأى عن القرية وعن
مشاكلها. وظلت القرية، في عبادة صامتة لجلالته، وكما لو أن هناك اتفاقا ضمنيا،
يعمل الجميع على احترامه.
بيد أن ابن القرية البار الطيب علي الحوات، جاء
في هذا العصر ليخرق العادة، ويتخذ بادرة، لا أحد يدرى ما إذا
كان القصر سيرضى عنها أم لا. وبما ستعود على القرية الآمنة.
-3-
نذر علي الحوات تحقق، نذر علي الحوات تحقق، لقد
اصطاد سمكة تزن سبعين رطلا، لم ير أحد مثلها في الوادي منذ جرى الماء فيه.
لم يغادر علي الحوات مكانه في الوادي ، هذه
ثلاثة أيام و أربع ليالي. كلما قذف بالصنارة في الماء هتف : "أجمل سمكة اصطادها وتكون في مقام مولاي صاحب الجلالة،
أنذرها له احتفاء بنجاته".
في اليوم الأول اصطاد سمكة تزن عشرين رطلا،
فاستصغرها. لم يعرف وادينا سمكا من هذا النوع.
في اليوم الثاني اصطاد سمكة
تزن أربعين رطلا، فقال إنها
ليست في مقام الهدايا التي توجه إلى جلالته.
في اليوم الثالث رآها.
انحدرت مع الشلال تفج الوادي متهادية، وعندما بلغته وثبت عدة وثبات جميلة وغاصت. كانت مزيجا من
الألوان،. حمراء وصفراء وفضية.
_ هذه سمكة جلالته.
تمتم علي الحوات وقذف بالصنارة غير مبال
بصغرها، أو بضعف الخيط الذي يشدها.
اختفت السمكة وزاغ بصر علي الحوات خلفها. كان واثقا
من أنها له، وأنها سمكة سلطانية,
أرسلها الغيب هبة له عن طيبة قلبه، وعن طبعه الخير.
فجأة وثبت السمكة في أسفل
الوادي عند المنحنى، وثبتها الجميلة، ثم راحت تصعد في تثاقل. التفت علي الحوات إلى من حوله، وهتف :
_ دعوني معها. أرجوكم. دعوني معها. هنالك شيء تدبره الأقدار ينبغي أن
نساعد جميعا على تحقيقه.
انصرف جميع من كان حوله بسرعة، وبقي
علي الحوات وحده يحدق في الماء الأزرق. متطلعا
إليها.
سمكته الجميلة.
وإن هي إلا لحظات قلائل
، حتى ارتفع صوت علي الحوات مدويا في الوادي :
_ فليكن.
كانت منبسطة عند قدميه ،
في طول يزيد عن المتر. وعرض يزيد عن ربع المتر. متدثرة بردائه. بينما كان هو يرتجف
، وكأنما يعتريه الخوف,
أو الصرع.
يقال إنها، عندما وصلت
أمامه، تحدثت إليه.
يقال إنها أعطته بعض
أوامر، قبل أن تغوص في الماء باحثة عن الصنارة.
يقال إنها لم تلفظ شيئا،
إنما ظلت تذهب وتجيء، وكلما كانت أمامه، وثبت إلى فوق، وحدقت فيه مليا.
السمك يعرف أصحابه، والسمك
يعرف الطعم الذي ينبغي أن يأكله.
لا. يقال إنها سمكة مسحورة ،
حملتها جنيات من نهر الأبكار، ورمتها في
وادينا، بعد أن أعطتها التوصيات اللازمة لمساعدة علي الحوات.
نعم إن وادينا، لم يعرف سمكا
يزيد على ثمانية أرطال وهذه تزن سبعين رطلا، ثم إن ألوانها التي لا يمكن
حصرها، أو تمييزها، ليست ألوانا عادية .
لو لم تكن من نهر
الأبكار، ولو لم تكن مسحورة أتت
بها جنيات خيّرات لمساعدة علي الحوات. كيف يمكن اصطيادها بمثل الصنارة التي كان علي الحوات يصطاد بها.
يقال أيضا. إن علي الحوات، أغمي عليه، حالما رأى الشاهد
يهتز، ولم يستعد وعيه إلا بعد أن كانت سمكة نهر الأبكار بين قدميه تتنفس كالإنسان.
وتبحلق كالعجل، ولا تحاول كبقية الأسماك العودة إلى الماء.
يقال، إن حوارا دار بينها وبين علي
الحوات، قال لها
:
_ أعلم أنك لست من هذا الوادي، وأن المقادير هي التي أرسلتك فافعلي أيتها السمكة الجميلة ما أٌمرت به .
_
يا علي الحوات. هل تعلم ما تخبئه لك الأقدار ؟
سألته فأجابها :
_
كل ما أعلمه. هو أن جلالته تعرض لاعتداء، وأنه نجا، وأنا بصفتي أحد رعاياه الخيرين، يتوجب علي أن أعبر عن امتناني وسروري
بنجاته .
_
يا علي الحوات لقد دأبت قريتك على تفادي كل مسألة تتعلق بالقصر. فلِمَ تخالف, وتوجب على نفسك، ربما،
ما لا تطيقه .
_
أيتها السمكة الجميلة، لتكن مشيئة الأقدار، فإنني لا أستطيع أبدا أن أتراجع عن قراري .
لقد نذرت أجمل سمكة لمولاي السلطان, وسألبي. سأنتظر أسبوعا.
وسأجدد بعد انقضائه نذرا آخر لمدة أسبوع، وسأنتظر. سأظل أنتظر، حتى أصطاد أجمل سمكة، أصطادك أنت أو واحدة تشبهك.
_
ولم كل هذا العناء يا علي الحوات ؟
_
(( هذا طبيعي وهذا أنا)) إنني خير من الصغر، وسأظل خيرا ما استطعت. لقد اختارتني الأقدار من بين إخوتي لأمثل الخير، وأعتقد أن هذه الأقدار نفسها هي التي اختارتني لتمثيل القرية التي
قطعت صلتها بالقصر، في الاحتفال بسلامة جلالته، دام حفظه ودامت رعايته وسلامته.
_
سآتي معك يا علي الحوات إلى القصر، وسأظل حية، حتى أصل سالمة فلا تتهم بأنك
تحاول تسميم جلالته.. كل ما أشترطه. بل شرط المقادير علينا معنا، يا علي الحوات، هو أن تعيدني إلى هذا الوادي في
حالة ما إذا لم أصل مطبخ صاحب الجلالة. لا تزال أمامي مهام في وادي الأبكار، فعلي أن أعود، أن أنفذ
مهمتي، في واديكم هذا.
_
وهل تعتقدين يا سمكتي العزيزة، أنه يمكن أن تعترض مهمتك
معي بعض العوائق.
_
لا تسال كثيرا يا علي الحوات، لك قلبك، وهو أدرى بكل شيء. إن حدثك خيرا فخير، وإن حدثك سوءا فسوء. لقد
اخترت أن تصعد إلى القصر، فافعل ما اخترت،
أنا جئت من وادي الأبكار. محمولة بين ذراعي جنيات فاضلات. كل ما أمرت به، هو أن أصعد إلى الحافة وأتمدد
عند قدميك، وها أنني فاعلة.
ظل الناس يتحدثون عن علي
الحوات وسمكته، كل بما سمعه، أو بما أبدعه خياله، مضيفا ما استطاع إلىالرواية التي بلغته، في
حين لزم علي الحوات الصمت التام .
كأنما هو منهمك في
التفكير بمشاكل العالم أجمع. وعندما دخل القرية لم يرد على سؤال أحد واتجه مباشرة إلى كوخه
حيث قضى بقية ليلته .
-4-
في الصباح الباكر، وقف في
الساحة، والسمكة المتدثرة بردائه عند قدميه، وراح ينادي:
_
أيها السكان، يا سكان قريتي العزيزة تعالوا، تعالوا أحدثكم، أنا ابنكم
البار، علي الحوات اليتيم. تعالوا جميعا صغارا، وكبار، نساء ورجالا.
التف السكان حوله، فكان أعظم تجمع شهدته ساحة
القرية.
ساحة الفظائع والكبائر، وساحة الخير والإحسان والفضائل،
ساحة لاعترف العملي بالطبائع، وكشف سمة العصر.
_
ماذا تريد اعلي الحوات منا ؟
_
علي الحوات يفعل الخير وكفي .
_
علي الحوات مدفوع بطبعه الحسن لكل التصرفات الحسنة …
_
رغم أن الشريرين أكثر من الخيرين في هذا العصر، فإن علي الحوات وسم العصر
بالخير.
_
لقد هزمهم.
_
لم يأكل أحد شيئا مجانا، إلا من يد علي الحوات.
_
وها
هو فضله يصل حتى القصر.
هدية علي الحوات أصدق الهدايا، فهو لا يعبر
بها سوى عن رغبته في فعل الخير، وعن نفسه الخيرة, وعن المحبة التي تملأ
قلبه الكبير.
_
لعله سيستشيرنا في أمر هذا النذر.
_
موقف القرية من القصر واضح.
_
نعم واضح .
_
اللهم حوالينا ولا علينا. إن خيرا وإن شرا.
_
الولاء للقصر، يتمثل في الابتعاد عنه، وتجنبه سواء بالخير
أو بالشر.
_
التجنب بالشر واجب، أما التجنب بالخير، فعبادة ومحبة.
انتظر علي الحوات، حتى هدأت
همسات وتعليقات المتجمهرين، ثم اعتدل في وقفته وتنحنح قبل أن يستجمع أنفاسه وينطلق:
_
تعرض جلالته للأهوال ونجا منها، فلم يكن أمامي بد من النذر. وادينا أعطاني هبة. وهبني أجمل سمكة. ها هي, أنظروها بأعينكم.
مد يده وأزال الرداء عنها
بلطف.
_
ما أجملها.
_
إنها لا تزال حية.
_
تتنفس.
_
تنظر.
_
فيها الأحمر.
_
والأصفر.
_
والأخضر.
_
والذهبي.
_
ما أجملها.
_
وادينا لم يعرف سمكا من هذا النوع.
_
بفضل علي الحوات، رأينا وذقنا جميع أصناف السمك.
_
عاش علي الحوات.
وقبل أن يرتفع الحماس،
بادر علي الحوات:
_
أريد أن أسألكم ، هل لديكم ما تتقدمون به إلى القصر بهذه
المناسبة الكبيرة، أعملكم أنني لا احمل شكوى، أو مظلمة وما شابه ذلك، وأنني بالمناسبة أقترح أن تشكل القربة وفدا
تحمِّله هذه السمكة وما تتقدم به من هدايا إلى جلالته.
انتظر علي الحوات أن بجيبه أحد، بينما راح الناس يتبادلون نظرات باهتة.
القرية بلا رئيس، وبلا مسئول، وبلا ناطق رسمي. خيرها بيِّن وشريرها بيِّن، ولا حاجة بها لحاكم أو شيخ. من يرد على اقتراح هذا الشباب
الخير، الذي يندفع نحو الخير بلا قيود أو حدود إلى درجة البله ؟ .
_
أيها الناس، إن في مسألتي شيئا من الغرابة. نعم أنا أعرف ذلك، وأنتم أيضا
تعرفونه. بأي منطق يمكن أن أتحدث أليكم، إنني عاجز.
إذا كان الأعداء هم الذين
يهاجمون جلالته. وإذا كان اللصوص هم الذين يتعرضون لثروات وخيرات جلالته. فمن يبقى
لجلالته، من يبقى سوى الرعايا الخيرين الطيبين.
_
هنا خطؤك يا علي الحوات.
نطق أخيرا شيخ كبير، لا
يعلم أحد كم عمره. فالتفت علي الحوات إليه، والتفتت السمكة بدورها:
_
السمكة لا تزال حية .
_
إنها تفهم ما يقال .
_
هذه السمكة مسحورة بالفعل.
_
علي الحوات نفسه مسحور .
_
أنا لست مخطئا. تعلمون أنني لا أتصرف إلا بما يتوجب على.
_
قل الخطأ الذي وقعت فيه يا علي الحوات.
_
وما هو؟
_
المسألة فيها شيء من السياسة. وإذا كان لكل عصر في هذه القرية سمة، فإن هناك عصرا، لم ينته
بعد، سمته اللاسياسة. عليك أن تفهم القرية يا علي الحوات. مهما كان أمر شريريها، ومهما كان أمر
لصوصها، وخيريها وفضلائها، فإن هناك شيئا أكبر من الأفراد ومن طبائعهم، ومن العصر ومن سمته، ومن المجتمع
وتكوينه…
يا علي الحوات. وأنت تعرف
الوديان وما يتعلق بها. مم يتكون الوادي؟ أنا أجيبك. يتكون من ثلاثة أشياء.. الوادي
في حد ذاته, ثم الماء. ثم أتدرى ماهو الشيء الثالث؟ أنا أجيبك. إنه سير الماء في حد ذاته. أنت تعرف هذا جيدا يا علي الحوات بصفتك ابن
الوديان. نحن أيضا نعرف قريتنا. نعرف أنها تتكون من ثلاثة أشياء: هناك تجمعنا، ثم هناك
طبعنا بما فيه من الخير والشر والاعترافات في الساحة، وهناك الشيء الأساسي. الشيء الذي لا تحاول أن تفهمه
فتفهم القرية بالتالي. هناك تاريخ هذه القرية. وبمعنى آخر ماضيها وحاضرها
ومستقبلها.
إن القصر نفسه –
أنا هنا لا أذم ولا أقدح ولا أذكر بالخير أو بالشر القصر وأصحابه. القصر نفسه يا
علي الحوات يضع القرية في موضعها التاريخي فكيف تسمح لنفسك اليوم، ادعاء تمثل
التاريخ.
_
أنا لا أدعي هذا .
_
بل إنك تدعيه، بمحاولتك تجاهل التاريخ الحقيقي. بدعوتك لها، للبدء من الصفر.
_
" هذا طبعي وهذا أنا".
_
وهذه القرية، وهذا موقفها. إنها شيء عام. عام جدا، لا يمكن
حصره أو تخصيصه, مهما كان الخير ومهما كان الشر.
_
أيها الناس إننا لا نعترض لشريرينا إن نقلوا شرهم إلى القرى الأخرى
ويمارسوه فيها، فكيف نعترض لخيرينا، ولأعظم خير عرفناه، أن ينقل خيره
خارج قريتنا.
انبرى شاب لم يعلن عن
طبعه في الساحة بعد، يرد على الشيخ الذي احتدم الجدل بينه وبين علي الحوات فبادره
الشيخ:
_
لا أعترض على علي الحوات، لا اعترض على أحد. المهم أن
يعلن المرء عن نفسه بشجاعة كاملة، ثم ينطلق في التصرف حسب طبيعته، أما
الاعتراض فعلى القرية. على التاريخ . نعم نعم هذا ما أريد قوله.
_
اسمع يا
علي الحوات. أخرج وخاطب أصحاب القرى الأخرى. ستجد أتباعا
كثيرين. ستحمل من الهدايا مالا طاقة لك به. لا تحرج قريتنا الصريحة.
_
نعم فهمت. وذاك ما أنا فاعل . إلى اللقاء يا أهل قريتي
العزيزة . أحبكم ، أحب قريتي، أحب إخوتى أحب جلالته أحب جميع الناس.
-5-
انتشرت أخبار علي الحوات في
كامل القرى السبع الواقعة في طريق القصر. وما أن دخل القرية الثانية حتى استقبلته جماهير غفيرة ، تتطلع إلى السمكة
المتدثرة في الرداء.
وقف علي الحوات، وسط
الساحة، وأنزل السمكة يرفق. جال ببصره في الأعين الباهتة ، ثم أزاح الراداء عنها.
_
تريدون رؤيتها، هي ذي أمامكم.
_
لم نر أجمل منها قط.
_
كيف اصطدتها يا علي الحوات؟
_
هل كانت صنارتك كبيرة؟
_
لا أستطيع أن أقول لكم سوى إنها نذر لجلالته. وإنني في طريقي بها إلى القصر.
آه يا علي الحوات ، لو تحمل لي رسالة إلى صاحب الجلالة.
اسمعوا، أنا مستعد لحمل
الهدايا. ورسائل الابتهاج بالنجاة، فالرجاء ألا يحرجني احد بغير ذلك .
_
ولكن يا علي الحوات.
_
اعذروني. لكل مقام مقال، وجلالته لابد انه لم ينصرف بعد إلى شيءون الرعية. أرجو أن
ينصرف أصحاب الشكاوى والتظلمات، وأن لا يبقى سوى أصحاب الهدايا، والنذر، ورسائل
الولاء والابتهاج.
راح الحاضرون ينصرفون
جماعات، وظل علي الحوات يتبعهم بنظره مندهشا… أكل هؤلاء شاكون متظلمون ؟ أكل هؤلاء
رعايا غير موالين لجلالته؟ هذا
عصر سمته الشر , وإلا ما معنى ألا يعلن الرعايا ابتهاجهم بنجاة مولاهم السلطان ,
وعن ولائهم له, وسخطهم على أعدائه.
التفتت عجوز ، قبل أن تنصرف وخاطبته:
_
لم يدخل واحد من الرعية القصر قبلك يا علي الحوات.
_
ولم ذلك ؟
تساءل علي الحوات متعجبا،
فلم تجبه العجوز . حركت رأسها يمينا وشمالا، ثم انصرفت مستسلمة لرغبة طفل يقودها،
وجذب انتباه علي الحوات عنها شيخ، تصدى من اليمين، وكأنما يواصل كلام العجوز:
_
الفرص التي تتيح للعامة الدخول إلى القصر نادرة يا علي
الحوات. إن لم تكن منعدمة.
_
ها
هي الفرصة مواتية.
قال علي الحوات متحمسا، فبادره
شاب، في حين كان الشيخ ينصرف
_
الفرصة ثمينة. وسمكتك أثمن، وليست كل الرعية علي الحوات, يكفينا علي الحوات واحد
، وتكفينا سمكة واحدة من وادي الأبكار، فكن سفيرنا لدى جلالته يا علي الحوات.
_
وهذا ما أنا فاعل ، إنما أعلن بكل طيبة قلب، عن ابتهاج
الرعية بنجاة جلالته من كيد العداء.
انتظر علي الحوات تعليقا
أو تساؤلا، أو تعقيبا أو اقتراحا، لكن خاب ظنه . لقد انقطعت المحادثة التي كانت
متسلسلة فجة، وراح الناس يواصلون انصرافهم بعجل، وكأنما هم هاربون.
انحنى يدثر سمكته، وهو
يشعر بالأسى والحسرة " هؤلاء
الناس أسرى لمشاكلهم الخاصة. لا يستطيعون أبدا
الارتفاع إلى مستوى أحداث سلطنتهم ، مقابل نذر لجلالته ، يريدون
أن يحلوا جميع مشاكلهم، أن يزعجوا جلالته بمشاكلهم الخاصة".
عندما رفع رأسه، وهم بحمل السمكة على كتفه، قابله، كهل وقور يفتر ثغره عن بسمة متواضعة، إشعارا له،
بأنه إنما وقف من أجله.
_
أنا يا علي الحوات صاحب هدية لجلالته. لقد انصرف أصحاب
المشاكل ولم أبق إلا أنا. يكفي أن يكون في كل قرية، واحد يحب جلالته ويحب رعيته.
_
وما
هي هديتك؟
_
تخطيط لتحويل السلطنة إلى جنة.
_
أهاه كيف ذلك ؟.
_
لقد شرحت لجلالته كل شيء في هاته الرسالة التي أرجو أن تحملها معك.
_
أحملها بكل سرور . ما هو مخططك أيها السيد الطيب.
_
واديكم الخير المعطاء، مياهه تذهب سدى، تغور في الرمل
وتلتحق بالمحيط، وتظل الأراضي المحيطة به قاحلة جرداء. لقد توصلت إلى طريقة عجيبة ، لإقامة سد عظيم على الوادي
بتكاليف جد قليلة، وفي ظرف جد قصير. ستمتد القنوات كالشرايين في كال السلطنة، وستخضر الأشجار، وتتطاول
النباتات، وتكثر الغلال والفواكه والثمار, وتنمو الأسماك وتعظم، لن
يبقى في السلطنة فقير أو جائع حتى الشرور تنقص، ويقوى الخير والخيرون. لقد فكرت
جيدا في حل مشاكل جميع هؤلاء الناس، بالقضاء على أصلها.
المشروع موضح في هذه الرسالة،
فتفضل خذها يا علي الحوات وقل لجلالته: هذا ما في وسع عبد فقير
مخلص أن يقدمه له نذرا بمناسبة نجاته.
_
سيسر مولانا كثيرا ولاشك.
_
آمل ذلك يا
علي الحوات . حمل علي الحوات سمكته على كتفه، وانطلق وسط هتافات الصبية، يغادر القرية، مواصلا طريقه .
_6_
_
علي الحوات وصل ، علي الحوات جاء.
_
ما أعظم ما يحمل على كتفه.
_
سمكته لا تزال حية .
استُقبل في مدخل القرية
الثالثة بهتافات الأطفال، وعندما اقتحم أول نهج ارتفعت الزغاريد تستبشر بمقدمه.
كان الناس يقفون على طول
الشارع، في صفين، صف للرجال، وصف للنساء.
لم يندهش علي الحوات لهذا
الاستقبال ورده إلى غرابة سمكته، وحب الناس للإطلاع على كل ما هو غريب ، ثم إن مرور واحد من الرعية بقريتهم قاصدا القصر ، يبدو أنه بدوره أمر غريب، ولا شك أنهم
يحملون الرسائل المضمنة بالشكاوى
والتظلمات والطلبات، ولعل هذه القرية تخالف غيرها من القرى، ربما عدد الخيرين فيها
وافر فيصطحب لجلالته، عدة هدايا ثمينة.
ظل علي الحوات يستعرض الدوافع التي يمكن أن تدفع الناس إلى الخروج
لاستقباله، وبعد تردد قرر ألا يتوقف في طريقه, ولا يكشف عن سمكته ، أو
يسأل الناس عما إذا كان لديهم هدايا يرسلونها إلى جلالته.
وما أن قطع عدة خطوات حتى
ارتفعت أصوات:
_
قريتنا ترحب بك يا علي الحوات، وتود أن تلقى نظرة على سمكة وادي الأبكار.
لاَنَ قلبه, وأسف للقرار الذي اتخذه .. القلب الخير ، يجب أن لا
يعرف القسوة, وألا يركن إلى اتخاذ القرارات حسب طبائع الناس، وأخلاقهم ، إنما حسب ما جبل
عليه من محبة وعطف.
_
اعذروني ، فإنه من حقكم أن تروا السمكة ، إنها نذر ، وهبة. لقد ساقتها المقادير، لأمرٍ ما تدبره .
_
أصحيح أنها من وادي الأبكار يا علي الحوات؟
_
أهي فعلا مسحورة .
_
هل تحدثت حقا إليك.
_
من الغريب أن تظل سمكة حية أكثر من بضع ساعات .
_
انظروا دون أن تسألوا . ها هي السمكة. إنها من أجمل ما اصطدت .
هتف علي الحوات في
المتسائلين وكشف عنها، لترتفع صيحات الانبهار.
_
سيجازيه جلالته أحسن جزاء .
_
يعينه وزيرا .
_
مستشارا .
_
رئيسا لخدمة القصر .
_
مكلفا بشيءون الوديان والأنهار والبحار والمحيطات.
_
لن يقبل علي الحوات.
_
علي الحوات يرفض أن ينال جزاءاً عن واجب قام به. يقولون في
قريته إنه يوزع مجانا كل السمك الذي يصطاده.
_
لو أن قريتنا فيها خير مثله.
_
المهم أن ينفتح القصر لواحد من الخيرين.
أنهى عجوز تعاليق الناس ،
وتوجه إلى علي الحوات ينتظر ما سيفعله أو يقوله. ابتسم له علي الحوات،
وأشار إلى السمكة بإصبعه، وكأنما يود أن يقول ، إنها مفتاح القصر، وإنها مرسلة له لهذا الغرض
بالذات. سيسر لها جلالته السرور الذي يُنسي أهوال الليلة
الثامنة في غابة الوعول، عندما يعرف جلالته أن الرعية تحبه
وتعطف عليه وتتألم لآلامه، وتستبشر لنجاته من السوء، ينسى الأعداء ومكائدهم وينصرف إلى شيءون
الرعية، فيقضي على جميع المشاكل والمظالم ، سيسر أكثر عندما يطلع على رسالة السد، والقنوات
، وتحويل الأرض الموات إلى جنة غناء.
أيها الناس لن أطرح عليكم السؤال الذي طرحته في القرية السابقة، لقد سألتهم ما إذا كانت لديهم رسائل
ولاء، وهدايا ود، فرفعوا أيديهم برقاع التظلمات والشكاوى.
باب الخير بيِّن، وطريق القصر واضح .
_
ولكن يا علي الحوات.
_
ماذا؟
_
ألا تخشى عن نفسك.
_
ومم أخشى عن نفسي.
_
أن تتهم بالشعوذة والسحر فتحرق، أو أن يطلب منك سمكة من هذا النوع
كل يوم فتعجز وتقتل. أو أن تحسد على ما قد تنال من نعمة فتغتال، هل فكرت جيدا يا علي الحوات ؟
_
إن من يندفع للقيام بالواجب، بوازع الضمير ينبغي أن لا يفكر
كثيرا في ما يترتب على فعله.
_
يقال يا علي الحوات، إن قريتك غير مطمئنة.
_
لا . قريتي رغم أنها قرية الصراحة والطباع المكشوفة، فإنها قربة التحفظ.
_
التحفظ أيضا صراحة يا علي الحوات ليتنا كنا مثلكم.
_
أيها الناس لا
تضيعوا وقت الرجل ، دعوه ينساق في طريق المقادير ، كما قال لكم.
_
سمكته حية, وستظل على ما يبدو حية، فلِمَ العجلة، إنه قبل كل شيء واحد من الرعية.
_
نعم شيء واحد من الرعية.دعونا نشبع حديثا معه, قبل أن يصير واحد من القصر .
واصل الناس ثرثرتهم،
واستغرق علي الحوات في التفكير.. " هؤلاء الناس متشابهون هنا وهناك. في كل القرى لهم موقف واحد. إنهم يشعرون بالانفصال التام عن القصر، ناس قريتي ، يقولون إن التحفظ نوع من الولاء والطاعة،
ومن واجبات الرعية نحو القصر ، يقين أن هذا إغراق في الكذب والإدعاء والنفاق . أما هؤلاء
وأصحاب القرية السابقة، فإنهم يتحفظون في إعلان ولائهم للقصر, ولا يتورعون عن إبداء السخرية، أو حتى
الازدراء والكراهية. هدفهم جميعا، هو إبلاغ رغباتهم ومشاكلهم ، ومصائبهم لجلالته.
سأحدث جلالته…
استغفر الله، أنا لا أطمح
إلى الحديث مع جلالته. أوصل السمكة إلى القصر وأعبر للحاجب أو
لرئيس الحرس، أو لكبير المستشارين، أو حتى للطباخ، عن ولائي وإخلاصي، ثم أعود.
من يدرى ؟ نعم من يدرى, قد يطلبني جلالته . ليسألني
عما أريد مكافأة. طبعا لن أطلب شيئا. لن أطلب سوى رضا جلالته.
قد يسألني عن أحوال الرعية، قد يسألني
. ولكن أيجوز أن يسأل جلالته واحدا من الرعية عن أحوال الرعية.
لا. هذا محال. جلالته
أعلم حتى من الرعية بحال الرعية إنه سلطاننا ، وملكنا ورئيس قصرنا ، إنه صاحب أمرنا. ولا يعقل أن تخفى عنه خافية من أحوالنا.
ولكن لمَِ يظهر الناس، رسائلهم
هذه، لو لم يكونوا يبغون إطلاع القصر على محتواها؟
نعم . وإذا ما سألني جلالته،
فسأحدثه عن كل شيء.
_
فيم تفكر يا علي الحوات؟
_
آهاه .
انتبه علي الحوات من
سهومه، وقبل أن يجيل بصره في المتجمهرين حوله ارتفعت الأصوات تعلن عن حضور فرسان
القصر.
ارتفع صهيل الخيل، ووقع
حوافرها، وشنشنة ألجمتها، وإن هي إلا لحظات ، حتى كان فرسان
ملثمون مدججون بالسلاح يحاصرون الجميع.
_
هذا اللثام جديد عندهم .
همس شاب يقف قرب علي
الحوات إلى زميله، فرد عنه هذا:
_
كان الفرسان الثلاثة الذين تولوا المناصب الحساسة ملثمين.
_
انتبهوا جيدا. لا نقصد أحدا بسوء. فقط نريد
الشيخ الذي ذكر القصر بسوء. إما أن تبرزوه لنا، كاشفين عنه، أو نفتك بأربعين منكم وننصرف . هذه أوامر القصر.
_
لا أحد ذكر القصر بسوء .
_
هناك من ألقى أسئلة على علي الحوات ووجه له
نصائح، تتضمن كلها الثلب بالقصر وأهله. لن نمهلكم، إما أن تعلنوا عنه، وإما أن نفتك بأربعين نفرا
، دون تمييز . نُعمِل السيف كما صادف، حتى ينزل القصاص هنا.
_
أنا هنا. أنا هنا . لقد شتمت القصر ، وما زلت مستعدا لشتمه . إنه ظالم وجائر، وجلالته
أسير للأعداء واللصوص، يسقط القصر. يحيى العدل.
طارت رقبته، قبل أن ينهي جمله...
تفرق الفرسان. تفرق الناس. حمل علي الحوات سمكته،
وقصد القرية الرابعة في طريق القصر.
7 –
يا علي الحوات ، لا فائدة
من التوقف في هذه القرية أو من توجيه السؤال لأي أحد . إنهم كلهم في هذه القرية
مصابون بعاهة الشر. يأكلون ولا يشبعون ، يتحدثون ولا يسمعون ، يأتون المنكر ولا ينهون
عنه.
هذه قرية بني هرَّار. دعا عنها نبي لم تمكن من تبليغ رسالته, ألا يسكنها غير لقيط أثيم. هرب من قومه ، فيه الرذائل
السبع والعيوب السبعة .
قد يأكلون سمكتك نيئة
كالكلاب، قد يأكلونك أنت ، قد يفحش صبيانهم في سمكتك . قد يفحش شيوخهم فيك على مرأى من نسائهم وبناتهم, قد يوثقونك إلى شجرة ، ويشكونك بالإبر، ويطلونك بالخل أو اللبن، ويدعونك كذلك عدة ساعات، ثم يأتون بالملح أو بالماء المملح، ويشلطون
كامل جسدك.
لا تدخل هذه القرية يا علي الحوات.
إياك يا علي الحوات ودخول
قرية بنى هرَّار.
يا علي الحوات إن كنت جادا في طريقك إلى القصر ، وإن كنت مخلصا لجلالته ومواليا له حقا ، فلا تدخل قرية بنى هرار.
هذه القرية لا يدخلها إلا حرس جلالته، يقتِّلون ويأثمون ويفحشون, وفي آخر المطاف، يهتف السكان، بأن حرس جلالته،
لم يرتفع إلى مستوى كبائرهم.
8 –
يقال إن علي الحوات عمل بنصائح مرافقه ولم يدخل قرية بني هرار وسلك دربا في المنخفض،
مجانبا للقرية .
يقال إنه مر في الليل ولم
يتفطن إلى مروره أحد من السكان الشياطين.
يقال إنهم ما أن سمعوا بمقدمه، كباقي أهالي القرى الأخرى حتى
تفرقوا على كامل الوهاد والشعاب والمسالك. حاملين السهام والأقواس والنشاشيب يكمنون له . وإن علي الحوات مر مع ذلك.
يقال إنه مر في وضح الشمس
، دون أن يراه أحد . تكور مثل غمامة، واقتحم
الشوارع . ظن الناس أنه زوبعة ، ظنوا أنه ثعبان مشعر يلتف في الرمال ،
ويركب الريح السموم.
البعض لم يتفطن قط
للزوبعة بينما البعض استغرب حدوثها في غير موسمها.
يقال أنه دخل القرية راجلا، سمكته على كتفه, متدثرة بردائه عيناه الزرقاوان تلمعان،
التقطيبة بين حاجبيه المقرونين. البسمة على شفتيه الرقيقتين. العرق يتصبب مع زغب
وجهه الأصهب.
حاول أفراد فرق الشر ووحدات الفحش, أن يتعرضوا له، لكن قوة
خفية صدتهم عن الهجوم عليه. راحوا كالمبهورين يسيرون خلفه في صف طويل حتى خرج. تعرت صبية في الثانية
عشرة، ووثبت تقف في طريقه، تدعوه لمضاجعتها، فرفع إصبعه ، وحركة حركات متعددة ، وإذا بها تستعيد ثيابها, وتقفز إلى الصف لتسير في الإيقاع العام. ارتدت عجوز شمطاء ثياب عروس ، وأتت بكرسي اقتعدته في عرض الطريق،
وراحت تطلبه بيدها.
عندما اقترب منها نفخ
عنها فالتهمتها نار زرقاء ، وتذاوبت دون أن تخلف أثرا.
يقال إنه ما أن دخل قرية
بني هرار ، حتى افتتن السكان فيما بينهم بسببه ، بعضهم يقول نبدأ بالسمكة, وبعضهم يقول نبدأ بعلي
الحوات.
خرج اثنان على يساره. قال
أحدهما:
_
علي الحوات.
فقال الثاني بإصرار .
_
لا. السمكة.
_
فلتكن أنت .
رد الآخر ، فهجم عنه غريمه، كان في يد كل منهما ساطور. اصطدم الساطوران ببعضهما أولا فأحدثا قرقعة
قوية . سال الدم من يد أحدهما، تأخر إلى الخلف، استعاد أنفاسه. قدم رجلا أخر
رجلا، وهوى بالساطور. لم يصب غريمه، راحت ضربته في الفراغ.
كانت جبهته في متناول
خصمه. قهقه، وهوى عليه.
خرج اثنان آخران، أعادا
نفس الدور ، خرج اثنان آخران, قاما بنفس العمل خرج أربعة. خرج ستة. هاج القوم وماجوا, وارتطمت السواطير ببعضها وسالت الدماء... مر علي الحوات بسلام
وتواصل الاقتتال، ولا أحد يعرف عدد الضحايا.
يقال إنه عندما بلغ مدخل
القرية، أنزل السمكة وأزال عنها الرداء، راحت السمكة تقفز صارخة ، تضرب هذا وتلطم ذك. انهزم الأعداء
وولوا هاربين، ومر علي الحوات بسلام.
يقال إن السمكة عندما أنزلها علي الحوات, راحت تصوِّت كالأفعى، وتخرج من لسانها
شواظا لازورديا، لفعتهم الحرارة الخارقة فولوا هاربين, ومر علي الحوات بسمكته المسحورة .
يقال إن علي الحوات مر
على القرية يركب براقا. السمكة المسحورة تحولت إلى
براق
ذي رجل واحدة وثلاثة أجنحة، ركب علي الحوات براقه ودخل قرية بنى هرار كالفاتح، انبهر الناس، فظلوا يحملقون، حتى خرج علي الحوات.
يقال إنه عند مدخل قرية بنى هرار، اصطحبته
كوكبة من فرسان ملثمين فلم يجرؤ أحد على اعتراض طريقه.
والمهم. المهم. أن علي
الحوات مر على قرية بنى هرار، ولم يصبه, لا هو ولا سمكته أي أذى.
-9-
ما أن بان علي الحوات من
بعيد ولمح الناس لألأة ووهجة سمكته، حتى انبعثت طلقات البارود، وعلت في السماوات زغاريد الحرائر، وتصاعد غبار الخيل.
كانت الأعراس مقامة في القرية
احتفاء بمقدمة, منذ بلغت السكان أخبار مروره على قرية بني هرار دون أن يصيبه أذى.
عندما وصل، توقفت الحركة
. هدأ الجميع. حتى الخيول. تأملوه جيدا, ثم تبعوا عذراء تقف في رأس
الصف, وركعوا.
أشارت لهم بيدها البضة أن اركعوا وركعت فتبعوها.
مرت لحظات طويلة، كان علي
الحوات أثناءها مندهشا.
اعتدل الناس قياما. تأملوا علي الحوات جيدا، ونظروا إلى العذراء يستفسرون. ابتسمت الفتاة لعلي الحوات
فابتسم الناس أجمعين.
رفعت يدها البضة تأمرهم بإتباعها. سجدت فسجوا.
_
الامتثال والطاعة ياسيدنا الجليل، يا علي الحوات, يا روح الله ويا آيته.
_
أيها الناس ماذا تفعلون، ما أنا إلا علي الحوات اليتيم. واحد
من رعايا جلالته المخلصين, نذر سمكة فتحقق نذره.
_
هذه آية الله فيك. تواضعك يا حبيب الله.
_
أيها الناس ماذا تفعلون.
_
نركع لك ونسجد يا سيد الأسياد.
_
أيها الناس ما أنا علي الحوات. انهضوا.
_
الأمر والطاعة يا سيد الأسياد.
قالت العذراء . وهى تمتثل
لأمر علي الحوات. ثم التفتت إلى الناس خلفها وخاطبتهم:
_
سيدكم يأمركم.
قام الناس بسرعة واعتدلوا
في وقفتهم، ضامين أيديهم على صدورهم, وراحوا يختلسون النظر، مرة إلى العذراء، ومرة إلى علي
الحوات.
كانت العذراء جميلة
زادتها الخفارة جمالا وروعة. تأملها علي الحوات، فبدت له مع وهج شمس الضحى، حورية
ساحرة طويلة رشيقة. عنقها يصعد من صدرها عريضا طويلا. شفتاها قرمزيتان ممتلئتان.
وجهها مستدير . عيناها خضراوان، شعرها أسود فاحم، مضفو ر جداول رقيقة تتدلى على
جبهتها ووجنتيها وقفاها وعنقها.
ظل بصر علي الحوات عالقا
بها، وظل بصر الحاضرين عالقا بعلي الحوات. ساد الصمت وتمنى الجميع ألا ينقطع.
رفعت العذراء بصرها نحو علي
الحوات، فزادت انبهارا به، شعرت بالتذاوب، وتمنت لو أنها نسمة رقيقة، فتداعب زغب
وجهه الأصهب.
النور يشع من وجه. الحنان ينبعث من عينيه، البراءة
تتراقص على جبينه ووجنتيه.
لو أنني أمه. لم أنني الحضن الذي نما فيه. لو
أنني الثدي
الذي أرضعه. لو أنني اللبن الذي رواه. لو أنني السمكة التي يحملها على كتفيه، لو أنني الأرض التي تطأ قدماه.
ابتسمت ، لم يجد علي
الحوات بدّا من الابتسام.
تأخرت العذراء خطوات ،
وتقدم شيخ ملتح, حتى تميز عن الصف.
_
يا سيدنا يا علي الحوات، يا حبيب الله، تقبل منا هديتنا لك
هذه العذراء الطاهرة النفس.
_
أيها الناس . بأي منظار تنظرون إلى. ماذا تتصورونني. ألم أقل لكم إنني مجرد حوات يتيم.
الهدايا والهبات والنذر لجلالته وليس لي أنا .
_نعلم من أنت يا
علي الحوات . أنت سمة عصر قريتكم ، وقاهر قرية بنى هرار. في ليلة واحدة يا علي
الحوات ، رآل جميع أهل القرية في منامهم . حلموا بك حلما واحدا يا علي الحوات.
_
هذا أمر غريب.
_
ليس أغرب من سمكتك ومنك يا سيدنا.
_
وكيف حلمتم بي؟ ماذا رأيتم عنى؟
_
تعاهدنا ألا نعلن عن الحلم أو عن تفاصيله.. إنما باختصار عرفنا من
تكون . عرفناك يا علي الحوات.
_
ولماذا تعاهدتم ألا تبوحوا بحلمكم.
_
هذا أيضا سر يا علي الحوت. إنَّ تحفظ قريتكم لم يأت
جزافا.. السنين، تعصر الأحداث وتعصر، وكلما طالت خلصت عصارتها, وقريتكم أوعى القرى
السبع.
_
أنا لم أفهمكم.
_
ولن تفهمنا يا علي الحوات. لن تفهم غيرك. لن تفهم أحدا.
_
أنت فهمت نفسك, وهذا كل ما في الأمر، وهذا هو سر برهانك. ولقد جئت يا سيدنا
في هذا العصر ، ليفهم بك الناس عصرهم ، جئت لتكشف طبعك الخيِّر، وبقلبك الكبير، سر الأسرار
لكافة الرعية.
_
أنا متجه إلى قصر جلالته، أحمل له هذه السمكة، نذرا له على
نجاته، وأدعوكم لأن تقدموا له الهدايا وقرابين الولاء والمحبة.
_
نحن فقراء يا علي الحوات. قريتنا هذه, قرية تصوف وعبادة.. أثمن ما نملكه هو عذراؤنا
هذه. ونحن نقدمها هدية لك.
_
ولكن جلالته أولى مني , سيسره أن تكون جارية من جواري القصر.
_
سبَّقناك بها يا سيدنا، وهذا أحد أسرار حلمنا المشترك. فتفضل وتقبل هديتنا المتواضعة ، فالهدايا لا يرفضها كرام النفوس.
امتلأت نفس علي الحوات
بمشاعر الطيبة والمحبة. وشعر بتحول غريب بدأ يعتريه. فيض كبير من الثقة، ينتقل من
الجموع الملتفة به, يسكن صدره.
" أيتها الأقدار،
لتكن مشيئتك، يا علي الحوات، ما أنت ألا صنيعة نفسك، ومحيطك. وما أنت في كل حال سوى, نتاج ما قمت وما
تقوم به من أفعال. لو لم تكن حواتا، لو لم تكن خيِّرا، لو لم تنذر، لو لم يلب
نذرك، لو لم تتصل بمعظم الرعية.. لكان لك
تنذر، لو لم يلب نذرك، لو تتصل بمعظم الرعية.. لكان لك شأن آخر، أما وأنت ما أنت وما أتيت, فليس أمامك سوى تقبل
النتائج. قد تشهد في طريقك، أغرب مما تشهد ، قد
ترى في القصر العجب العجاب..
يا علي الحوات، الحياة
سفرة، لا سير ولا طيران، ولا ركوب. إنها وثبة, ووثبة واحدة لا
يمكن الرجوع من خلالها، الوثبات كبيرة وصغيرة، هامة، وتافهة, حسب طبائع الناس وما جبلوا عليه، إنما كل وثبة وثبة،
وهى في الأخير, سفرة, وهى في آخر الأخير، الحياة.
ما أجمل هدية رعية هذه
القرية إليك. إنها رمز محبتهم ، عربون حبهم للخير، لقد نصبوك في قلوبهم، وليا
من أوليا الله. بل. رسولا من رسله، بل، الاها من الآلهة، أنت
وليهم، وأنت نبيهم وملكهم وسلطانهم وإلاههم. لم يستشيروك، وعاجزون عن مصارحتك، احتفظوا بك في
قلوبهم، حلما كبيرا وسرا عظيما. الذنب ليس ذنبك ولا ذنبهم أيضا..".
أطرق علي الحوات هنيهة
وخيل إليه أنه يسمع هتافا، لا يدرى من أين يأتيه. ولما توقف الهاتف، التفت إلى من حوله، وارتسمت على
شفتيه بسمة ودود.
أشار بيده إلى العذراء.
احمرّ وجهها. غضت بصرها. رفعت قدمها تخطو الخطوة الأولى نحوه، تأخر الشيخ الملتحي. تقدم علي الحوات ممدود
اليد. والسمكة على كتفه...
-10-
لم تمر لحظات قلائل حتى
كانت القرية محاصرة. انتشر حولها كالجراد، رجال ملثمون، قدموا من جميع الجهات.
أطلقوا البارود ينزلون الرعب في القلوب،
أرسلوا النشاشيب حتى تشكلت كومة أمام المصطفين.
أرسلوا سبعة منهم، وطلبوا
السلاح من أهل القرية، بادر الناس إلى تسليم سلاحهم مذعنين، وراحوا ينتظرون ماذا
سيطلب منهم.
قرية التصوف كثيرا ما
تتعرض للغزو، آخر غزوة، لم يمر عليها شهر. هاجمها في رابعة النهار ألف فارس وفارس،
لا يعرف أحد جنسهم أو لغتهم أو دينهم. كتفوا الرجال بأسلاك نحاسية وهجموا على النساء.
افتضوا جميع الأبكار، ولم تنج سوى عذراء
واحدة، أطلق عليها من يومها اسم العذراء.
استطاعت، أن تتخفى تحت غربال فنجت. لم يرها المعتدون فظلت عذراء.
من يومها قرر المتصوفون أن
تفتض بكارة كل وليدة، من طرف الشيخ الملتحي، قبل أن تبلغ أربعة أسابيع.
الغزوة التي قبلها ، كانت
غزوة سلطانية.
مع غروب الشمس نزل رجال
الحرس كالزوبعة على القرية، أخرجوا جميع السكان إلى شعبة في الإسفل, وأمروهم برفع أيديهم، وألا يتحركوا قبل أن يؤمروا
بذلك.
مر الليل، مر اليوم الأول، فالثاني، فالثالث. اضطرت حال الأطفال المتردية، الشيخ
الملتحي إلى الإفتاء.
قال الأمر يصدر من
الحاضرين، أما وأنهم غابوا فإنه من العبث أن نطلب منهم أمرا.
يحق لكم يا سكان قرية
التصوف، أن تنزلوا أيديكم وأن تنصرفوا إلى شيءونكم.
تفقدوا ما خلفوه في منازله،
فلم يفتقدوا شيئا، بيد أن النساء عندما أردن تهو الطعام لم يجدن الملح.
لقد استولى رجال الحرس
على كل ذرة ملح موجودة في القرية.
سأل المتصوفون غيرهم من
سكان القرى المجاورة عما إذا كان جرى لهم مثل هذا الأمر، فهزأوا منهم، واتهموهم بتعاطي الأفيون.
الغزوة التي قبلها كانت من أبشع الغزوات.
نزل بقرية التصوف جيش لا يعلم أحد أصله أو فصله.
طلب من جميع السكان أن يصطفوا, ثم
أمروهم بالسير إلى الشعبة.
عندما بلغوا الشعبة طلبوا منهم أمرا غريبا. أفهموهم بحركات الأيدى والأصابع، وبالإشارات، أنه يتوجب على كل
واحد في القرية أن يدفع ضريبة حياته.
ابتهج
سكان قرية التصوف عندا فهموا أن المسألة تتعلق بدفع الضريبة, فقد استعدوا لذلك قبل
اليوم ووفروا لكل شهر ضريبته بل لكل أسبوع، بل
لكل يوم.
بيد أن الغزاة سخروا
منهم، عندما رأوا البهجة تعلوا وجوههم.. أيها المتصوفون الغفل, لمَِ أسرعتم فاستهنتم بالأمر.
الضريبة المفروضة على كل واحد من قريتكم، هي قنفذ .
نعم قنفذ .
انطلق المتصوفون يبحثون في
الغابات والأحراش عن القنافذ, ينامون النهار ويحيون الليل, ومن عثر منهم على قنفذ، يعد به فرحا، أو يعطه لمستحق العودة من النساء
والأطفال والعمي وغير ذلك.
البعض لا يزال إلى اليوم
يبحث عن القنافذ. وأغرب الغرائب جميعا أن الغزاة اختفوا, لما انطلق الناس إلى البحث عن القنافذ.. إلا أنه لا أحد يعلم، متى
يعودون فيطلبون ضريبة الحياة.
عندما تجمعت بنادق أهل قرية التصوف، قدم فارس
ملثم يبدو أنه رئيس الفرسان.
جال بفرسه أولا في الصف
الأول الطويل الممتد حتى آخر الزقاق الذي يشق القرية، ثم عاد ووقف إلى جانب علي
الحوات وخطيبته.
بدرت منه نظرة شريرة إلى العذراء،
لكن سرعان ما تراجع عنها, وهو يتلقى نظرات علي الحوات الشزرة.
نحنح الفارس الملثم، طلب
من المتصوفين، أن يقدموا ناطقا باسمهم.
تقدم الشيخ الملتحي، وقال:
أيها الفارس النبيل، ما أنت أول ولا آخر غاز
لقرية التصوف، لقد جئنا في موقع يعرضنا
لذلك، وكان في إمكاننا أن ننتقل من هنا، سواء إلى الجبل أو إلى الوادي، أو إحدى القرى المجاورة، فننجو
مما نتعرض له.. لكن ماذا سيبقى لنا، لنمارس به عادتنا، ولنعلن فيه عن تصوفنا.
رضينا بموقعنا، لأننا اخترناه أولا، ولأننا اخترناه لهدف ثانيا, ولأننا لا نزال، وسنظل نتشبث
بهذا الهدف ثالثا.
نحن متصوفون ولن نكون غير
ذلك.
أيها الفارس الملثم، أيها
الشهم النبيل. لقد جئت تطلب منا السر أو أعيننا.
لن نعطيك السر. ثق من أنه
لا أحد في قرية التصوف مستعد للبوح بالحلم.
لقد انتظرنا منذ زمن بعيد
أن يؤخذ منا بصرنا، وها
هو اليوم جاء.
عندما يعود أصحاب
القنافذ، سيضطرون إلى البحث عنها بأنفسهم, سنستريح أكثر ونحن ننظر في العمق. كفانا حياة في السطح.
إلا
أن أبناءنا سيولدون مبصرين. هذه قوة تصوفية نستفز بها كل من لا يعترف بقوة التصوف,
وقرية التصوف.
تفضل خذ أعيننا.
أمر الفارس الملثم، أتباعه، بالشروع في اقتلاع العيون.
تقدم الشيخ المتلحي، وأعقبه من والاه، وتواصلت
العملية.
رفضوا اقتلاع عيني
العذراء، ولم يتبادلوا عبارة مع علي الحوات، الذي قال في سره:
_
ستتولى العذراء قيادتهم. عندما أعود أساعدها على ذلك.
-11-
استوقف غريب علي الحوات في
طريق القرية السادسة، وطلب منه أن يعمل بنصيحته، التي هي في نفس الوقت، نصيحة
أصدقاء كثيرين ينتشرون في كامل لسلطنة.
أوجب علي الحوات على نفسه
الانتباه الكامل للرجل، والتمعن الجيد في كل كلمة يقولها. ألا أنه مع ذلك لم يفهم الشيء الكثير.
الرجل يحاول أن يقف في المجرى
ويصده عن تنفيذ مشيئة الأقدار. هذا ما خرج به علي الحوات بصفة عامة، من حديث فيه
كثير من التفاصيل الغامضة.
الغريب، مرة يتحدث باسم
صاحب الجلالة، مرة باسم أعدائه، ومرة يقول أنه من الأنصار العاملين في السرية،
بقيادة جلالته.
يشير الغريب إلى مسائل
داخلية تجرى في القصر ويذكر أنه ليس من صالح الرعية أن يمحوا أنفسهم فيها، وبما أن
صاحب الجلالة عاجز عن التخلص من الأسر، فانه يمكن أن تتوحد الرعية بقيادة علي
الحوات.
يساعده أنصار الظلام، إذا
ما رغب بدوره في مساعدتهم. الرغبة مشتتون، مبعثرون في قرى لا تربط بينها صلة، كل
قرية على دين كل قرية على عادات وتقاليد. كل قرية تعمل ما وسعها لتعلن عن كل قرية
على عادات وتقاليد. كل قرية تعمل ما وسعها لتعلن عن عدم تدخلها في شيءون العامة.
هذه قرية التحفظ.. هذه قرية بنى هرار، هذه قرية التصوف. هذه قرية اللاسياسة، إلى غير ذلك.
ما ينقص السلطة، هو
الوحدة، هو فكرة الوطن.
لو اتفق الأرباب في السماوات
بينهم وتنازلوا لواحد منهم، لتوحدت الرعية ، ولو تمكن جلالته، من أن يكون سلطانا
حقيقي، لتوحدت الرعية ولفرضت أرادتها.
أشار الغريب بصورة، ذكية
جدا إلى أنه أحد يعلم شيئا عن جلالته، بعد الليلة الثامنة في غاية الوعول، ولا أحد
أيضا يعل شيئا عن الفرسان الثلاثة الذي اقتحموا مقصورته، وخرجوا يتقلدون المناصب
الرئيسية الثلاثة في القصر.
لا أحد رأى جلالته في غابة
الوعول، لا قبل هجوم الأعداء ولا بعده. ربما لم يخرج من القصر أساسا، وأن الموكب
كان صوريا وهميا لا غير.
لعله سمم. لعله ذبح، لعله
طعن. لعله سجن.لعله خرج في الموكب متخفيا.
الأنصار الذين يعملون في
الظلام لم تبلغهم أية إشارة من القصر منذ سبعة أسابيع.
ظهور علي الحوات يساعد
جدا الحركة على تحقيق أهدافها.
ظل الغريب يتحدث ويتحدث،
وظل علي الحوات يتشرب الحديث وحاول أن ينسقه في ذهنه.
نعم، أمور القصر جد
غريبة، وغرابتها تكتسبها من خصوصيتها، ومن الطابع الشخصي الذي تصطبغ به.
الملكة خنثى، أصيبت بالتحول بعد سنة
من زواج جلالته بها، جعلتها كثرة الجواري التي تطوف بها تتعرض لعملية التحول.
هكذا، جلالته لا يعرف مع
من هو، أحيانا يجدها مع جارية وأحيانا مع وصيف، وهو لا يعرف، هل يغار عليها أو
منها.
لقد صارت الملكة تطلب الجواري
أكثر من جلالته، حتى امتلأ القصر، كما أنها صارت تعترض على خصي الغلمان.
تخلط الأمور في القصر
وتختلط أحيانا كثيرة، حتى لا يبقى يتميز فيه شيء، الرجل من المرأة، والعبد من السيد، والسلطان من الملكة والعدو
من الصديق.
إنهم روجوا عن جلالته
أمورا كثيرة، ولكن حسبما بلغ حركة أنصار الظلام، فانه براء منها، وأن السياسة تلعب
لعبها في كثير مما يروج.
أهل القرية السابعة، حين
يتحدثون عن القصر يقولون عنه، قرية القصر. يعتبرونه قرية قائمة بذاتها
مثل باقي القرى السبع قريتكم وقرية بنى هرار، وقرية التصوف، وغير ذلك.
القرية السابعة أقرب
القرى إلى القصر، وهى أدرى ن غيرها بكثير من شيءونه، وهى على خلاف كبير مع القرية
السادسة، الموالية لجلالته، باعتبار أن الجارية المحظية لدى السلطان
والسلطانة، منها.
صبر علي الحوات كثيرا، ثم
انفجر يسأل الغريب.
وماذا تريد منى بالذات؟
لا شيء في الحقيقة. لقد كلفت بأن أطلعك على خفايا الأمور.
ومن كلفك بالذات؟
حاولت أن أفهمك. الأنصار
الذين يعيشون في السرية. السلطان والسلطانة. الأعداء، القرية السابعة، القرية
السادسة، وحدة الوطن والرعية. ظهورك بهذه الصفة.
-12-
حللت أهلا ونزلت سهلا يا علي
الحوات.
ألف مرحبا، وألف سهلا.
نحن مثلك رعايا مخلصون طاعون.
هذه القرية قريتك.
اعتبرها كذلك يا علي الحوات، فحب جلالته يملأ قلوب أهليها.
قريتنا يا علي الحوات
اخلص القرى لصاحب الجلالة، واجل القرى إليه وإلى السلطانة حرمه المصون.
من قريتنا المتواضعة هذه،
اختار جلالته محظيته التي اختارتها مولاتها وصيفة لها أيضا.
أية محبة وأي تبجيل أكثر
من هذا.
تعاقب سبعة خطباء على
المنصة فألقى كل منهم خطبته التي هي عبارة عن جملة قصيرة احتراما لعلي الحوات،
وللسمكة التي يحملها وحبا للقصر وأسياده.
جلس جميع الرجال رافعين
أيديهم إلى السماء، كأنما يتهددهم سلاح فتاك في حين راحت النساء، يمزقن ثيابهن،
كاشفات عن صدورهن وعن بطونهن وعن كل ما استتر منهن ويسدلن شعورهن.
تمددن الواحدة جنب الأخرى
عاريات، وطلب شيخ من علي الحوات، أن يصعد إلى منصة الخطابة، ليقول كلمة ردا عن
ترحيب أهل القرية به.
تأمل علي الحوات الوضع
جيدا، وشعر بالتقزز والقرف، ما كنت اعلم أن هذه القرية، قرية، جنون، ماذا يفعل
هؤلاء الناس؟ لعلهم يمارسون الطاعة العمياء لجلالته على طريقتهم الخاصة مثل باقي
القرى، ومثل أنصار الظلام، وقرية التصوف وباقي الرعية، يقين أن جلالته لا يرضى
أبدا، بأن يطاع بغير كرامة أو شرف. لكن هل يجوز أن يكون للرعية، كرامة أو شرف.
الرعية النابتون في الأوحال والمزابل؟ قريتي تبحث عن سمة العصور. وتتمسك بخيط سمة
السمات لكل العصور، وقرية التصوف تبحث عن التحدي. وأنصار الظلام يبحثون
عن مثلهم في شخص جلالته وحتى سلطان لائق بهم. أما هؤلاء نعم يبحثون ؟ عم يبحثون؟
هم علي الحوات أن يسأل إلا
أنه عدل عن ذلك، وتقدم إلى المنصة، عند قوس الاستسلام الذي أقيم له مثلما يقام
لجميع من يأتي من القصر.
حين اعتلى المنصة، وجد
نفسه في وضع يمكنه من الملاحظة أكثر، كان الرجال يمضغون شيئا أسود ويرتخون شيئا
فشيئا.
أما النساء فكن يتبادلن
النهش ويمتصصن دماء بعضهن بتلذذ غريب.
فكر علي الحوات، أن يدعو
الجميع إلى النهوض، وأن يأمر النساء بالعودة إلى منازلهن، لارتداء ثياب أخرى، بيد
أنه أحجم.. تذكر أن قريته، مهما كانت تعشق الصراحة والشجاعة، وتبغض الجبن والنفاق،
فإنها مع ذلك لم تسلم في شيء أساسي، أقامت عليه أمنها. التحفظ، نعم التحفظ
المعارضة بعدم إعلان التأييد، والتأييد بعدم إعلان المعارض. اللهم حوالينا ولا
علينا، أن خيرا وأن شرا.
ولكن أليس من الخير، ومن
طيبة النفس، ومن الطبع الحسن، توجيه النصح لهؤلاء الناس المجانين. وكيف يمكن للمرء
أن يوجه نصحا أو إرشادا لقوم لا يفهمهم ولا يفهم ما يفعلون.
يا أهل القرية السادسة،
يا أهل الطاعة والولاء، لقد هزني خبر نجاة مولانا من كيد الأعداء، فنذرت له أجمل
سمكة، وهاهي السمكة الجميلة العظيمة التي وهبني إياها وأدينا المعطاء .
أنها هدية متواضعة، ولكن لا
يجوز للرعية ألا تقديم هدايا في مستواهم،
الحوات يهدى أعظم وأجمل سمكة. والصانع يهدى أجمل حلى، والغواص يهدى أجمل لؤلؤة.
عطس الرجال دفعة واحدة
عطسة، بدا لعلي الحوات أنها مفتعلة. شعر في الأول بشيء من الاستياء، ثم نسى الأمر،
لقد أتت النساء حركة عجيبة. استدرن جميعا في حركة واحدة نحو الأرض ورحن يلعقن
الشوك والأعشاب اليابسة، ويتحككن بأثدهن وفروجهن على الأرض.
يا أهل القرية السادسة،
طلبت من أهل القرى السابقة، بداء من قريتي، تقديم شيء لجلالته، فلم يتقدموا
سوى بالشكاوى والتظلمات. فرفضتها طبعا رفضتها. هل يجوز أن نبكى في الأعراس وهل يجوز أن
نفرح في المآتم.
هل لي أن نسأل قرية
الطاعة والولاء، عن الهدية التي ستقدمها لجلالته.
يا علي الحوات. يا خير
خير في السلطنة. ويا أنزه عبد فيها نلتمس منك أن تدعو قريتنا هذه باسمها، أنها
قرية الحظة، لا اعتراض لنا عن تسميتك، بل، أنها من أعز ما سنحتفظ به إنما جرت
العادة أن تنعت قريتنا بالحظة، وقد دفعنا مقابل ذلك ثمنا غاليا، ولا نقول باهظا.
سألتنا يا علي الحوات،
ماذا سنقدم هدية لجلالته إننا نجيبك.
نجيبك بكل صراحة، كل ما في
قريتنا من عباد ومتاع، مهدى منذ أجيال لجلالته.
اعلم يا علي الحوات، إننا
ما أن تقربنا من القصر بجارتنا الحظية، حتى تقربنا بكل حلائلنا وبناتنا جواري مباحات
للسلطان ولحاشيته ولفرسانه ولحرسه. ولنقيم الدليل على إخلاصنا في ذلك، اقسمنا، عل
أن الأنثى في قريتنا لن توطأ من رجال منا، ولنثبت صحة ذلك. حكمنا على كل رجل فينا بالحصى،
نعم بالحصى.
أوجد لنا حكيمنا عقارا ما
أن يشربه ذكر حتى يصير خصيا، دون أن يعتريه أي ألم، وما أن تشربه أنثى حتى تهتاج
أنوثتها، وتصبح للذكر، فلا تبرد إلا بالوطء أو بامتصاص الدم، ونهش اللحم النيئ.
كان كيمنا قويا، فكان
عقاره أقوى وأقوى.. ولقد اهدينا لجلالته، كما ترى أعز ما نملك. أعز ما يفتخر به
الرجال، وتحتاج إليه النساء.
إلا أنه للأسف الشديد،
صار فرسا جلالته حين يعبرون من هنا في طريقهم إلى القرى الأخرى يسلكون الدروب
المحاذية ولا يدخلون القرية.
يقولون انه لم تبق
لجلالته حاجة في هذه القرية وانه لم يبق لهم بالتالى أي عمل يقومون به هنا.
هذا ما يقولون. لكن يا علي الحوات، هل قدورا الأمر حق قدره؟
لقد شرب الرجال والنسا من
عقار الحكيم القوى.
الرجال لم يعودوا رجالا.
والنساء في اهتياج أنثوي للرجولة فما العمل؟
ما العمل؟ قال حكيمنا،
ليس أكثر عبادة وطاعة وولاء لجلالته مما نفعله. أقوى التعبير، عن الولاء والطاعة،
أن نفتقد الرجولة. وأن تهتاج الأنوثة، فتأكل النساء لحم بعضهن نيئا ويشربن دماءهن.
يا علي الحوات، من ولائك وإخلاصك
لمولاك، أن تبصق على الرجال الذين يجلسون قبالتك وأن تضاجع، ما استطعت من النساء.
يا علي الحوات، من ولائك وإخلاصك
لمولاك، أن تبصق على الرجال الذين يجلسون قبالتك وا تضاجع، ما استطعت من
النساء.
يا أهل قرية الحظة، إنني متزوج، أو بالأصح على
أهبة الزواج.
وما يضير يا علي الحوات.
إنني باسم ولائي لجلالته، وإخلاصي ومحبتي له، أطلب منكم بل أملاكم أن تعفوني من هذه المهمة.
أمرك مطاع يا علي الحوات.
لكن نلتمس منك أن تبصق على حكيمنا الذي يجلس قبالتك. مهما ماتت الرجولة فيه،وكان
خصبا فان البصقة تعمق إحساسه بالولاء لصاحب الجلالة.
إخلاصا وولاء وطاعة لجلالته، ابصق على حكيمكم.
تقدم علي الحوات من الحكيم،
فجمع كل ريقه، واستجمع أنفاسه، وقذفه ببصقة ضخمة وراح ينتظر رد فعله.
احمر وجه الحكيم أولا، ثم
أزرورق، ثم أصفر ثم استعاد لونه الطبيعي. ابتسم وأحنى رأسه لعلي الحوات، شكرا
وامتنانا.
تشجع علي الحوات، ورأى أن
من واجبه، أن يكرم وجوه القوم الجالسين في المقدمة، فراح يبصق عنهم واحدا واحدا،
ويتلقى آيات الرضا والثناء.
يا علي الحوات، لا يزال في
قرية المخصيين، واسمح لي بهذا التعبير، من هو مستعد لتقديم أجمل وأنفس هدية
لجلالته.
أنا شاب صغير، كما ترى.
قال لي رأسي، أ، موقف أهل قريتي سلبي يتميز بالذل والمهانة، فرحت أبحث عما يعوضه.
بدا لي أولا، أن استعادة قومي
لرجولتهم من أثمن ما يهدى لصاحب الجلالة. عكفت على اختراع الدواء تسعة وسبعين شهرا
وبعد أن توصلت أليه رفضوه.
اتهموني بالمعارضة.
كتبوا الرقاع وحرروا العرائض، وتذللوا علهم يجدون من
يوصلها، لما لم يجدهم ذلك، قالوا أن من الطاعة، ومن الرجولة أن يقاطعوني.
حكموا على بالموت، كما
ترى، فمقاطعة أهل قرية ما لواحد منهم، معناه القضاء عليه. هذا معلوم.
بيد أن نساءهم، أتحن لي
مواصلة الحياة. العقار الذي اخترعته لا يعيد الرجولة فقط وإنما يهيجها ويقويها.
يجعل الرجل في مقام مائة
رجل، هكذا كنت أتحول في اليوم إلى مائة رجل، وفي الأسبوع إلى سبع مائة رجل، وفي الشهر
إلى ثلاثة آلاف رجل.
نساؤهم طال شبقهن، فلا يكفيهن مليون رجل، وأنا وحدي
منذ سبع وتسعين شهرا أقوم مقام، ملايين الرجال.
أعطيهن الرجولة، فيعطينني
الحياة، كل ما تراه من صبايا ومن صبيان، كل الجيل الجديد، الذي يقف أممك منى، منى
أنا.
بعض الشبان شربوا عقار
حكيم الذل، وبعضهم لم يشربه
إلا أنه يخجل من شرب عقاري. نعم يخجل. لقد صار امتلاك
الرجولة، أو استعادتها أو تقويتها في قرية المخصيين مما يبعث على الخجل والحياء.
حتى في الأجيال الصاعدة.
من حسن حظ قريتنا أن عقار
الحكيم الديوث، يهيج أنوثة النساء. فكما لا يخفي عنك، يا علي الحوات، أن الأنوثة
حين تهيج الهيجان الأكبر، تتحول إلى ذكورة. تعوض عن الذكورة إلى حد ما، وان لم
تفعل ذلك، فإنها تدعوها إلى التقيظ وهذا في حد ذاته هام، هام جدا.
صار اللصوص يتجنبون دخول
قريتنا، خوف أن تأكلهم لنساء.
صار الحرس يهابون دخول
قرية المخصيين، خوف أن تجردهم النساء من رجولتهم. صار السلطان- وهذا أهم ما في الأمر-
يعاف كل ما يأتي أو يصدر عن قريتنا، بما ف ذلك الضرائب والرجال والنساء.
قبلي، قبلي يا علي الحوات،
برز نبي، نعم برز نبي من هذه القرية، تكن من دخول القصر ومن مقابلة جلالته.
عرض عليه رسالته فلم يجد
بدا من تصديقها.
قال له إني أو من بك وبرسالتك، وبما
جئت به، ولكن بما أنك من قرية الحظة، فإنني آمر يقتلك.
نعك رأى جلالته استحالة
أن يبرز نبي من أهل قرية الحظة والخصي، فقتل نبيا، رغم أنه يؤمن برسالته.
من المخجل حقا، يا علي
الحوات، الحديث في هذه الشيءون ولكن ما العمل، وأنت تسأل عما يمكن أ، يهدى إلى جلالته،
وتجاب بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
بذلت كل ما في وسعى يا
علي الحوات للاتصال بالقصر فلم أفلح الهدايا التي يمكن اقتحام القصر بها، يجب أن
تكون هدايا ملموسة منجزة، أما هديتي فنظرية.
ما معنى أن أحدث جلالته
عن العقاقير التي تعيد الرجولة غير ذلك؟
أرجوك رجاء عبد، ليس
مخلصا فحسب، وإنما واعيا أشد الوعي، أن تحمل اختراعي- كتابة وشفاهية إلى جلالته.
لقد توصلت إلى أبدع
اختراع يمكن أن يتوصل إليه. إلى إيجاد أثمن عقار، يطمح كل من بلغ السلطة إلى امتلاكه.
اسألني عن هذا الاختراع يا
علي الحوات أجبك. سأشرح لك.
أنه فوق إعادة الرجولة، فوق كبح جماح الأنوثة
فوق الاستيلاء على الحكم فوق أن يصير السلطان سلطانا، والحاكم حاكما.
تتشوق يا علي الحوات، إلى
معرفة ما هو اختراع ابن قرية الحظة، أو قرية المخصيين؟
انه يتلاءم مع عادات
وتقاليد القرية، ولا يتعارض، وما جبل عليه أهلها.
نعم.
بإمكان صاحب الجلالة أن يتناول فتيله واحدة في
اليوم، ليكشف عن كل من هو عدو أ, صديق فتيلة واحدة، تحيى في جلالته الحاسة الحادية
عشرة، وهى حاسة معرفة مكنونات النفوس ونواياها.
وإنني أعتذر لجلالته، عن عدم تمكني من التوصل إلى الفتائل الأسبوعية بدل اليومية.
يكفي جلالته ذلك- في الوقت
الراهن- مع قليل من الصبر. يستطيع جلالته أن يضع يده على كل عدو له، سواء أكان في القصر،
أو في السلطنة بوسعه على الأقل- في المرحلة الحالية أن يضع يده على كبار الأعداء،
وأ، يتفادى الشر الأكبر.
لا أبدا لا يا علي الحوات،
لن تغفر أو نسمح لك بالاستماع إلى هذا المختبل.
الكمال يأتي من فوق ولا يأتي
من الأسفل، وهذا السافل يريد أن يرفع إلى فوق ما يضمن سلامته من التردي نحو الأسفل.
قال حكيم قرية الحظة، ردا
عن الشاب الذي ظل يتشبث بعلي الحوات فأضاف شيخ آخر يجلس إلى جانبه.
أتصدق يا علي الحوات، أن
يترك جلالته، برهانا تقدمه قرية مثل قريتنا، ليصدق هوسا تبعثه فتيلة صنعها مجنون.
ماذا يبقى بعد ذلك يا علي
الحوات؟
يبقى أن السلطان يستغنى
عن الرعية، وأن الرعية تستغني عن إقامة الدلائل والبراهين على ولائها. تصير الحياة
آلية، كل واحد فيها يعرف مقامه وموقعه.
مثلما يجرى في قريتنا.
قال علي الحوات في سره،
ثم أشار بإصبعه إلى الشاب صاحب الاختراع المتحمس وهمس.
هات، هات مخططك، قد يفيد
جلالته أن اليوم، أو غدا..
-14-
يقال إنه، ما أن قطع
الشاب الخطوة الأولى نحو علي الحوات، حتى هجم عليه الشيوخ، وأكلوه، نهشوه
بأسنانهم، أولا، ثم مزقوا لحمله بالمدى، وراحوا يسرطونه سرطا.
يقال إن النساء، اعترضن
طريق الشيوخ، وحمين الشاب منهم، إلا أنهن، لم يتمكن من عدم خنقه بأثدهن. لينطلقن في
مناحة دامت عدة أشهر.
يقال إن الشاب ما أن كاد
يتقدم نحو علي الحوات، حتى سكن نشاب في صدره. أزرورق كامل بدنه، سالت قطرة دم أسود
من أنفه. أسلم آخر أنفاسه.
يقال، أن السمكة، رمت
بالرداء الذي تتدثر به جانبا، وهجمت على الشاب فقطعت يده التي تحمل المخطط
وأكلتها.
يقال إنها فتحت فاها
الكبير. فانجذب الشاب نحوها، كأنما هو ممتص من طرف قوة جاذبية كبرى، وارتمى في أحشائها.
يقال، أن حكيم الحكماء. قفز من موضعه، وشك الشاب بإبرة.
فراح يتحلل ويتذاوب حتى
صار دودة ترابية بنية.
يقال إن فتاة مأكولة
الصدر والثديين والبطن. هجمت على الشاب. واحتضنته. راحت تواصل ضمه إليها متلذذة
وتقحمه في أحشائها حتى غاب.
يقال إن ألف ألف فارس،
على وجوههم لثم طوقوا الجميع وسألوهم:
من تدح في جلالته؟
لا أحد.
من أهان جلالته؟
لا ندري كيف تم ذلك ! هذه قرية الحظة، ولا يعقل أ، يقدح أو أن يهان فيها
جلالته.
هناك من تحدث عن فتيلة.
هل يعقل أن يتنازل جلالته.
فيتناول فتيلة من صنع
الرعية مهما كان مفعولها؟ أن مجرد تصور ذلك إثم.
لا لا. أبدا لا. لا يعقل،
وحاشا لصاحب الجلالة..
أجاب حكيم القرية، في حين
رفعت النساء أصواتهن، ينادين بالرغبة في الجنس. تناول فارس الشاب من عنقه. صب عليه
سائلا. أضرم فيه النار فاشتعل هو والمخطط الذي كان في يده، في حين كان نواح النساء
يمزق الأكباد.
-15-
أوفدت القرية السابعة
مبعوثا إلى علي الحوات، يعلمه أ، القرية رغم عدم ترحيبها به، فإنها لا ترى مانعا
من مروره بها، وأ، أبناءها يعطونه الأمان. ولا بأس، إن كشف عن سمكته المسحورة في الساحة
ليطلع عليها الصبية والأطفال فوافق علي الحوات على العرض ممتنا.
قرر في سره، أ، يقتحم
قرية الأعداء، وأ، يعرض في ساحتها سمكته ويقول بأعلى صوته، أنها هدية لجلالته
بمناسبة نجاته من كيد الأعداء.
سيعلن عن ولائه لصاحب
الجلالة، في عقر در الأعداء، وليكن ما يكون، وإذا ما أرادوا مناقشته فسيناقشهم،
ويدحض آراءهم.
النزيه المتجرد في إمكانه دائما، أن يواجه
جميع النقاشات دون أن يخشى شيئا، في إمكانه أن يفكر بالصوت المرتفع، لأنه لا أحد يمكن أن يقدح في نبل هدفه.
هكذا رأى علي الحوات
المسألة، حين أجاب مبعوث القرية السابعة وحين اتخذ قراره الخطير، ألا أنه ما أ،
بقى مع سمكته وخلا بنفسه، حتى راحت أسئلة عديدة تنطرح عليه.
أن الولاء لجلالته، أن
يقتحم شخص أعزل محمل بهدية نفيسة، قرية أعدائه، بإذن منها، وبأمان من أبنائها.
ماذا سيقول جلالته حين
يعلم بمروري بقري الأعداء دون أن يصيبني أي أذى؟.
أنا اعلم أ، الفضوليين
المتطلعين إلى رؤية سمكتي في القرية السابعة هم الذين أجبروا قادتهم على السماح لي
بالمرود، وأن الأعداء يمكن أن يغيروا موقفهم منى ما أن يشفوا غليلهم من السمكة،
يقررون انتزاعها منى، أن سجني، أو قتلى، أن ما شابه ذلك.
يبدو لي أن المسألة فيها
جانب من السياسة، فأنصار الظلام، قد يكونون- رغم الاتصال الذي بينهم وبين جلالته-
يسيطرون على هذه القرية، أو على الأقل متفقين مع أهلها، وأنهم هم الذين أوصوا بمروري
من هناك، لمواصلة الحوار معي.
لقد اتخذت المسألة تشعبات
وانعراجات، تفوق قدرة الفرد عن التفكير والتحليل.. آخرون يقيمون لي احتفالات
ومهرجانات.
آخرون يؤلهونني ويقدسونني
. وآخرون يهدون لي أجمل بناتهم.
آخرون يعرضون على
السلطنة. آخرون يرجونني أن أبصق على وجوه وجهائهم، وأن آتى نساءهم. أخيرا ، قرية الأعداء المحصنة
التي لم يدخلها- على ما يقال- موال للقصر قط. منذ سنوات طويلة، توفد لي من يعلمني بأنني
مؤمن فيها. ثم ها أنني بدوري أنساق وراء التيار، فأقبل القيام بأدوار سياسية.
لقد أبحث لنفسي، ما كان
غير جائز لي أبدا.. لماذا أناقش، خبر القرية الأولى، قرية التحفظ والصراحة.
الخطأ كان من البدء. من
لحظة رفعت فيها صوتي بالنذر. ليتطاير الخبر في كامل السلطنة، لو أنني جعلت المسألة بيني وبين نفسي،
كما هي الحال بالنسبة للأعمال الحسنة وقصدت القصر، دون أن يعلم أحد من القرى السبع
بهدفي أو بمرماي، لما تعرضت لكل ما تعرضت له، ولما وقعت في أخطاء كالتي وقعت فيها.
نعم. يصل الأمر، بي أنا، علي
الحوات اليتيم، اخو جابر وسعد ومسعود، اللصوص المجرمين، أن اخطب في ساحات القرى
السبع ،باسم جلالته.
لكن لم كل هذا التهويل؟
الخطأ لم يكن في اللحظة الأولى،
وإنما في ساحة الاعترافات، حين رحت تسمح لنفسك ادعاء تمثل التاريخ. كما قيل لك
لحظتها، وفي الحق، الخطأ لم يأت منك، فما أنت ألا الابن الخير البار لقرية التحفظ،
دفعت بضميرك إلى القيام بعمل، فأطلعت عنه أهلك وقومك ليكونوا على بينه، من كل ما
تفعل.
نعم. الشريرون واللصوص
وحدهم، لا يشركون غيرهم في الأفعال. الخطأ، لم يأت منك، إنما من الشخص الذي أوحى
لك بالاتجاه إلى القرى الأخرى لجمع الهدايا والأنصار، وفي حقيقة الأمر وواقعه، لم
يقل المسكين. اتجه يا علي الحوات إلى القرى الأخرى باحثا عن الهدايا وعن المؤيدين والموالين. كل ما
قاله هو انك ستجد في القرى الأخرى إلى غير ذلك.
لا. قال اخرج وخاطب أصحاب
القرى الأخرى، وستجد إلى آخره. فقلت ذلك ما أنا فاعل.
هل هذا خطأ. أي خطأ في أن يدعو واحد من
الرعية الناس إلى إعلان ولائهم لصاحب الجلالة؟
لا خطأ في الحقيقة، أن
ذلك من أبسط واجبات كل فرد في السلطنة..
إنما تدهور أوضاع الناس، الفكري
والمعنوي، لم يكن ملائما لك على ما يبدو، يا علي الحوات.
تحدثهم عن جلالته.
فيحدثونك عن أنفسهم.
يخصون أنفسهم للبرهنة على
ولائهم،ثم يروحون يوجهون اللوم لفرسان جلالته، لماذا لا يروون شبق نسائهم.
السلطنة في حاجة إلى اهتمام
جلالته ورعايته، في حاجة إلى تقويم.
أهاه يا علي الحوات.
أهاه، أنك تردد شعارات أنصار الظلام.
أن يفعله في شيءون
سلطنته.
هذا هو الخطأ. ربما الخطأ
الأول آذى ارتكبته منذ ستة أيام. فأصلحه أصلحه بسرعة استغفر عنه.
جلالته فوق كل تقدير، فوق
كل خطأ. وجلالته أعلم بشيءون الرعية من الرعية. أنه منحوت في السماء السابعة بيد
ربانية، وامتلأ في القصر بروح من الرب.
يا علي الحوات. من حق
جميع الناس أن يسألوا أنفسهم عن معنى أو نتائج أفعالهم، ألا الخيرين مثلك، فهم بما
جبلوا عليه، كالأنبياء وكالسلاطين معصومون من الزلل، خطأهم خير، وصوابهم خير. اعمل
بوازع من ضميرك وحده، ولا تلتفت لأحد، سلطانا كان. أو عبدا من الرعية.
قرر علي الحوات، ثم نهض
واتجه نحو القرية السابعة، قرية الأعداء، بصدر ثابت، وعزم قوى.
-16-
قرية الأعداء. تختلف عن باقي
القرى. حتى عن قرية التحفظ،بناؤها عجيب، ديارها في أسفل قرار سحيق، مبنية بصخور
سوداء ومغطاة بقرميد من الحديد المطعم. وفي الأعلى، وعلى القمم السبع المحيطة
بالقرار، أقيمت مظلة من الجرانيت، والاسمنت، تمتد على كامل محيطها، نوافذ صغيرة
يربض فيها رجال مسلحون، بالنشاشيب، وفي الوسط تبدو نوافذ كبيرة، لاشك أنها أقيمت،
من أجل عبور أشعة الشمس إلى الأسفل.
حتى من حيث التنظيم، تبدو
على اختلاف كبير عن باقي القرى الست.
انفتح باب في المدخل من
الحديد المطعم، ووقف فيه فارس على أدهم، أحنى الفارس رأسه، برك الحصان الأدهم،
وسهل ثلاث مرات.
تفضل.
وصل صوت من الداخل إلى أذن
علي الحوات، فانطلق إلى الأمام ولم يكد يجتاز الباب، حتى سمع الحصان يصهل ثلاثا،
تأخر الحصان، وارتفع صرير الباب لينسد نهائيا.
يا علي الحوات، أنت الآن في
ضيافة مدينة الإباء، وفي أمان يقتضيك سبع ليال وثمانية أيام من السير، صديق عدونا
عدو لنا، ولكن أمرك يخالف هذا يا علي الحوات.
لقد أذنا لك بالمرور من
هنا لسبعة أسباب.
أولها أنك ابن قرية
التحفظ، فلا معنى للتحفظ سوى المعارضة.
ثانيها: أن قريتك على ما
بلغنا- أنبتك عن ادعائك لتمثل التاريخ.
ثالثها: أن بين القرى
مهما كانت حالها ومهما كان وضعها أو موقفها، بما في ذلك قرية التصوف وقرية الدياثة، يجب أن يسود الوئام
لمواجهة العدو المشترك، العدو الأكبر.
رابعا: أنك يا علي الحوات،
غير مدفوع، لا بالطمع، ولا بالطموح، فأنت بكل صفة، لن تكون عدوا لأحد، مهما كنت
مواليا أو مناصرا لأكبر عدو.
خامسا: أن بروزك في هذا
العصر، وبهذا الشكل ، قد يغير مجرى الأمور بعض الشيء.
سادسا: أن مرورك على
القرى السبع، يدل على أنك ذكى، وعلى أنك تود أن تطلع على دقائق الأمور، بل يجعلنا،
نثق في أنك مهما كنت مواليا فما أنت، بما تعلمه سوى عدو لدود شيءت أم أبيت.
سابعا: يا علي الحوات،
وهو من أهم الأسباب، أن دخولك إلى القصر يكنك من التشبع بالحقيقة، ومهما كنت
متحفظا، ومهما أخفيت منها، ومهما غاب عنك مغزاها، فانك ستجعل غيرك يطلع على جزء
منها، أو على الأقل، على ملامحها، وهذا يهمنا أننا للأسباب السبعة المذكورة أذنا
بمرورك، وأعطيناك الأمان. فأهلا وسهلا بك في مدينة الإباء، وبين الأباة.
لقد أخطأ القصر- وهو
دائما يخطئ، ودائما عرضه للأخطاء- بالسماح بظهورك. نعم، ولتعلم أنه لو لم يسمح لك
بالظهور. لقضى عليك من أول يوم نذرت فيه. ولو لم يسمح لك بالظهور لكان مصيرك مثل
مصير جميع الأنبياء والرسل، وأصحاب الاختراعات والمخلصين الذين سبقوك. إلا أنه يا
علي الحوات، احذر، ثم أحذر، من رد فعله، فهو غالبا ما يصلح أخطاءه، بفظائع بشعة يرتكبها.
نحن أقرب الرعية إليه
ونحن أدرى بشيءونه من غيرنا، القصر بليد، وهو لا يتفطن الى أخطائه إلا في آخر الأمر، فإياك ثم إياك، ولا تظنن أنه يجهل أمرك، وأنك ستفاجئه يوم تقف
وراء الباب تدقه لتقدم سمكتك الجميلة.
أن قوته التي لا يزال
يستمد منها بقاءه تكمن في وسائل اطلاعه. فله أساليب جهنمية للإطلاع على كل ما يهب
ويدب في السلطنة.
نعم ولا غرابة في ذلك،
فهو قائم على كاهل جميع اللصوص وقطاع الطرق والقتلة والسفاكين والمجرمين.
إن القصر يا علي الحوات،
هو القيادة العليا لكل عصابة سوء في هذه السلطنة.
ونحن، وأن كنا نتفق مع الأنصار
العاملين في السرية، في أمور كثيرة، فإننا نختلف في هذه المسألة بالذات.
هذه مسائل أخرى يا علي
الحوات، ونحن بقطع النظر عن كل شيء. وفيما يتعلق بك أنت بالذات، ندع المسألة
لضميرك الخير، وأن لنا كامل الثقة، في أنك في النهاية، ستظل علي الحوات الخير،
الحوات الخير، سمة عصر قرية التحفظ، رغم كل الشريرين واللصوص.
تفضل يا علي الحوات.
رأى علي الحوات نفسه، في مربع
أسمنتي ينزل به وبسمكته وينزل. حاول أن يتبين من الثقوب المثبتة في الأعلى، مصدر
القوة التي تسير المربع فلم يصل إلى نتيجة.
شعر باهتزاز بسيط في قلبه
لا غير، ففهم أنه بصدد النزول.
بعد مرور وقت طويل، وجد
نفسه في بهو كبير تضيئه شمس منعكسة في مرايا ضخمة، مثبتة في قمة المظلمة
الجرانيتية.
طلب منه أن يتقدم، فامتثل
قطع بضع خطوات، ليجد نفسه فوق مدرج منبسط من الرخام الأبيض. أشير له بالانتظار
ففعل، ولم تمر لحظات حتى كان المدرج يتقدم به دون أن يكلف نفسه عناء أي سير.
قطع مسافة ربع يوم بجمل
اكتف، ليجد نفسه في ساحة كبرى، واسعة ، مزدانة بأحواض الزهور والياسمين والفل
ومضاءة بشمس ساطعة تبثها المرايا. ومحاطة بمناضد إسمنتية متشكلة في شكل دائرة،
تنقطع هنا وهناك، يجلس عليها خلق كبير.. في الأسفل تماما، الأطفال، وفوقهم النساء،
وفوقهم الشيوخ، ثم الكهول، ثم الشباب.
عندما توقف المدرج عن
الزحلقة، كان علي الحوات أمام بركة نقية من الرخام الناصع، يتلألأ فيها ماء نقى.
هذه البركة أعدت خصيصا
لسمكتك يا علي الحوات، فأرحها قليلا.
وقبل أن يقرر علي الحوات،
هل يتمثل للطلب أو لا، كانت السمكة تثب إلى البركة، وتنطلق في سباحة جميلة. تغوص
حتى تلامس القاع البعيد، ثم تدور عدة دورات في البركة، ثم تتجه إلى المركز، لتصعد
أفقيا، حتى يبرز أنفها إلى فوق، فيهتف الأطفال:
ها هي، ها هي.
وتهتف النساء:
وووه، وووه.
ويهتف الشيوخ:
ما شاء الله، ما شاء
الله.
ويهتف الكهول:
رائع، رائع.
ويهتف الشباب:
حييت يا علي الحوات، حييت
أيها الحوات البارع.
كان قد قدم إلى علي
الحوات، من طرف شاب، وفتاة كرسي مؤثر، وقرنفلة حمراء
جلس بدوره يتفرج على
سمكته، وبين أصابعه القرنفلة.
بعد حوالي تُسع يوم تقدم من علي
الحوات، شخص في لباس أصفر فاتح ، وأشار له أن يتبعه.
تردد علي الحوات قليلا
وبصره مسدود إلى السمكة ثم لم يجد بدا من الانسياق.
كان الأطفال والنساء
والشيوخ والكهول والشباب منهمكين جميعهم بالاستمتاع بحركات السمكة، وبشكلها العجيب
وألوانها الخلابة.
لقد أحبوها، ولن يؤذوها
أو يمسوها بشر إطلاقا.
خطر لعلي الحوات، فاتساق
خلف الرجل مطمئنا.
هنا مقر ضيافتك يا علي
الحوات، لقد تقرر أن تستضاف ستا وثلاثين ساعة، عندنا. فأهلا ومرحبا بك. الحمام على
اليمين وقاعة النوم في الوسط. وعلى اليسار، قاعة المضيفات، وبعدها قاعة الأكل.
أهلا ومرحبا بك يا علي الحوات في مدينة الإباء.
بعد غد، مع مطلع الفجر،
تقودك إلى باب المدينة، ولا يبقى بينك وبين القصر، سوى مسافة نصف يوم على حصان
خباب.
-17-
وما الخلاف بينكم وبين
صاحب الجلالة حينئذ؟
سأل علي الحوات، رئيس
قرية الأعداء، أو مدينة الإباء كما يحلو لهم أن يسموها، فأبتسم الشيخ رغم الوقار
الذي ظل يلازمه، وقال:
بعدما رأيت وبعدما سمعت،
يحق لك أن تستنتج بنفسك نقط الخلاف يا علي الحوات، لكن لك الحق، فأنت من قرية
التحفظ.
هناك خطان متعاكسان، واحد
يؤدى إلى الصفر، إلى مدون الصفر وآخر يصعد نحو أعلى رقم، ليتطلع إلى الرقم الآخر.
القصر يا علي الحوات يأكل
أيامه، أنه ينهشها يوما فيوما، حتى يفرغ منها، فيبقى بلا زمان، لقد سيطرت عليهم
الذات، فغرقوا في عشقها، والذات عدهم يا علي الحوات، تعنى الحيوانية المتوحشة.
النهش فالنهش ثم لاش غير
النهش.
القصر أقيم في البدء على
مطاردة اللصوص، ثم تحول شيئا، فشيئا حتى صار وكرا لهم، ينطلقون منه للنهش ثم
يعودون.
كان القصر مصدرا لا من
الرعية، فتحول إلى مصدر رعب وذعر.
نحن هنا نقيم حياة، لا ذات
فيها، نحن ننجز الأوجب فالأوجب، مستنجدين بكل العبقريات التي تتوفر في السلطنة، ولا تجد المجال لتحقيق مخترعاتها. كل العلماء، كل الأنبياء،
كل الرسل، الذين نجوا من فتك القصر هربوا إلينا، إننا بصدد إنجاز أعظم ما طمح إليه
الناس منذ كانوا، إذا ما نجحنا في ذلك استغنت البشرية عن جميع السلاطين والقصور.
وما هو هذا الإنجاز؟
تحريك الحاسة السابعة
عشرة.
وما هي هذه الحاسة.
باختصار هي حاسة التزود الذاتي.
تغنى الإنسان عن كل شيء، إذا ما
برد يدفئ نفسه بمجرد قرار يتخذه. إذا ما جاع يفعل كذلك، إذا ما
عطش يرتوي بقرار، إذا ما مرض عالج نفسه بنفسه، إذا ما رغب في السفر لا يضطر لركوب
دابة أو إلى السير على القدمين، إنما يحمل نفسه في الفضاء وينطلق إلى هدفه.
يتعاون يا علي الحوات،
على هذا العمل، سبعة أنبياء، وسبعة رسل، وسبعة مخترعين، وسبعة حكماء، وتأمل كثيرا في
أن ينجحوا في أقرب وقت.
لو تتقدمون إلى جلالته
بهذا…
يا علي الحوات، لقد
أمناك، واحترمنا حتى الآن عاطفتك، فكن لبقا معنا، هيا لقد آن لك الانصراف.
-18-
رغم أن الوقت فجر كما قيل
لعلي الحوات، رغم أن المدينة تقع في أسفل الوادي. ومسقفة بمظلة من الجرانيت
والاسمنت، فان ضوء الشمس كان يعمها.
تساءل علي الحوات، هل
طلعت الشمس، فأجيب أن الوقت ليل وإنما هذا النور ينبعث من مرآة أقيمت في منتصف
السماء لتظل الشمس مهما بعدت، تنعكس فيها.
كان الوضع في الساحة، كما
تركه علي الحوات، السمكة ترقص في البركة. الأطفال والنساء والشيوخ والكهول والشباب
يتفرجون.
لقد جمعناهم يا علي
الحوات ليودعك، ويتمنوا لك سفرا طيبا فقل كلمة وداع.
نعم مدينة الإباء، تود أن
تسمع كلمة من ابن قرية التحفظ، والصراحة، علي الحوات الخير.
اعتدل علي الحوات في وقفته.
ألقى نظرة على سمكته، ثم أجال بصره في الحاضرين، وتساءل بينه وبين نفسه، كيف
استطاعت هذه القرية أن تشذ عن باقي القرى الست. أنه لم يسأل رئيسها وسيفعل ذلك في أول
فرصة. انتبه إلى أن جميع سكان قرية الأعداء يبدون في صحة جيدة، وفي ثياب حسنة،
وأهم من كل ذلك، أن الهدوء يطبع حركاتهم ونظراتهم، عكس باقي الرعية في القرى الأخرى.
أو أتيح لجلالته، أن يدخل
مرة قرية الأعداء، لغير موقفه منها.
فكر علي الحوات، ثم
استدرك.
على الرغبة، أن تغير
موقفها حسب رغبة القصر، وحسب إرادة صاحب الجلالة، أنه متبوع، وليس تابعا أبدأ ،
أبدأ.
تفضل يا علي الحوات،
فالوقت في مدينة الإباء، له قيمة كبرى.
قال رئيس القرية فنحنح علي
الحوات، ورفع رأسه إلى فوق مغمضا عينيه.
أيها الرعية هذه سمكتي
الجميلة وهبها لي وأدينا المعطاء، وهذا أنا علي الحوات اليتم ابن قرية الصراحة والتحفظ.
هذا هو اليوم السابع الذي
غادرت فيه قريتي ولا أخفي عنكم، أنني شاهدت من الغرائب والعجائب ما لم تره عين،
ولم تسمعه أذن.
أنا جد مسرور لنجاة
جلالته من كيد أعدائه، كما تعلمون.
انتظر أ، يقهقه الحاضرون
ساخرين مئة، إلا أنهم ظلوا يحدقون فيه بهدوء واطمئنان، وعجب لذلك، سكت قليلا ثم
واصل.
إنني أسم عصر قريتي بالخير- كما تعلمون- ولقد شاءت الأقدار أ أخرج لوسم عصر السلطنة
كلها بالخير. لا أدرى هل أحقق ذلك أم لا.
إنني لا أتساءل ولا يهمني ما سيكون. كل ما يدفعني. هو الرغبة في فعل
الخير.
انتم أعداء لجلالته فأنتم
بالتالى أعداء لكل مخلص لجلالته.
سكت علي الحوات برهة
ينتظر رد الفعل، ثم استأنف:
وامسحوا لي أ، أصارحكم
بهذا ، فأنا من قرية الصراحة لقد استضفتموني إكراما لقريتي وكم وددت لو أن ذلك كان
إكراما لصاحب الجلالة.
إنني إذ أشكركم، أدعوكم
أيها الأعداء إلى الرجوع إلى الولاء والطاعة. أن وضعكم لافت للنظر فعلا، وحاكم
تسترعى الانتباه حقا،لكن أية فائدة، وأي خير، في وضع لا يباركه صاحب الجلالة، وفي حال،
لا يرعاها جلالته.
هذا واجبي، أقوم به لا
طالما، ولا راغبا. إنني عبد، وعلى العبد أ، يبرهن باستمرار على ولائه وطاعته
لسيده.
شكرا يا علي الحوات شكرا.
قال رئيس قرية الأعداء،
ينهى الخطاب والجلسة فالتفت علي الحوات إليه مبتسما في حين راح الحاضرون ينصرفون في
سرعة خارقة.
لاحظ علي الحوات، أ،
الماء ينقص شيئا فشيئا من البركة الرخامية، وأن سطح البركة يرتفع إلى فوق، ثم أن
محورها يصغر، وهى تضيق،
حتى لم يبق إلا ما حوى سمكته.
تقدم شخصان يرتديان الأصفر
الفاتح، ولفا السمكة في لحاف حريري اصطحباه معهما، وتناولاها، ووضعاها على كتف علي
الحوات.
إكراما لقرية التحفظ،
ولتحفظها التاريخي يا علي الحوات، نعيرك جوادا تركبه، وبغلة تحمل عليها سمكتك.
انتبه جيدا إلى كلمة الإعارة يا علي الحوات، فكل شيء في مدينتنا كما سبق أن رأيت
موزع بالتقسيط، أننا في حالة حرب، طال أمدها.. تجدهما عند الباب.
أشكرك كثيرا يا حضرة
الرئيس، لقد بالغتم في إكرامي.
هذا واجب مدينة الأباة،
الوداع، سننتظر عدتك لنعرف نتائج رحلتك الأخيرة يا علي الحوات.
سار الدرج الرخامي، بعلي
الحوات، مسافة أطول بعض الشيء من الأولى.
ليجد نفسه في مربع أسمنتي
آخر، راح يصعد به ويصعد بينما نبضات قلبه تتضاعف، من حين لآخر.
-19-
المسافة بي قرية الأعداء
وبين القصر، ليست بالبعيدة، والجواد الذي أعاره رئيس الأعداء لعلي الحوات من أحسن
الجياد، كذلك البغلة، وقد قدر أ، يصل إلى القصر قبل الزوال.
" أهدى لجلالته
السمكة، وأناوله رسالة السد، واستأذنه في الانصراف. أحدثه بصفة عامة، عما يقول
الناس وما يفعلون، ولا أغرق في التفاصيل".
ألا أنه ما أن قطع مسافة
قصيرة، حتى بدأت بعض مشاكل تعترضه. استوقفه الحراس في المركز الأول، وطلبوا
تفتيشه، فتشوه جيدا، ثم راحوا يتبادلون نظرات غريبة، مع بعضهم ومعه، بعد وقت قصير،
سأله رئيس الحراس.
هذه هدية القصر، وأين
هديتنا نحن؟ أتعتقد أننا نسمح لك بالمرور بهذه البساطة.
أو نعم، كلكم، كل من له
صلة بالقصر يستحق هدية، لكن تعلمون إنني عبد فقير، أنا علي الحوات اليتيم، لم يدخل
قرش يوما جيبي لن أنساكم على كل حال.
لو م نكن مررت بقرية الأعداء
لسمحنا لك بالمرور، أما وأنك تركب جوادا لهم، وتحمل هديتك على بغلة من عندهم، فانتظر
حتى نسأل المركز الثاني.
انتظر علي الحوات عدة
ساعات، يتبقى أذنا، يحمله حارس ملثم، يركب حمارا أعرج.
عندما هم علي الحوات
بركوب الجواد، نهره حارس، قائلا:
لا يحق أن تكون هدية
جلالته في المقام الثاني أركب البغلة وأحمل السمكة على الجواد.
في المركز الثانى تركوه ينتظر وقتا
أطول، قبل أن يتحدثوا إليه كانوا يقولون فيما بينهم، وبأصوات مرتفعة، كيف يجوز أن
يمر أحد بطريق القصر دون أن يحمل هدايا لرؤساء مراكز إذا قدر لهذا الغبي، أن يصل
إلى القصر، وأن ينال مكافأة على هديته،
وعاد من هنا فعليه أ، يقسم المكافأة بالتساوي على كل رؤساء مراكز الحراسة، وإلا عرض نفسه للهلاك.
بعد ساعات طويلة، نودي
على علي الحوات، وادخل إلى مكتب رئيس المركز والسرور يغمره، طلب منه الحارس الذي
أدخله، أن يسجد وأن لا يرفع رأسه حتى يؤمر بذلك.
ما اسمك؟
علي الحوات اليتيم.
من أية قرية؟
من القرية الأولى.
لم لا تقول من قرية الصراحة والتحفظ؟
نعم قرية الصراحة والتحفظ.
ما هو الطريق الذي سلكته؟
الطريق العادي.
وكيف سمحت لنفسك بالدخول إلى
قرية الأعداء؟
على أن أصل بسرعة إلى القصر
لأبلغ الأمانة قبل فسادها.
آمنت أكراما لقريتي،
فدخلت قرية الأعداء وألقيت فيها خطابا دعوت الأعداء فيه إلى التوبة والعودة إلى حظيرة
الولاء والطاعة.
وما هو هدفك من زيارة
القصر؟
تبليغ النذر، بلغتني سلامة
جلالته من كيد الأعداء، فنذرت له أجمل صيد، واستجيب لنذرى.
تقول؟
نعم.
وما هي الشكاوى التي حملك إياها
بعض الجشعين الذين لا يرضون عن وضع؟
لم أقبل أن أحمل أية شكوى.
تقول؟
عدا رسالة واحدة من عالم
يقول أنه توصل إلى مشروع يحول السلطنة إلى جنة في ظرف قصيرة.
أرفع رأسك.
نهض علي الحوات، وراح
يسترق النظر إلى الرجل الملثم، وإلى الرقعة التي دون فيها إجاباته. انتظر، أعاد
الرجل قراءة الرقعة، وتأمله جيدا.
انتظر حتى نرسل مقالتك إلى
المركز الثالث.
انتظر علي الحوات وقتا
أطول من الأول، ثم أمر بمتابعة طريقة،لما هم بركوب البغلة نهر بعنف.
لا يجوز الركوب في طريق
القصر. من هنا يبدأ السعي رجله.
في المركز الثالث، أعادوا
معه نفس العملية، وطلبوا منه نفس المعلومات وحين أذنوا له بالمرور، أمر بالاحتفاء.
أخلع نعلك، فأنت في طريق
القصر. من هن يتوجب السعي احتفاء.
في المركز الرابع، أعادوا
معه نفس العمليات، ثم ترفع رأسك إلى فوق، أسع مطأطئا.
في المركز الخامس، أدخلوا
ثيابه إلى مطهرة، بخروها بعقاقير، ثم أعادوها له، أمروه بالدخول إلى حمام، ثم
حلقوا شعر رأسه وذقنه وأمروه بمواصلة السير.
انحن، من هنا يبدأ السعي
انحناء.
في المركز السادس، أعادوا
معه جميع العمليات بجميع تفاصيلها وبكل الوقت التي تقتضيه، ثم فحصوا أسنانه،
وأنبوه لعدم تنبيه المركز الخامس إليها. ثم أعطوه ملحا ونخالة وليفا، وأمروه
بتنظيفها جيدا.
حين أتى الإذن من المركز
السابع، أضافوا إلى الحراس الأربعة الذين يصطحبونه، ثلاثة آخرين، وأمروه
بالانطلاق.
من هنا يبدأ السعي حبوا.
فتشوه وفحصوه جيدا في المركز
السابع، وتبادلوا مراسلات مطولة كتابية وشفاهية، مع مكتب الحاجب، ثم عصبوا عينيه
وقادوه إلى حيث لا يعلم.
-20-
يقولن انه اقتيد إلى القصر،
هناك أزحت العصابة عن عينيه، ثم توجهوا به مكتب الحاجب وأمروه بالسجود.
يقال إنهم أخذوه إلى كهف
مظلم في أسفل القصر عند جبل الخداع، وتركوه هنالك ثلاثة أيام دون أكل أو شرب،
ليكون في مستوى الذل والولاء المطلوب من العبد.
يقال إن علي الحوات شعر
بأنه سار مسافة أطول من التي قطعها في الأيام السبعة التي مرت، ليجد نفسه في حضرة
شخص ملثم قيل له أنه الحاجب.
يقال إنهم لم يأخذوه إلى أي
مكان، وإنما ظلوا يدورون به في دائرة تكبر وتصغر معصوب العينين ثم أعادوه إلى المركز
السابع.
يقال إنه سير إلى جلالة
السلطانة, التي باتت تستمتع بشبابه كأنثى وهو معصوب العينين، وعندما تيقظ فيها الجانب الرجولي،
أمرت الشيء الكثير.
ظن الحراس، أنه أصيب
بوباء فتاك بفعل بعض عقاقير، دسها له أهل قرية الأعداء، ليعدي القصر، ويأتي على كل من
به فأدخلوه مغارة عمقها ألف متر، وعرضها متر، وانتظروا ما سيؤول إليه أمره بعد
سبعة أيام.
يقال، في أوساط أنصار الظلام، أن السلطانة اختلفت مع السلطان في مسألة وضع السمكة، هل في
البركة المواجهة لنافذتها، أم في البركة المواجهة لنافذة جلالته، وأن الأمراء،
والحاجب، رئيس الحرس، وكبير المستشارين والغلمان والجواري والبهلوانيين والقردة، وتحزبوا إلى أربعة أحزاب،
حزب يناصر السلطان، وحزب يناصر السلطانة، وآخر يدعو إلى أقامة بركة عامة لكل أهل
القصر، وآخر، يدعو أما إلى أكل السمكة، باعتبارها سمكة مثل باقي الأسماك، وأما بطردها من القصر باعتبارها سمكة
مسحورة.
يقال في أوساط قرية
الحظة، وخاصة لدى حاشية حكيمها، أن السمكة ما أن دخلت القصر، حتى تحولت إلى عذراء
فاتنة.
عشقها السلطان.
عشقتها السلطانة.
عشقها الأمراء والقواد
وكبار الحاشية.
عشقت هي الجميع وراحت
تستفزهم فردا فردا.
نشبت نار فتنة بين
الجميع، ذكورا وإناثا، فقرر كبير المستشارين إنزال العقاب بعلي الحوات.
المهم. المهم أكثر من كل
ما يقال، أنه انتشرت بين كافة الرعية، أن علي الحوات عوقب بدل أن يجازى. وأن
الحقيقة المطلقة ظلت حبيسة قلب علي الحوات الكبير، ابن قرية التحفظ الخير.
-21-
استقبل المتصوفون العمى، علي
الحوات استقبالا حزينا يليق بالخيبة التي عاد بها.
كانوا يندبون وينوحون،
ويطلبون من العذراء أن تذرف من الدموع، ما يليق بالحزن الكبير، وبين الحين والآخر،
تصدر عن أحدهم عبارة مواساة.
الألم الكبير، والحزن الأعظم،
ذروة التصوف. بعدها تأتى الغيبوبة في الإشراقة الكبرى. فيولد ما يرهبه السلاطين والطغاة والجبابرة.
التحدي الثقيل.
لم يكن علي الحوات في نفس
الحز الذي كانوا عليه، ولم يبك أو يذرف على دمعه، لقد استفاق من الإغماء، فوجد
نفسه، في ساحة قرية التصوف محاطا بالعمي وعند رأسه خطيبته العذراء، فاستجمع قواه
وشجاعته، وواجه الموقف.
لا أحد من أهل القرية،
رأى ما جرى، سوى العذراء.
لقد لمحت من برج
المراقبة، مع الفجر، فرسانا ملثمين، يقتحمون القرية، ينعش على بغلة سوداء، مربوطة إلى
جواد أدهم، وضعوا النعش وسط الساحة، وأوثقوا البغلة والجواد إلى شجرة وانصرفوا.
ظلت العذراء، ترقب في خوف
كبير النعش الذي كان يتحرك حتى بزغت الشمس، فراحت تستنجد.
أيها العمي، كشفت العذراء عن وجه علي
الحوات، أقيمت المندبة التي تواصلت كامل المساء حتى استيقظ علي الحوات.
هذه فرصة ثمينة ، لبلوغ
الذروة فالغيبوبة فالتحدي، فلنذب لنتذاوب أيها العمى. أنها أول فرصة بعد فقء
أعيننا.
علي الحوات القلب النابض
بالخير وبالطهر، طعن في اعز ما يملك أيها العمى، لقد جزت يده اليمنى تى المرفق، وا
أسفاه
!
أن فقد الحوات يده فماذا
يبقى له ليكون حواتا.
إنهم هم، الأعداء واللصوص، والطغاة
والجبابرة الموجودين في كل مكان، أحاب هذه الفعلة النكراء.
الأعداء الذين لهم سبع
وسبعون صفة، وينطقون بسبع وسبعين لغة، مفتضو بكارات عذراواتنا، أخذوا أبصارنا،
أمرونا بجمع القنافذ ضريبة عن الحياة، هم الذين طعنوا قلب الخير والبراءة.
واحزناه، واحزناه. لقد
قطعوا يده اليمنى حتى المرفق.
انتظر علي الحوات، حتى
هذا عواء المتصوفين، لكي يتشبث بيد العذراء وينهض.
تأمل الوجوه المفقوءة
العيون، فلم يلحظ سوى تقاطيع الألم.
المصاب الكبير، ينسى في
المصاب الأكبر، هذا ما أرادوا أن يدفعوني إلى الاقتناع به، لا يعنى شيئا أمام فقدان البصر،
لكن لم، كل هذا وذاك.
نعم. لم كل هذا وذاك.
حدث نفسه لحظات، ثم رفع
صوته ليواسى المتصوفين النائحين.
أيها الأصدقاء، يا أصهاري،
أيها المتصوفون العمى.
قاطعه العمى، لقد أزداد
هياجهم لسماع صوت علي الحوات.
لو كانت لنا أعين
لبكيناك، لو كانت لنا سيوف لافتديناك، لو كنا نملأ لعرضنا أنفسنا للدروس، لو كنا ذبابا لعرضنا أروانا للفناء، لو
كنا حطبا لاشتعلنا، لو كنا نارا لاطفانا.
أما ونحن، لسنا سوى
متصوفة عمى، فلا يسعنا سوى الندب، فها أننا نندب.
وا يد علي الحوات، وامصاباه،
وا أملاه.
أين يدي من أعينكم؟ أين مصابي من
مصابكم؟
أعلمكم أيها الأصدقاء
بأنني نذرت مرة أخرى.
سأصطاد بيد وحدة. سأنذر
لجلالته أجمل سمكة أصطادها، إذا كانت السمكة الأولى فلتت، فان السكة الثانية لن
تفلت من الشص وأن فلتت، فإلى الثالثة، فإلى غيرها.
هذا هو شعار الحواتين يا
أصدقاء، وسأتبع العمل حسب هذا الشعار، مدفوعا بما يفيض به قلبي الممتلئ خيرا
ومحبة.
نحن الحواتين، ل نبعد
كثيرا عن المتصوفين. القاسم المشترك بيننا هو الصبر.
تغوصون فنغوص.
تتعمقون فنتعمق.
تتطلعون فنتطلع.
إذا كان هناك فرق بيننا،
فهو الحزن والصمود، ففي حين تسلكون طريق الحزن، نسلك نحن طريق الصمود.
يا علي الحوات ما جدوى
ذلك؟ ما الجدوى؟ تستخرجون سمكة فتأكلونها، وتنتهي المسألة تنتشون لكل سمكة، ثم
يذوب انتشاؤكم أمام أبسط انتظار تتطلبه العملية التالية.. كل شيء عندكم سريع الزوال.
أما نحن.
أيها الأصدقاء، سأعود إلى
القصر وسأرى جلالته هذه المرة، وسأقدم له نذري، سيفرح وسأحدثه فيما
يأبى الأعداء أن يعلم.
من هم الأعداء يا علي
الحوات؟
أين يدى من أعينكم؟ أين مصابي
من مصابكم؟
أهم اللصوص؟
أهم السلطانة؟
أهم الأمراء؟
أهم الحاشية؟
لقد اطلعت عن الحقيقة، أو
عن بعض منها يا علي الحوات فلا تبخل علينا منها، أنا كلما اقتربنا من الحقيقة
اقتربنا من الإشراقة الكبرى.
هم علي الحوات، أن يطلع
العمى عن الحقيقة، أل أنه رأى أن من الخير، ومن الصفات الحسن، ومن الطهارة
والنقاوة ألا يمس بأقدس شيء. نعم أقدس شيء.
إذا ما ظلت الحقيقة في صدره،
فسيظل صدره من أوسع الصدور، سيبرهن بحق، على أنه سمة عصره، وأنه الخير الخير، رغم
الشر المنتشر والشريرين الأكثر انتشارا.
ليعمق جرح المنصوفة،
ولتزدد عداوة قرية الأعداء ولتمت الرجولة في قرية الحظة وليشتد التحفظ في قرية
التحفظ والصراحة.
لكن مع ذلك، وفوق كل ذلك،
ليعمق الشيء الأساسي ليرسخ، في قلب علي الحوات.
سيبرهن أن اليوم، وأن غد
على أنه العبد الأكثر طوعا والأكثر ولاء لسيده، وعلى أنه.. آه، على أنه الإنسان الأوفى.
-22-
جمع ريس قرية الأعداء الأنبياء
والمرسلين والعلمء والحكماء، وطرح عليهم المسألة.
القصر صار يهاب أكثر من ذي
قبل مدينة الإباء، انه رغم التنكيل بعلي الحوات، لم يستطيع أن يستولى على الجواد و
البغلة، مع انه في أشد الحاجة إليهما.
لقد تحقق الهدف الأول الذي قدرناه حين اعرنا علي الحوات الجواد والبغلة. بقى أن يتحقق الهدف الثاني.
ينبغي أن يعلم الرعية بما في ذلك المخصيون
والصوفيون والمتحفظون بأن القصر أضحى في عجز عن التعرض حتى لدواب مدينة الأباة. انه في حالة انهيار كبير.
وبالنسبة لنا يجب أن نكشف أولا عن سر هذا الموقف الشاذ
من القصر. نعم، فمن الجائز جد، ومن المتوقع، بل كان من المؤكد أن يعاقب علي الحوات
على هديته.
أما أن يعاقب ويطلق صراحه فهذا أمر غريب بحق.
أهي شفقة، أم هو عطف، أن
القصر لا يمكن أبدا أن يعرف شفقة أو عطفا. لعطف والشفقة لا يدخلان قلوب اللصوص إطلاقا.
كيف يشفق أو بعطف اللئيم.
لو أن علي الحوات تحدث،
لو أنه قال كلمة واحدة. لامكن لنا أ، نبنى
خطتنا بوضوح كامل.. كيف يسم القصر لنفسه، بارتكاب مثل هذا الخطأ. كيف يشوه حواتا
خيرا ، ثم يتركه يعود إلى السلطنة ليكون شاهدا على الطغيان والجبروت.
لعله يبيت أمرا خطيرا..
يجب أن نعلم حقيقة هذا الأمر بأسرع ما يمكن، حتى نتفادى كارثة الكوارث. على كل،
القصر لم يبق في وضع يمكنه من إلحاق الكارثة الكبرى بالرعية، خاصة بعد عملية غابة
الوعول، والغموض السائد ول مصير السلطان، إنما يمكن أن يأتي عملا، يمكنه من تحديد
أجله أكثر.
أن تحذم اليد اليمنى
لحوات تقدم بأجمل سمكة، هدية للسلطان فهذا معقول جدل. أما أن يترك حرا طليقا يتجول
في السلطنة، فهذا مالي بالمعقول. خاصة وأن الأمر يتعلق بعلي الحوات. علي الحوات
الخير الطيب ابن قرية التحفظ، علي الحوات الذي عرف في القرى السبع، وخطب في كامل
الساحات، واستقبل بأقواس النصر والزغاريد، علي الحوات الذي وهبه المتصوفون
عذراءهم، واستضافه الأباة في مدينتهم، علي الحوات في القصر.
قال نبي الأنبياء، فأجال
رئيس القرية نظرة على بقية الأنبياء مستفسرا موقفهم، فأشاروا جميعا، بحركات من
رءوسهم، إلى أنهم يوافقون النبي الأكبر.
وعندما التفت إلى المرسلين
، قال كنيرهم:
المسألة تتعلق بإنذار ،
وليس بعقاب. رأى النبيين صادق.
جال بصر رئيس القرية في باقي
المرسلين، فكان جوابهم التصديق لما جاء في كلام الانبياء وكبير المرسلين،
لما آتى دور العلماء اعتدلوا في أماكنهم، واستعدوا لإعطاء آرائهم.
المسألة فيها احتمالا
كثيرة، وكل ما أعطى من آراء فيها إلى الآن صحيح. أن المعطيات الأولى، وأهمها أن
القصر سمح بظهور علي الحوات وبمروره على القرى السبع، بما في ذلك مدينتنا الأبية،
وأن علي الحوات رغم أنه لا يحمل الرشى، تمكن من المرور على مراكز الحراسة السبعة،
ووصل إلى مكتب الحج تأكد ذلك.
ماذا جرى في مكتب الحاجب
بالضبط.
هذا مالا يعرفه سوى
الحاجب وعلي الحوات، ألا أن النتيجة العملية لكل هذا. أن علي الحوات أنذر كما قال
المرسلون، وأن هذا الإنذار في حد ذاته عطف كما قال الأنبياء.
وبصفتي عالما، أرى أن المسألة
فيها توجيه لعلي الحوات نحو التصوف..
القصر، يقول لجميع
الخيرين، في شخص علي الحوات، إذا كنتم حقا تحبون السلطان وتكنون له الولاء التام،
فما عليكم إلا اتباع أهل قرية التصوف والانضمام إليهم.
إنه حاول أن يفصل علي الحوات عن قريته الأولى حتى لا يزداد، قومه تحفظا عن تحفظهم، ليلحقه
بالمتصوفين، ليكون هو وزوجته قادة لهم، حتى ينجبوا المبصرين.
لو احتفظ القصر بعلي
الحوات، ماذا ستقول الرعية؟
إنهم لا يفهمون معنى انضمام علي الحوات إلى الحاشية
. والقصر نفسه يهمه أن تحافظ الرعية عل اعتقاد أن لا خير في القصر .
أنهم يفهمون أن انضمام علي
الحوات، إنما كان لهدف خير نبيل، فيروحون يتطلعون إلى التغيير، وأن القصر ضد هذا
الاتجاه الذي هو اتجاه أنصار الظلام، واحد أهداف مدينتنا الأبية أ,لا وقبل كل شيء. إذا ما تصوف علي الحوات،
وهذا جاز جدا فماذا سيقول الناس؟ سيقلون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن
الخير كل الخير في التصوف.
أنا كعالم،أقول أن القصر
هنا، يلعب على شعرة جد رفيعة وأن علينا أنبياء ومرسلين وعلمان وحكماء أن نحذم هذه
الشعرة، مثلما حذم القصر يد علي الحوات.
بعد أن أنهى العالم الأول
عرض رأيه، تقدم باقي العلماء بآرائهم وهى لا تختلف كثيرا عن الآراء المقدمة ألا في
الصيغة، وأن أضافوا شيئا فهو إبراز مسألة هامة بالنسبة للأعداء
بروز علي الحوات وما صحبه
من الأول إلى الآخر من أهم العوامل التي يمكن أن تساعد على هدم القصر.
لا فائدة من الإغراق في التفاصيل،
ومعطياتها ونتائجها وظواهرها إنما لابد من النظر إلى القضية في مظهرها الكلى.
علي الحوات وسمكته. علي
الحوات ويده. علي الحوات والقرى السبع. هذه هي القضية، وهى كما ترون لا تساعد
القصر على مواصلة التدجيل، أو مواصلة الإرهاب، أو تشتيت السلطنة. ينبغي العمل
بأسرع ما يمكن لإنضاج الثمرة التي أعطتها هذه العملية.
كانت هذه هي المسألة التي
جاءت في آخر عرض العالم السابع، ولما استعد الحكماء السبعة لإعطاء إرشاداتهم وخطط
العمل للمستقبل القريب قال الرئيس:
أيها الحمكاء،حين تفكرون في
أعطاء الإرشادات وتوجيه النصائح وفي وضع الخطط والمشاريع، لا تنسوا باقي القرى الست كما لا تنسوا حركة أنصار الظلام
التي نحن في حلف معها.
أ، عملنا ينبغي أ، يكون
وطنيا وليس إقليميا، صحيح أن المهمة الأساسي في المرحلة الحالية تعزيز دعائم
مدينتنا وتقوية أمنها إلى درجة يستحيل فيها القضاء عليها مهما كان العدو ومهما
كانت قوته.
لكن الأمن الحقيقي للأباة
هو القضاء النهائي على اللصوص واللأماء الموجودين في القصر.
-23-
لابد من مؤتمر.
قال مسئول الاتصال في رسالته
الشفوية التي أرسلها لجميع الأنصار، في جميع القرى، وبعد يومين، كان الممثلون حسب
عدد المهيكلين من كل القرى وحتى القصر، في وادي الظلام، يتداولون المسألة.
فتح المسئول المؤتمر،
بعرض واف لمسألة علي الحوات من أولها إلى آخرها، وقال في الخلاصة:
-أن مسألة على الحوت، ينبغي
ألا تفصل عن مسألة تحول السلطانة، ومسألة الجنس في القصر، ومسألة استيلاء اللصوص
على الأمور ومسألة تردى الرعية. ومسألة استيلاء اللصوص على الأمور ومسألة تردى
الرعية. ومسألة معاملة حرس القصر لنساء الخصيان المسكينات، ومسألة الليلة الثامنة في غابة
الوعول،ومسألة انقطاع اتصال السلطان بنا، ومسألة استيلاء المجهولين الملثمين، على
أهم المناصب في القصر، وأخيرا مسألة علي الحوات بذاتها.
منذ عصور طويلة، لم يتقدم
وحد من الرعية، ليثبت ويؤكد صفته، ولقد كشف علي الحوات، عما كنا نعمل على كشفه
منذ تسع وتسعين سنة. أثبت أن القصر شيء، وأن الرعية شأ آخر، وأن نظرة القصر إلى الرعية،هي نظرته إلى الماشية والطيور
والخنافس والدواب، وغير ذلك، مما خلق ليؤدى له خدمة، وليس ليتلقى منه خدمة.
أيها المؤتمرون، أيها
القادة، أيها الممثلون للضاغنين في كل مكان المسألة دقيقة، والمرحلة حرجة، فقرروا
ما تمليه عليكم ضمائركم.
أهاه، نشيت أن أقول لكم
أ، القيادة العليا لحركتنا أ,فدت من أعلم علي الحوات، بأنفي إمكمان حركتناأن تجعل منه
سلطانا وكانت مرامينا من وراء ذلك معرفته، فرفض لقد كان رفضه طبيعيا، فهو ليس
مغامرا أو دجالا أو طماعا انتهازيا.
هذه المسألة أيضا،
أجعلوها في اعتباركم.
نهض ممثل أنصار القرية الأولى،
فقال أن المسألة تاريخية بحق، وأن بين ما ينبغي تحقيقه من مكاسب، جعل أهل قرية
التحفظ يخرجون من نحفظهم، وجعل هذا التحفظ يتحول إلى موقف عدائي واضح، مثل موقف قرية
الأعداء، وأشار ممثل قرية التحف إلى أن علي الحوات بمرور على القرى السبع، أعطى
للحركة سلاحا كبيرا.
قام مندوب القرية الثانية،
فألقى كلمته التي جاء فيها، أن القضية نضجت، كما ينبغي أن يكون النضج، وأنه يجب
استغلالها بأسرع ما يمكن، لقد تجسد الرعية الجاهلون البلدان المغفلون ف شص علي
الحوات، ولقد تمكنوا عن طريق علي الحوات من الإطلاع عن الحقيقة.
لا أمل، لا أمل، السلطان انتهى،
القصر انهار، يجب العثور على سلطان حقيقي، وينبغي إقامة قصر على أسس سليمة.
وما يتوجب الوصول إليه في أسرع وقت تحويل احتجاج
القرية الثانية، قرية الاحتجاجات، إلى رد فعلى. يمكن أن يحمل أهل قرية الاحتجاج، وفي
مقدمتهم الأنصار، السلاح، وأن يعلنوا الحرب والعيان ضد القصر.
اعتلى صخرة الخطابة،
مندوب أنصار القرية الثالثة قرية التساؤلات، من أهم ما جاء فى كلمته: "أيها الأنصار،
أليس ظهور علي الحوات أهم من انهيار القصر، ألسنا في حاجة منذ فترة طويلة إلى علي
الحوات.
قد تقدم إلى القصر باسم
الرعية كلها، كما زعم قائلا، أيها القصر أننا موالون لك، نحن لا نعلم من مظالمك
وجبروتك ومآسيك شيئا، فهذه يدنا ممدودة تبارك سلامتك. فما كان من القصر ألا أن
قطع، كما تعلمون، تلك اليد.
هل السلطان موجود؟ لا أحد
يدرى، لكن يمكن إقناع الرعية بأنه لا يوجد في القصر سوى الأعداء وأن السلطان
اغتيل، منذ زمن طويل.
يجب أن تجد قريتي الحائرة
الأجوبة عن كل أسئلتها التي بقيت مطلقة منذ عهود طويلة.
قام ممثل أنصار بنى هرار،
فدعا كغيره إلى عمل عاجل، ثم قال على الخصوص، لا بأس من إعلان المبايعة لعلي
الحوات سلطانا رغم أنفه. ليركز العامة انتباههم حوله، فيتحولون حوله عن القصر بالتالي.
أنا متأكد من أنه لا
سلطان في السلطنة أطلاقا، وأن اللصوص وحدهم، هم الذين يسيرون الشؤون وأي تسيير كما
تعلمون.
إن قرية بنى هرار، انحنت لأول
مرة في تاريخها، ولم يكن الانحناء
لأحد، سوى لعلي الحوات. لقد استقلته هو وسمكته استقبالا
حسنا في حين كنا نخشى عليه، ويبدو لي أن بنى هرار مستعدون للتضحية في سبيل علي الحوات وبالتالي في سبيل القضية كلها.
عندما جاء دور مندوب قرية
التصوف، قال مسئول الحركة يخاطب الجميع:
أن مندوب قرية التصوف،
يحمل معطيات جديدة، انتبهوا لها، أيها الأنصار.
اشرأبت الأعناق تبحث عن
الخطيب. قام شاب ملثم، على عينيه عصابة سوداء اعتذار في الأول، عن عدم إبراز
ملامحه، الظروف قاهرة يعلمها المسئول، ثم قال بالحرف الواحد:
المتصوفون يجتازون أحرج
لحظة في حياتهم، أنهم موزعون بين التصوف وبين التمرد، أو على الأقل، الرفض في مسألة
علي الحوات.
أنهم يستنكرون وهذا أهم
حدث في الرفض ف مسألة علي الحوات.
لقد يستنكرون وهذا أهم
حدث في القرية وأهم خطوة نحو الرفض.
لقد رأوا في منامهم حلما
عجيبا، رواه كلهم في ليلة واحدة، ولربما في لحظة واحدة. لم نستطيع أن نصل إلى تفاصيل
الحلم، وكل ما تمكنا من استنتاجه، هو أنهم ربما رأوا رأس علي الحوات لحوم، وعليها
تاج نوراني عظيم.
اللهم أنهم أحبوا عل
الحوات ورفعوه إلى مرتبة الأنبياء، وهناك من يرى فيه أصل النور الشعشعاني.
أما فيما يتعلق يعلي
الحوات ذاته، فقد لفظ كلمة لها مغزاها، قال"سأحدثه فيما يأبى الاعداء أن يعلمه".
نعم، أن علي الحوات واثق من وجود أعداء داخل القصر. هذا هام جدا.
شيء آخر ينبغي أن تعلموه،
وأن تضعوه في الحسبان، وأنتم تصوغون القرارات، علي الحوات نذر مرة أخرى، سيصطاد
باليد اليسرى، وسيهدى أجمل سمكة يصطادها إلى جلالته… علي الحوات لا يركن إلى التصوف كما
رغب القصر، إنما يبدأ من جديد، وفي صمود. لاشك أنه اكتسب تجربة وبرة، وأه سيستفيد
منهما، وبمساعدتنا، بالتحالف مع أهل قرية الإباء، يمكن أن تتحقق نتائج سياسية
كبيرة.
قدم باقي الممثلين آراءهم
ومقترحاتهم، وتشكلت لجنة، صاغت قرارات عديدة أهمها:
أولا: تشكيل لجنة متابعة
لعلي الحوات، ومواصلة الحوار معه في شأن السلطنة.
ثانيا: تشكيل لجنة عمل،
تتصل بمدينة الإباء.
ثالثا: العمل بسرعة، على نشر المأساة في كامل
السلطنة وبين كامل الرعية.
رابعا: دعوة كل القرى إلى
إرسال وفود لاجتماع يعقد في المستقبل للنظر في المسألة.
-24-
أرسلت قرية الأعداء في صبيحة
اليوم التالي، مع من قدم لاستعادة الجواد والبغلة، دواء يخفف عن علي الحوات آلامه،
وعرضا،إلى المتصوفين بمعالجة عيون بعضهم مجانا، والباقي بثمن متواضع.
سر علي الحوات للدواء
أيما سرور، وطلب من المبعوث أن يبلغ سعادة الرئيس، أجمل تحياته ودعوته إلى حفل
الزفاف الذي سيقام قريبا.
أما المتصوفون، فقد رفضوا
أن تعاد أليهم أعينهم.
قالوا لقد رضخنا تحديا،
لعملية فقء الأعين، ونحن ل ناسف لذلك أبدا، وبالعكس، فقد صار النور الشعشعاني الذي نراه أقوى من ذي قبل، وأن الذروة اللامتناهية، هي الآن أعلى من ذي قبل.
أن يرى المرء، أو أن لا
يرى. أي فرق في ذلك. أما أن يرى أشياء ثابتة، أو أن يتوهم بأن تلك الأشياء الثابتة
يمكن أ تكون تحولت فهنالك فرق كبيرة.
أحسن تحدى للطغاة، هو أن
لا يبقى أمامهم من يسلطون عليه طغيانهم وحبذا لو تتقدم إلينا مدينة الإباء بعقار
نضعه في بئرنا، ليتسمم ماؤنا فنموت أجمعين، لينفض للطغاة مجال من مجالين نفوذهم.
التأم جرح علي الحوات
بسرعة، فقرر أن يدخل على العذراء، عريسا كما وعد المتصوفين، ثم يرحل لمواصلة
انتظار تحقيق النذر الثاني. أجمل سمكة، أجمل حتى من الأولى. إلا أن وصول وفدين
واحد من قرية الأعداء والآخر من حركة أنصار الظلام، غير بعض الشيء في برنامجه.
بدل ، أن يقام فل الزفاف في
اليوم التالي، يؤجل إلى الأسبوع القادم، لنتمكن القرى السبع من إرسال ممثليها..
لم تعد نحيا لنفسك وحدك يا
علي الحوات، فكل الرعية لها نصيب في حياتك وفي مصيرك قال رئيس وفد حركة أنصار
الظلام، وأضاف رئيس وفد مدينة الإباء:
يا علي الحوات، كل القرى
أحبتك، كل الرعية أحبوك، الجميع، أنك أين السلطنة كلها، رغم أنف القصر. فليكن عرسك
هو عرس الجميع.
وتدخلت العذراء بدورها، ولتقول لعلي الحوات:
أنها مشيئة الأقدار،
فلكن، ليكن عرس عذراء المتصوفين وعلي الحوات عرس الرعية كلهم.
ثم التفتت إلى أهلها
المنبثين في الساحة جماعات جماعات، يبكون وينوحون ويضحكون. وقامت خطيبة فيهم:
سيدنا ومولانا، سيجعل
قريتنا دار ضيافة لأعيان القرى الست. قرر أن يكون العرس يوم الخميس القادم، ليتمكن
الجميع من حضوره، وسيدنا ومولانا يأمركم بأن تتخلوا عن الحزن طيلة الأيام القادمة،
كما يأمركم بأن تتراجعوا عن قراركم في شأن عرض الأباة..
يقول سيدنا ومولانا، ليس
أكثر تحديا للطاغي من أن يحدق الضحايا فيه. لنتفق مع الأباة في ثمن استعادة النظر،
وفي الأجل الذي يمكن أن يتموا فيه العملية في كامل القرية.
الرأي ما يراه سيدنا
ومولانا، نحدق في الجبابرة، تصوفا، ليتقدم سبعة شبان إلى مدينة الأباة لمعالجة
المجانية، فعلي الحوات والقرية كلها في حجة إلى عضد من الشباب. وليعرض علماء مدينة
الإباء ثمنهم، وسنقبل به مهما كان.
رد شيخ المتصوفين قام
رئيس وفد قري الأعداء وخاطبهم:
العملية تستغرق يومين،
سنرسل ألف حكيم مع ألف معين، والمسألة لا تتعدى حقنة بدواء خاص، وشك عرق معين لارسال طاقته إلى باقي عروق الأعين.
علاج كل شخص يتطلب من الوقت ساعة لاغبر. من حظكم أن وصل علماؤنا إلى هذا الاختراع،
أثناء بحثهم المتواصل في أمر إحياء الحاسة السابعة عشرة أنهم لم يكشفوا هذا العلاج
إلا منذ يومين.
أما الثمن الذي نطلبه
فزهيد، لا يتجاوز ما يلي: زيارة كل من لم يتجاوز الثلاثين لمدينتنا للإطلاع على أوضاعها، والسماح لحكمائنا، بإلقاء خطب في ساحة قريتكم
مرة كل أربعة أيام، لفترة ثلاثة أشهر.
قالت العذراء.
ندفع لكم هذا، دون أن
تردوا الأعين لنا أيها الأباة. إن طلبكم متواضع.
وتفرق الجميع لنتناول
العذراء، يد علي الحوات اليسرى، وتصعد به إلى برج الرقابة، وتروح تتأمل معه، الروابي
الجرداء، القائمة الواحدة إلى جنب الأخرى، على مسافة كبيرة، وكلما ناب اكتسبت لونا
جديدا، حتى تتحول إلى مجرد كوم من الضباب.
سيرى قومي هذا المنظر بعد
أيام.
سيرونه مرة أخرى، لاشك
أنه راسخ في أذهانهم.
نعم.
أنا لم أفهم موقفهم.
بل انك فهمتهم. لقد قلت
البارحة، أن هناك قاسما مشتركا بين الحواتين والمتصوفين.
إنهم يعالجون الأمر بالأسى.
هل ترحلين معي إلى قريتي،
أم تبقين هنا حتى افرغ من مسألة النذر الثاني هذا.
يا علي الحوات، يا زوجي العزيز، ويا سيدي ومولاي، هل لي أن أسألك، لم لا تترك أمر القصر والسلطان جانبا، مثلما فعل أهل
قريتك، ويفعل أهل القرى السبع.
سأصل هذه المرة إلى جلالته،
يا عزيزتي. لقد عرفت كيف يختصر الطريق. لن أضطر هذه المرة لا إلى انتظار طويل، ولا إلى استنطاقات
مطولة، أو إلى غسل أسناني بالملح والنخالة. في المرة الأولى، طلبت من أهل
القرى السبع، تقدي هدية لجلالته فرفضوا، وسيعينونني هذه المرة، بأسرع ما يمكن.
من حسن حظي أنني لم أبق وحدي وأن ورائي
أناسا كثيرين، من ضمنهم أهل قرية الأعداد وأنصار الظلام، وقريتكم، وغير ذلك.
أشعر أنني قد تضخمت سبع مرات. ولم
أبق علي الحوات القديم.
-25-
قريتنا تحاصر.
قالت العذراء لعلي الحوات
فراح يتبين مع خيوط الظلام، القمم والروابي، وسفوحها.
لا أرى سوى الغبار.
نعم أنهم يحفرون في كل
قمة ، تراهم من يكونون.
اليوم موعد حضور أطباء
قرية الأعداء.
نعم اليوم، لكن يا مولاي أتأذن لي أن أسألك، لماذا تصر على استعمال الصفة، التي يطلقها القصر عن الأباة.
إنهم كما رأيت طيبون القرية الوحيدة التي أعارتك جوادا وبغلة، وأخيرا القرية التي أرسلت
المرهم لذراعك. ثم بالنسبة لنا المدينة الأولى والأخيرة التي تتوفر عن الدواء لعمياننا.
إنني ما أزال علي الحوات،
الذي نذر مرة ثانية ليبرهن عن رعيته. لا أريد أن نرجع إلى حديث البارحة ، قبل
البارحة.
أمرك سيدي ومولاي.
أجابت العذراء، وهى تدفق
النظر في الروابي الجرداء المحيطة بالقرية.
كان الغبار يتصاعد أكثر،
وكان بياض الصبح، قد بدأ يكشف عن أشباح تتحرك بسرعة عجيبة.
ظل علي الحوات بدوره، يحدق
في المنظر، مندهشا. القرية تحاصر علي الحوات بدوره الحصار عليها، فما من بقعة من
الربا المحيطة، إلا وينبعث من قمتها ومن أسفلها الغبار. إنهم يحفرون الخنادق على
ما يبدو.
رغم محن قريتنا، فإنها لم
تشهد عدوا من هذا النوع. انه عدو يقيم في حين كان الطغاة والجبابرة الذين
يهاجموننا، يعبرون من هنا لا غير، لعلهم أصحاب القنافذ. لعلهم الفرسان الملثمون
بلغهم نبأ اتفاقنا مع الأباة فجاءوا يبيدونها.
لعلهم جاءوا يفسدون
عرسنا.
من يدرى كل شيء جائز، هذا
العرس دبره الأعداء، وأنصار الظلام. أنا غير مطمئن إليه في الحقيقة. ففيه الكثير
من التحدي لجلالته، أو بالأصح للقصر. لكن الأقدار هي التي تدبر تحركاتي وتصرفاتي منذ لحظة النذر الأول.
لو لم نتعاهد، وأنت تعرف
العهد الصوفي، لحدثتك عن الحلم يا
مولاي، آسف جدا، لكن كما قيل لك فانك بعثت لتقيم الحجة، بعثت لتجعل الناس يفهمون، وليس لتفهم الناس.
نعم، وحسب حلمكم، فانه لا
يمكن أن يفهم المتحفظون، والمتسائلون
والخصيان، وبنو هرار، والمتصوفون، والأعداء، وأنصار الظلام بسهولة. هكذا بدون ثمن
باهظ.
ربما كان ذلك يا مولاي.
حتى ننجو أولا من هذا
الهجوم الذي بدأ.
سننجو سننجو، أنا لى غربإلى
اتخفي تحنه، وانت غريب ول يمكن أن تهاجم، ولعلك تختفي معى تحت الغربال، أما قومى،
فلم يبق ما يمكن أن يؤخذ منهم.
الشرف افتقدوه.
الملح افتقدوه.
القنافذ جمعوها.
البصر دفعوه.
لن ينال منهم عدو شيئا
بعد، انهم أشد حصانة من كامل أهل القرى السبع.
لكن يأخذون منهم ماتبقى،
حياتهم.
ان ينال منهم عدو شيئا
بعد، أهم أشد حصانة من كامل أهل القرى السبع.
لكن يأخذون منهم ماتبقى،
حياتهم.
أن أمل الصوفي الاكبر، أن
يدفع حياته ثمنا للتحدى الاكبر. أية بطولة، وأية شجاعة، وأية فروسية، يمكنلها أن
تواجه صوفيا أعمى، لتأخذ منه الحياة.
لاياسيدى ومولاى لا.
يأخذون منهم على الاقل،
الامل الذي بعثه وفد قرية الأعداء في نفوسهم.
الصوفي ياسيدى ومولاى، لا
يهمه استرجاع مافقد، ولاتهمه معرفة ماعرف… الصوفى، يجرى خلف البرق الومض، الذي ينبعث في الشرق ليتفي
في الغرب.
يجرى الصوفي خلف البرق
الوامض ليمسكه.
لس له الوقت الكافى،
للجرى خلف السلاحف.
الغبار يقل، بل أنه يخفت في
روابي كثيرة، والاشباح تهدأ، هؤلاء قوم عتاة.
يقين أنهم غرباء، يجلون
أن من يتحصنون ضدهم عمى. أنهم دخلاء على السلطنة مافي ذلك ريب.
تأمل علي الحوات أنهج
وشواع وساحة القرية فبانت له من على البرج، أشبه ماتكون بمقبرة، يسكنها الثعالب.
وعجب للاقدار التي ساقته إلى هنا، وشاءت أن تجعله يستقر هنا، بهذا الشكل.
من هذا القرية تتزوج يا
علي الحوات، تتزوج العذراء الوحيدة في القرية.
عذراء متصوفة .
لم ينب عنها أب أو أخ أو
أم، أو قريب. كل لمتصوفين آباء وأخوة وأقارب وأولياء لها.
نعم في هذه القرية التي ألقى
بك، مغى عنك لتستيقط على بكاء الصوفية، المر.
في هذه القري تشهد معجزة الأعداء
وهم يعيدون البصر مجانا لمئات آلاف العمى.
في هذه المقبرة، في هذا
الهجير، تقرر أن يلتقى أعيان القرى السبع، للاحتلال بزفافك.
لكن ها أنت تحاصرز نعم
تحاصر وحدك. فلا أحد في الهجر يستحق كل هذا العناء غيرك. العذراء زوجك المبصرة
الوحيدة هنا، هادئة مطمئنة.
غربالها يجعلها تطمئن.
فيم تفكر يا علي الحوات؟
أتساءل لم تزوجتنى؟
لقد أحببناك يا علي
الحوات، أحببناك يا مولاي، قبل أن نراك، أحببناك حلما صوفيا رائعا.
وأنت، أنت أيتها العذراء
الوحيدة. هل تحبينني؟ هل أحببتني أعني؟
وهل تسأل عذراء، وحيدة
بين المتصوفين والمتصوفات، هل أحبت علي الحوات؟ أية العصر، وسمته.
أحمرت وجنتا العذراء
فالتفتت إلى الجهة الأخرى وأفسحت المجال للصمت.
" وهجا كان تفتق عنه
قطب الأقطاب، دار على الأرض سبع دورات، محفوفا بالحوريات والجنيات نزل بالوادي،
تشكل على رأسه تاجا باهرا، طاف على القرى السبع، حملها بين ذراعيه، وضمها إلى بعضها،
هوى قطب. ذاب جبل، تحول هو والتاج إلى وهج، وأرتفع إلى عنان السماء".
كانت العذراء تناجى نفسها
في حين راح علي الحوات يبحث في زوايا قلبه، عما علق به خلال الرحلة.
"لا، لم يعلق بالقلب
المنكسر شيء، لا بغض ولا ذل ولا جشع أو طمع. القلب الكبير، ازداد كبرا. النهر
الممتلئ، زادت الروافد في امتلائه. الشقوق التي على الأرض، ملأها السحساح، أردت
أيها الخير، أن تبعث السرور في نفس جلالته، بعد غم الأعداء، ومع أنك لم تصل بعد.
وهبت الأقدار السرور إلى قلبك سنزف لك أجمل عذراء في القرية التصوف، وستحضر
السلطنة زفافك. أن فقدت بدا، فانك اكتسبت خبرة. معدن قلبك، من أنقى المعادن،
فلتهنأ، لتهنأ، فما القدر إلا قلبك".
النهار طلع، ولا أثر لأشباح الروابي. لقد تخفوا في الخنادق والمغاوير التي حفروها. أمر هؤلاء الغزاة عجيب.
أنهم على ما يبدو يكمنون ولا يهجمون.
سيزودنا النهار بالحقيقة
.
-26-
كيف تمكنتم من الدخول إلى
القرية المحاصرة؟
سأل المتصوفون رئيس وفد الأطباء،
حال وصوله، ابتسم رئيس الوفد وقال:
أتعتقدون أن الأباة
يغامرون بألف طبيب وألف معين، يرسلونهم دون حماية ورعاية، في مملكة الظلم، قرية
الصوفية غير محاصرة كونوا مطمئنين.
كل ما هناك، أننا نصبنا
حراسة خفيفة لإنذارنا في حالة هجوم الطغاة.
شرع الوفد الطبي في عماه،
استهلت العملية بصفة رمزية. تقدم الشبان السبعة الذين اختيروا للعلاج المجاني،
أعطاهم كبير الأطباء حقنا، ثم قدمهم لمساعديه لكي يشكوا لهم العروق كما هو معلوم
لديهم.
استعينوا بإرادتكم، وإلا تأخر مفعول الدواء
ولربما بطل. أيها الصوفية، ليس أجل من أن يكون المرء مبصرا.
قال كبير الأطباء، ثم
أشار إلى علي الحوات والعذراء كي يقولا كلمات تشجيع.
نعم، كما قال كبير أطباء الأصدقاء،
فانه ليس أجمل من أن يرى الإنسان الأشياء، مهما كان الإنسان صوفيا، فانه نظر
العينين، إلى جانب التمعن بالبصيرة، من أعظم ماخص به الإنسان.أيها الصوفية
المضطهدون، أن استعادة البصر قهر لمن أفقدكم إياه.
قالت العذراء، ثم أشارت إلى
علي الحوات الذي بادر بدوره، ليقول كلمة تشجيع لمساعدة العمي ، فكر جيدا، ثم قال:
أيها الصوفية، أقهروا
أعداءكم بالتحديق فيهم.
لم يجب المتصوفون كانوا في
غيبوبة كبرى، حسبما أنبأت العذراء. ارتفع صوت فارس قدم لحينه:
-
الطغاة، الطغاة. لقد قدموا من جهة المواقع الوسطى في الشمال.
أسرع رئيس الوفد باصدار
الاوامر للاطباء والمعينين بامتثاق سيوفهم، واختيار أسلحتهم لرد العدوان في حالة
ما إذا طلبت مراكز الحراسة النجدة.
جاء فارس ثان، يعلم أن
الطغاة قدموا في ألف فارس، وأنهم كلهم ملثمون،اما أسلحتهم فهى النشاشيب والسيوف
وبعض البنادق.
قدرنا أن يكون الهجوم
الاول بهذا العدد، وهذ العدة، لايهم.
قال رئيس الوفد لمعينيه في
حين ولى الفارس راكضا.
الشمس، الشمس، الوهج في قلب
السماء. أيها الصوفية، ما أجمل واعظم ذلك.
صاح شاب، استعاد بصره،
وهو يتناهض، فاتحا ذراعيه، مادا يديه. أصابعه متقلصة، كأنما هو بصدد خنق غيره.
دار في الساحة عدة دورات،
ثم سقط على وجهه، يخفي عينيه المبهورتين.
قام ثان يجرى دون هدف
معين، وهو يهتف.
النور الحقيقىن النور
الحقيقى، يسطع باهرا أيها العميان .
أفاق العميان من الغيبوبة
الكبرى، وهتفوا جميعا:
نعم باهرا. يسطع باهرا،
نحن أيضا رأيناه ونراه وسنظل نراه.
أنهمك الاطباء ومعينوهم في
العمل، وظل رئيس وفدهم، يترقب اخبار المعركة التي تجرى على الروابى، صعد صحبة
العذراء وعلي الحوات إلى البرج، وراح يرقب العملية.
كانت مراكز الوسط
مشتبكة مع جيش الطغاة بينما بقيت المراكز الأخرى
ساكنة. كانت هذه هى الخطة. اخفاء خطة الدفاع عن قرية الصوفية. جاءوا من الوسط
فليموتوا في الوسط.
ليموتوا كلهم ولا يسلم
منهم أى واحد، وإذا ماجاء جيش ثان لهم على جهة أخرى غير هذه فلتشتب معه مراكزها.
المعركة غريبة كما لاحظ علي
الحوات والعذراء.
الغزاة الملثمون، تخلوا
عن هدفهم الرئيسى، وهذا ضعفهم. انهم بدل أن يسعوا إلى اقتحام القرية من جهة أخرى،
راحوا، وكانما اسثيروا، ويحاوون انزال العقاب بمن استفزوهم. بهؤلاء اللذين أجازوا
لانفسهم التعرض لهم.
صارت المراكز هى الهدف
الرئيسى من المعركة. والمراكز تقاوم، بأسلوب عجيب،انها تهمد ولا ترد عن نار الغزاة
ونشاشيبهم ونبالهم حتى يقتربوا منهم، فيقابلونهم بمقومة ضعيفة، حتى يستدرجوهم
أكثر، فيشددون الهجوم، وما ان يتجمع عدد كبير منهم أمام المراكز، حتى يبادوا بسلاح
عجيب، ولا يرسلون دخانا أسود، يغم المهاجمين فيسقطون فقدين لوعيهم، هم وجيادهم،
ليسرع اليهم رجال من الخنادق والمغاور يرتدون الاصفر الفاتح فيوثقونهم بالحبال
ويشدونهم إلى بعضهم وينزعون عنهم الالثمة ويتركونهم، ليتولوا أمر الفوج الجديد.
أشتد غضب قائد الطغاة،
فأمر النصف الباقى من جيشه، بأن يهجم دفعة واحدة ويحطم المراكز، ويفك أسر
الموثقين، ويستعيد جيادهم التي هربت إلى الوهاد والعشاب.
لم تدم المعركة طويلا.
انبطحت جياد الطغاة أمام
المراكز، وتساقط الملثمون، كالشياة المذبوحة، بعد أن لفهم الدخان. تقدم منهم
الرجال الصفر وشدوا وثائقهم.
انكم لاتغلبون. من أجل
هذا سميتم الأعداء.
نعم. لانفلت إذا
ماهوجمنا. لذا فنحن أباة. لو لم نكن أقوياء لما احترم القصر جوادنا وبغلتنا اللذين
أعرناهما لك، في حين أنه يعلم أنها لنا.
رد رئيس الوفد على تعليق علي
الحوات، باعتزاز واعتداد واشار إلى العذراء، أن تقودهم إلى الساحة حيث يجرى
التلقيح، والك لاستعادة الصوفية لنظرهم.
كانت العذراء، تسير ببطء
وبتثاقل،فقد غمرتها أفكار وصور وأخيلة كثيرة.
لم تعد قرية التصوف، رمزا
للتحدى المنفتح.
لقد صار الطغاة يركعون
أمامها. سيستعيد بعد يومين كافة متصوفيها نظرهم، وستأنفون مواجهة الاشياء بأشكالها
وألوانها وخصاصها.
سيضع القصر علامة استفهام
كبيرة، أمام قرية النصوص، قبل أن يقرر هجوم الانتقام عليها.
سيبيدوننا هذه المرة.
نعم. يعالجنا أعداء
القصر. يقوم شبابنا بزيارة قرية الأعداء، يأتى الحكماء. لالقاء الخطب في ساحتنا.
يؤسر أمام قريتنا، وعلى
روابينا، هذا كل مافي الأمر.
هل يرضى المتصوفون بالوضع
الجديد؟ هل سيدافعون عنه؟ بأى شكل وبأية صفة، سيحمى المتصوفون أنفسهم من خطر الحق
والابادة.
في اعتقادى سنفرغ من
العملية في ظرف يومين.
قال رئيس الوفد، في آخر
درج البرج، فلم يعلق أحد على رأيه هذا، وبعد لحظة سأله علي الحوات:
وإلى اين يقاد الاسرى؟
إلى مدينة الاباء للترويض
والاستصلاح.
والتثقيف، رسالتنا تتعدى
قتل الأعداء يا علي الحوات.
وطغى على صوته ضجيج قوى
ينبعث من ساحة القرية. كان الصوفية يهتفون.
أيها النور الشعشعانى.
أيها النور الحقيقى، تتحدى أعداءنا أكثر، ونحن نمعن فيك النظر أكثر.
-28-
اتخذ علي الحوات قرارا
مجانيا اعلن عنه للعذراء، وللصوفية في الساحة. سيسرع إلى قريته، ويحمل قصبته،
وينزل الوادى إذا كانت الاقدار تبيت أمرا فستحققه خلال الستة أيام إلى تسبق العرس.
لقد نذر، ولن يتراجع عن
نذره، لم ينذر تحديا، أو انتقاما أو طمعا، إنما عن طيب خاطر. وفي حقيقة الأمر
وواقعه فان النذر الاول لم يف به. لقد أعطته الاقدار أجل وأبهر سمكة عرفت، ولم
يوصلها إلى جلالته. لقد عرقل فلم يصل النذر. الذنب ليس ذنبه على أية حال، وإنما
المسئولية لا تزال مسئوليته. وسيتحملها كما يجب.
سنعيرك جوادا يا علي
الحوات.
قال رئيس الوفد، فتساءل علي
الحوات:
ولم الجواد وحده؟ ألا
تثقون في أنني سأعود بسمكة أجمل من الاولى. إنني في حاجة إلى بغلة أيضا.
نعيرك بغلة أيضا. المهم
أن تسرع، ويتم العرس في وقته.
لن أتأخر أكثر من يومين.
قلبى يحدثنى بذلك.
ولكن يا علي الحوات.
تساءلت العذراء في خجل
فرد المتصوفون عنها من الطرف الآخر.
أيها الوهج طف. فقد قدر
لك أن تطوف سبع مرات.
ما أن غادر علي الحوات
قرية التصوف، حتى انطلق فارسان آخران، واحد أرسله رئيس الوفد إلى مدينته، وآخر
أرسلته لجنة المتابعة. لتقصى أخباره، والتدخل لمساعدته، كما اقتضى الأمر.
سبق الفارس علي الحوات،
ورا يسير أمامه ببطء وتثاقل، في انتظار أن يلحقه، ولما بلغه، را يعمل مافي وسعه
ليجعله بستأنس به.
آهاه. من أين خرجت أيها
الفارس. لقد استدت وحشة الطريق.
وأنت من تكون؟ السفر
يخالف الصيد تماما. بقدر ما يتطلب الصيد العزلة، يتطلب السفر الرفقة.
يبدو أنك صياد ياسيدى رغم
أنني لا أحسن الصيد فإنني شديد الميل لاهله.
أنا علي الحوات. هل بلغك شيء
عنى.
علي الحوات يا ألف أهل
وألف سهل. يالحظى السعيد. أنت الرعية الخير البار الطائع. كل القرى تتحدث عنك،
ذكرك في كل لسان. مواليد كل هذه الايام يطلق عليهم أسمك متى رجعت من القصر؟
لم أصل القصر بالذات.
لم تصل القصر، يقال إنك
اجتزت المراكز السبعة.
لم أصل إلى صاب القصر في الحقيقة.
ياللاسف . رغم الهدية
العظيمة التي تحملها لم تتمكن من الوصول إلى صاحب القصر.
هل اتهت بالسحر، أم
بمحاولة تسميم مولانا؟
لا. كلا.
سكت على لحوات، بعد أن
انفعل، فرأى الرجل، أن من الحكمة ألا يثيره أكثر، ولربما يثير شكوكه. وبعد مسافة
قصيرة، تمتم علي الحوات:
جلالته في خطر. اللصوص
يحيطون بجلالته.
ولكن هذا أمر معروف منذ
زمن بعيد أنا اتجه لى قريتكم أدرس امكانية التجارة.
سنترافق حتى هنالك أدن !
تواصل حديثهما، في شيءون
تبعد عن القصر ثم تقترب منه، وقد تمكن الرجل من التوصل إلى بعض المعلومات عن
الحقيقة، التي ظلت دفينة في صدر علي الحوات. وما أن عثر على أول نصير، حتى كلفه
بتبليغ التقرير الاول إلى اللجنة في قرية التصوف.
بلغتنا دعوتك لعرسك يا علي
الحوات سنرسل خيرة بنى هرار.
لقد أحببنك، اكشف لنا عن
أعدائك، ننتقم لك يا علي الحوات.
قال فتيان القرية لعلي
الحوات وركبوا يشيعونه، حتى التقى بمرافقه الذي ظل خائفا، إلى أن أكد من تصميمهم
على مواصلة اكرام علي الحوات.
ينبغى أن نبتعد قدر الإمكان
عن قرية الخصيان.
هم أيضا أصدقائى أنا لا
أخشى قرية من القرى.
لكن بلغنى أن نساءهم هذه
الايام في هياج كبير. انهمن لم يعدن ينتظرون مرور الرجال بقريتهن، وإنما صرن يحملن
السلاح، وينصبن الكمائن في الطرقان. لقد استولين في المدة الاخيرة على كوكبة من
رجال القصر الملثمين، ولم يظهر لهم من يومها أثر، بل أن القرى المجاورة صارت تتعرض
لغزوهن.
الرجل الذي يقع فريسة بين
أيدى نساء المخصيين، ينتهى إلى الهلاك.
يمتصصن رجولته حتى تنتهى،
فيرحن يمتصصن دماءه، وينهشن لحمه، حتى يبلغن قلبه، فتأكله الواحدة منهن وهى تطلق
الزغاريد.
يجوز أن يفعلن أكثر من
ذلك. فقد مات يوم مروى بالقرية شاب عالم، كان بحكم عقار عجيب اكتشفه، الوحيد الذي
يقاوم غريزتهن.
ما رأيك في الولاء من هذا
النوع يا على الحوت؟
اعتقد أن جلالته لا يرضى
عنه.
انه لا يختلف عن أى ولاء
آخر. الولاء الذي لاحد له ينتهى بصاحبه إلى ماينتهى اليه الخصيان.
حاشا يا علي موإلى لصاحلب
الجلالة.
حاشا يا علي الحوات. إنما
جلالته في غنى عن أى ولاء منذ عهد طويل.
ثمكنا من قطع الطريق، دون
أن يشعرا به، وفي وقت جد قصير خاصة بعد أ، نزل علي الحوات عند رغبة مرافقه في تجنب
الدخول إلى القرى…
وجدا انفسهما عند مدخل
قرية التحفظ والصراحة، حيث كان خلق كبير في استقبال علي الحوات.
اصطحبوه رفقة الغريب الذي
معه حتى كوخه، وأعلموه أن ساحة الاعترافات، ستشهد اعتراف بعض الشبان ظهر اليوم.
ومن غير المعقول ألا يكون
ذلك بدون حضور علي الحوات.
-28-
تجمهر الناس في ساحة
القرية، الناس في ساحة القرية، ينتظرون كالعادة، أى نفس ستنكشف أمامهم، وأى طبع
سيعرض عليهم. أنه لا أحد يبلغ السابعة عشر ألا ويقف في هذه الساحة، ذكرا كان أو
أنثى. المجرم باجرامه، والخير بخيره، العاهر بعهره والدنىء بدناءته.
بعض الجبناء الذين يجون
عن تقديم أنفسهم في الساحة يباعون خدما وجوارى وعبيدا.
تقدم سبعة فتيان، يحملون
ربابا وطبلا ونيا ورقعا وقلما ودواة ونشابا وبندقية، وسيفا وعلما أسود، رسمت عليه
باللون الابيض السمكة التي صطادها علي الحوات.
ماذا توون أن تفعلوا ؟
تساءل شيخ، يبدو انه لم
يأخذ مسألتهم بجد، فلم يردوا عنه وراحوا يتطلعون إلى اعلى النهج، كانما هم ينتظرون
قدوم أحد.
بعد بضع دقائق قدم علي
الحوات وضيفة، فبادره أحدهم:
لم يبق سواك يا علي
الحوات لحضور اول اعتراف من وعه في ساحة الاعترافات.
لا. اعذرونى أممى مهمة
شاقة في الوادى. لقد نذرت مرة ثانية.
رد علي الحوات، فبادره
صاحب الرقاع والقلم والدواة:
ولكن المسألة تهمك يا علي
الوات. تهمك أكثر من النذر. نعم أكثر بكثير.
لم يرد علي الحوات، وهم
بالانصراف. لم يستوقفه الشبان ولم يوجهوا اليه حديثا، إنما، ارتفع صوت الناى، يرسل
حنينا، نحو الوديان، والشعاب، والروابى، وأعلى النخلات المنفردة، واشعة الشمس من
خلف كوى الكهوف والدهاليز والسجون المغمورة.
هذا الحنين حنينى. هذا
الاسى أساى. هذه الاستغاثة استغاثتى.
قال كل واحد من الحاضرين في
سره. بما في ذلك على الحوت ورفيقه:
تراجع علي الحوات، ووضع
مثل باقى التجمهورين يده على خده وراح ينصت بكل جوارحه.
تخلص العازف من الشعور
بسيطرة من حوله عليه، وخلص إلى نفسه يكرع منها. شعر الناس بقلوبهم تعنصر، اعتراهم
ضيق واختناق اعترتهم رقة فحنان. طغى شعورهم بالذنب. طغى إحساسهم بالظلم والاضطهاد،
مرت يد حنون على جراحهم تواسيها.
ما أعظم أن تكون هناك
أخوة ومحبة.
انهمرت دموع الجميع. بكوا
بصمت. خفقت قلوبه أكثر، ارتعدت اوصالهم، ارتفع نواحهم، غرقت قرية التحفظ والصراحة في
مناحة عازفة، فترة طويلة.
بدأ العازف يلف حول
النغمة، ثم يفض الايقاع، وبرفق النغمة، ثم يخفض الايقاع، ويرفق النغمة ثم يخفف من
وقعهاز وبدأت ملامح الصفاء تعود إلى اللحن.
تنهد الناس.شعروا بأن
ثقلا كبيرا ازيح عن أنفسهم، فتركها ورقة بيضاء، يمكن نقش أى شيء عليها. توقفت
عبراتهم، فراحو ينظرون إلى بعضهم، وكأنما كانوا يشاهدون عرضا لعملية الفناء أو
كأنما فرغوا من مواراة عزيز على أنفسهم.
اتدرون ماذا كان يحكى
لكم؟
لا.
رد المتجمهرون على سؤال
صاحب الرقاع والعلم والدواة، فأضاف هذا:
كان يروى لك حديث"
الحمامات، الطوبيات الطالعات فوق النخلات يقولون يا المولى والروح فنات"، كان
يروى لكم حديث قلب علي الحوات، وهو يشاهد يده تحذم، لانها تقدمت بهدية.
هذا كل ماقاله لكم عازف
الناى.
هم علي الحوات،
بالانصراف، الا أن نعمه ارتفعت من الرباب جعلته يتوقف. الذئب ينهش حملا. أفعى
تتلوى على أفعى حمار ميت في شعبة، الناس يخرجون من بطنه منهوشى الصدور.
الطيور تفقس بيضها، الجثث
تتدلى في المشانق، الواطير تهوى على أيدى الحواتين، النساء يلطمن وجوههن. الدماء
تسيل. رضع يخقون وهم يرضعون أمهاتهم.
ارتفع النغم، مضطربا
صاخبا، وبدأ توتر العازف يرتفع ويشتد، انتقل توتره فجأة إلى المتجمهرين، أخذت
أصابعهم تنقبض وتنفتح، تقلصت عضلاتهم، اصطكت اسانهم.
ازداد هيجان النغم..
الشقوق تنفت في الارض. ملايين الثعابين تخرج من بطنها. من السماء ينزل ذباب أسود
يغم الدنيا الاعين تنغلق، اللهب يلفع الجلود.
لم يبق هنالك عزف. لم يعد
هنالك عازف.
ليس سوى الامتلاء
والفيضان.
تبودلت اللطمات. تبودلت
اللكمات فالركلات. سقط البعض هنالك. راح الجميع يبحثون عما لديهم من سلاح.
تمطط. اللحن. أخذ التوتر
يقل رويدا رودا، بدأت أعصاب الناس تهدأ. أخذ القلق يزول، انفتحت الاعين، رجعت
البهجة إلى النفوس شيئا فشيئا.
راح الناس يتساءلون عما
كانوا يفعلون، وعن العالم الذي مروا به قبيل لحظات.
اتدرون ماذا كانت تقول
الرباب؟
تساءل صاب الرقاع والقلم
والدواة، فأجابه أحدهم:
لا. ماذا كانت تقول
الرباب؟
كانت تقول، التحفظ انذل
الة يصل اليها المقهور. انه موقف مفتعل، السائر في الظلمة، لايسعه أن يحتظ بتحفظه
كثيرا، انه اما خائف واما غير خائف. اما شجاع لا يبإلى بما قد يتعرض له.
وأما جبان، تصعد الاهوال
اليه من داخله.
يد علي الحوات، ودت وهى
تتراقص في التراب، لو تعود اليه.
لقد رفضت الاغتراب.
وعلي الحوات لعق المرارة،
وهو يضع يده أمام الجلاد.
جرح القلب الكبير لا يكون
صغيرا. وحين تمس الاخوة في جوهرها لا تكفي الدموع، إذا كان هناك ظلم. فلا جدوى من
التحفظ، ولا جدوى من الاستسلام. الظالم لايشبع، والقهر ليس له نهاية، مثلما أن
الذل لا حدود له.
أراد علي الحوات أن
ينصرف، قبل أن تشده أنغام أخرى، ألا أن صاحب القلم والرقاع والدواة، سكت ليفسح
المجال لصوت الطبل. ياقوم النار في طبائبكم هبوا هبوا، ياقوم الأعداء في دياركم
افزعوا افزعوا. ياقوم العدو يحاصركم فاضربوا أضربوا.
اشتد صوت الطبل، وتتالت
نقرات العازف وتنوعت..لم تمر ثوان حتى راح الناس يهتفون:
يارجال يارجال الشدة.
نحن نا. نحن هنا.
الموت خير من حياة الذل.
هاتوا السلاح وهبوا.
كفانا ظلما. ليمت الأعداء
عن آخرهم.
جور أن تحذم يد علي
الحوات.
علي الحوات يستنصر.
انصروه.
علي الحوات هو أنتم. هو
الماضى والحاضر والمستقبل.
ألا تبت يدى من أذى على
الوات الخير؟ سم العصر وبسمة الليل.
ارتفع الهتاف،كان الناس
يردون على الطبل وكان الطبل يدعوهم ارتفع حماسهم وارتفع، حتى نادى البعض منهم
بسقوط التحفظ، ونادى البعض الاخر بسقوط القصر. وهتف البعض بسقوط صاحب الجلالة.
فجأة، راح الناس يتبادلون
النظرات: ماذا جرى ماذا كنا تفعل، ماذا كان الطبال يقول؟
أتدرون ماحديث الطبل؟
قال صاحب الرقاع والدواة
والقلم، فلم يجبه أحد أو حتى يرفع رأسه اليه.
أنا أقول لكم. أنا أشرح
لكم حديث الطبل.
أضاف الرجل. لم يظهر أحد
اتماما لما يقول.
الطبل أيها الناس لم يقل
شيئا. كنتم انتم، تقولون. كان الحديث حديثكم. أتذكرون ما كنتم تقولون؟ لاشك أنكم
تذكرون.
لقد قلتم ما قلتم ولم يأت
ذلك جزافا، أو هذيانا. لقد رددتم مالقنته لكم الايام. أنها ضغينة القرون، وستظل
تفلت من أفواهم مهما بالغتم في التحفظ.
علق صاحب الرقاع والقلم
والدواة والبسمة على شفتيه، ثم اشار إلى صاحب النشاب والبندقية والسيف والعلم،
وتساءل:
أتدرون من هؤلاء؟ من نحن؟
من هؤلء الشبان السبعة الذين يقفون أمامكم؟
رد عليه شاب متحمس، فقال
صاحب الرقاع والقلم والدواة:
نحن فرقة نصرة علي الحوات.
علي الحوات الذي هو أنتم وهو هو، وهو الأجيال الاتية. علي الحوات الذي لا يعنى غير
الاستعداد، غير الطاقة الهائلة لصنع معجزة المعجزات.
هذا رامى الرماة. في امكانه
أن يسقط ذبابة بنشابة، هذا قاذ القذافين، لبندقية سبع جعبات تنطلق دفعة واحدة وفي أمكانه
أن يسقط أو يصيب العدو من سبع جهات. اما حامل شعار الفرقة، فبوسعه والشعار في يده،
أن يفك سبعة صفوف وأن يفتح جبهة رأس الغول.
سنطوف في القرى والمدائن.
سنبهر الناس بالحقيقة.
وسننصر علي الحوات.
اليوم أو غدا، أو بعد غد.
علي الحوات الذي هو أنتم
أو أكثر، أنتم مضاعفون سبع مرات.
-29-
وجد علي الحوات، صعوبة
كبيرة في الاصطياد بيد واحدة.الصعوبة الكبيرة، تأتيه من أنه يتخيل نفسه باستمرار
أنه بيدين.
ما أن يهم بتناول شيئ،
تأتيه، أو بفعل شيء، أو حتى نهر ذبابة، حتى بصطدم بالحقيقة. يأذى أكثر، حين يعتقد
أنه لم تبق له أية يد، بحار لحظات فيما يفعل، حتى تتقدم أصابع، تتحرك، تعلن أنها
مربوطة بيد. تتردد تلك الاصابع، نفسها، هنيهة ثم تنصرف، إلى فعل، ماكانت ستفعله
اليد غير الموجودة.
انه لاول مرة يكتشف،انه
أهمل أكثر مما يجب، قطعة عزيزة منه، كانت تؤدى في صمت وفي تواضع دورا كبيرا، وهاهى
لاتزال مستعدة للاضطلاع بالدور وحدها.
لاول مرة يفتح جراب العدة
باليد الجديدة.
لاول مرة يخرج بها عدة
الصيد.
لاول مرة يطعم بها.
لاول مرة، يرفع بها
القصبة، ويدفعها بالخيط ولصنارة إلى الماء.
لولا الذكريت، لولا الصور
العالقة بذنه، لولا تكرار العملية إلى أن صارت عادة وطبعا، لولا وهم قوى، بأنه لاشيء
ينقصه، لولا كل ذلك لجزم علي الحوات بأنه لاول مرة يصطاد، وبأن هذه العملية، جد
غريبة عنه، ولتساءل:
ترى ما سيكون طعم السمك في
أفواه الناس، وهو غير مصطاد باليد الناقصة؟
هل سيصطاد شيئا؟ هل سيقوى
على اختطاف القصبة، وقذفها إلى الخلف، لتتقدم الصنارة منه بالسمكة تتراقص ونفسها
يتردد، صدرها يعلو وينخفض، وزعفتاها تنفتحان وتنعلقان، لتكشفا، عن شراشف أرجونية،
فيتناولها، فرحا وكأنما هى أول سمكة تادفه في حياته.
هل ستتكرر التجربة؟ هل
سيقول مرة أخرى، ككل المرات هذه أحسن سمكة اصطدتها؟
رمى الصنارة، بعد أن سوى
القصبة بصعوبة، وراح يمسكها، وهو يشعر بأن ثقلها يتضاعف، كما طال مسكها.
راح الشاهد الاحر، يتراقص
في الماء، مهتزا بموجاته، وراحت صور من التجربة داخل القصر، تسترجع نفسها، ثم
تتلاشى..صور من التجزئة داخل عن عينيه، وخلوا بينى وبينه.
عرف الصوت قبل ان رى وجه
صاحبه، فقال في سرهك
انه هو صوته، مسعود
الخبيث، ماذا يفعل نا؟
قبل أن يبدى دهشته، فاجأة
أخوه مسعود باحتقار:
من العادة أن لا يخرج
الخيرون من قرية الصراحة والتحفظ، فكيف أبحث لنفسك باقتفاء اثرنا.
أنت إذن أحد الفرسان
الثلاثة الملثمين، مسعود سارق المجوهرات.
ولقد جئت لتكشف عنا.
انا لم أجئ للكشف عنكم،
لقد نذرت لجلالته.
وهكذا تريد أن يطرد اخير
الشر. علي الحوات ضد جابر وسعد ومسعود، يوم تضطرك الامور، تعلن في القصر بصوت مدو،
أنهم لصوص قتلة، أطرودهم من القصر لعلك تطم إلى أن تحل محل جلالته. الخيرون جميعهم
على ما يقال- يعتقدون في لحظات كثيرة أنهم سلاطين، لانهم ليسوا في حاجة لاحد.
ولكن مامعنى ماتقول؟
مامعنى وجودكم هنا؟
تعلم ذلك، انك مذ خرجت من
قرية التحفظات، وانت تقحم أنفك فيها لايعنيك، أية علاقة أو صلة لحوات باس بالقصر
أو بالسلطان.
وأية علاقة للصوص مجرمين،
اعترفوا في ساحة قرية التحفظات بما جبلوا عليه بالقصر أو بجلالته.
تقول . خذوه كما أوصيتكم.
شعر علي الحوات، بتوتر في
القصبة التي يمسكها بجهد فراح يتبع حركة الشاهد الاحمر. كان يتحرك، ينجذب إلى اليمين
ثم إلى اليسار، إلى الخلف ثم إلى الامام، يغطس نصفه في الماء، ثم يطفو، تتشكل حوله
دوائر، ثم تذوب.
هى هى، لقد نذرت لجلالته
ولابد أن يتحقق النذر. هذه المرة أعرف الطريق جيدا.
هذا انذار صغير جدا يا
علي الحوات، الشريرون مهما كانوا شريرين، فانهم لايقوون على معاملة أخيهم الاصغر،
بما تحتمه مقتضيات الحكم. أنت بليد، لن تفهم مثل هذا الكلام اذهب دون عودة.
أعادوا العصابة إلى عينيه،
راحوا يقودونه. ساروا به ألف خطوة بالعد، ثم رفعوا العصاية على عينيه. كان في قاعة
كبيرة، بها مالا يحصى من السواطير والسيوف، والحبال والالات القاطعة فئوس مناشير،
خنجر، مشانق، مقاصل.
أنت أول محظوظ يدخل
القاعة يا علي الحوات.
قص يده اليمنى لا غير.
لست أدرى لماذا لم يقل قص خنصره أو بنصره؟
أضاف جلاد إلى تعليق
الاول، وهو يتناول منشارا، فرد عنه صاحبه بلا مبالاة:
ألم تسمع؟ يقال إنه أحد
رعايا قرية الحاجب.
بل يقال إنه رضيع سيادة
الحاجب.
لا عليك. قالوا يده،
فلتكن يده. قالوا ظفره فليكن ظفره، قالوا رأسه، رأسه. قالوا يدخل ويخرج، يدخل
ويخرج. قالوا يقذف في مطمورة السبعة والسبعين ذراعا، يقذف.
اهتزت القصبة في يد علي
الحوات، ثم انجذبت نحو الماء.
راح يرفع بيده فلم
تطاوعه. قدم اليد الأخرى فلم يجدها. عض راح يرفع يده فلم تطاوعه. قدم اليد الأخرى
فلم يجدها. عض شفته السفلى، وتشبث بالقصبة حتى لاتفلت منه، ثم استعان شفته السفلى،
وتشبث بالقصبة حتى لاتفلت منه، ثم استعان بمرفقة فأسنانه، وراح يرفع القصبة إلى فوق،
ويتأخر في نفس الوقت.
هيا استعد.
قالوا له، ثم سقوه سائلا،
وراحوا يحدقون فيه: لم يشعر بألم. لم يهز رآهم يأخذون يده اليمنى، ويضعونها على
خشبة كبيرة، ثم رفعوا ساطور ضخما وهروا.
رأى ذراعا بها يد وأصابع،
تقفز في الارض، وتهتز كأية ذبيحة شعر بأنها جزء منه، مهما كان الأمر، آسف أسفا
شديدا، ثم فقد وعيه ليستعيده في قرية التصوف، على أداء البكاء والنواح.
استطاع بكل خبرته، وبكل
قواه المتجمعة، أن يسحب القصبة والخيط إلى اليابسة.
كان في آخر الخيط سلحفاة
ضخمة تأملها جيدا ثم بصق. لن تخلص الصنارة مما فيها ألا بشق النفس .
كأنما جاءت تتحدى اليد
المتفردة.
-30-
سلموا لنا المشوشين.
سلموهم لنا، والا اضرمنا النار في القرية.
قال فارس ملثم، تقدم يعلن
عن مطالب الجيش المحاصر لقرية التحفظ. فرد عنه شيخ:
من تعنى من المشوشين؟
أولئك الذين، ذموا
التحفظ، أولئك الذين قدحوا في القصر بلغنا أن مشعوذين، سحرة، عزفوا لكم الحان
التمرد فخرجتم من تحفظكم، نريدهم، ونريد سبعة من أعيانكم للانتقام لجلالته.
نحن هنا.
قال صاحب الرقاع والقلم
والدواة، ثم التقت إلى صاحب الرباب، وسرعان ما انطلق اللحن، يصعد إلى السماء
مشحونا بالشوق والذوبان.
وأن هى الا لحظات، حتى
كان المتجمهرون يتثاءبون، والفرسان الملثمون يتقدمون إلى الساحة في حذر، كانوا حوإلى
المائة والخمسين مدججين بأسلحة مختلفة .
أخذ النوم يداهم الجميع،
عدا الشبان السبعة، الذين كانوا ينتظرون الاستسلام الكامل.
التف الفرسان الملثمون
بالساحة، ثم راحوا يرسلون شخيرهم ويستلقون على السروج، الواحد ، بعد الاخر.
قفز الشبان الستة، في حين
واصل السابع، الربط بين الازواج وعوالم الخدر الساحرة، انتزعوا الاسلحة من
الفرسان، ووضعوها ى أيدى أهل القرية. وراعوا أن يكون عدد الكهول والشيوخ أكثر من
عدد الشبان.
هؤلاء هم حماة التحفظ.
ليضعوا أيديهم، قبل غيرهم.
قال صاحب الرقاع والقلم
والدواة، ثم أشار إلى العازف، بحركة من يده، وأ/ر الطبال بلصعود إلى المنصة.
بدأ العوالم الخدرية
تنغلق عالما أثر آخر ، وبدأت الرباب تلفح القلوب بنسمة باردة، ودبت الحركة ، في المتجمهرين،
وما أن استعاد الجميع وعيهم، وفتحوا عينهم، تى سكنت الرباب، وارتفعت نقرات
الاهتياج والغضب.
ماذا فعلتم بنا أيها
السحرة ؟
صاح، قائد الفرسان
الملثمين، فرد عنه الشاب، وهو يلوح بسيف في يده:
ايا المعتدون الآثمون.
ماذا تريدون من قريتنا الامنة.
كشرت الذئاب عن أسنانها
وتناثرت الافاعى تطلب بعضها وانبطحت الاحمر، وراح الناس يخرجون منها، هبت الرياح
بالذباب الجائع.
هتف صاحب الرفاع والقلم
والدواة، فأرسل الرامى نشابه ليستقر ى قلب قائد الملثمين، وانطلقت طلقات بارود،
ورفرف العلم الاسود في السماء، تقدم صاحبه يعمل سيفه.
تحمس الشبان، ثم الشيوخ،
هجموا على الملثمين، اللذين استولى عليهم الرعب والفزع. تأخر الشبان وراحوا
يتفرجو. كان قتال المتحفظين شديدا حاقدا. لايكتفي الواحد منهم باسقاط الفارس إنما
يشق صدره، ويخرج قلبه، ثم يضعه تحت قدمه ويدوسه.
نصرة لعلي الحوات،
انتقاما ليده.
هتف صاحب العلم الاسود،
بعد أن خفقت نقرات الطبال، راح الناس ينظرون إلى أيديهم وإلى الجثت. فسارع صاحب
الرقاع والقلم والدواة.
كلكم ولغتم من دماء
القصر. لم يبق هناك تحفظ . ان لم تستعدوا لحماية قريتكم، داستكم خيول الملثمين
الليلة .
-31-
انتشر الخبر، بسرعة
فائقة، في القرى السبع، الا أن الخبر لم ينتقل بصيغة واحدة.
قالوا في القرية الاولى،
ان علي الحوات، ضرب بقصبته الماء سبع ضربات، فانشق من حوله، وبان قعر الوادى، وما
فيه، بحث علي الحوات عن سمكة جميلة، فلم يعثر سوى على السمك المعتاد.
انتظر أيضا، واعاد
العملية. كانت السمكة ذات الثلاثين رطلا. قال قليلة، تكررت العملية أكثر من سبع مرات،
وتوقفت السمكات لدى الخمسين رطل. قال سأجد سمكتى، أن اليوم وأن غدا، لايزال أمامى
خمسة أيام وسأجدها.
في المساء رآها. رآها
بعينها. هتف : جاءت، جاءت . أعلم أنها ستجئ. لاحذر مع القدر. اقتحم الماء يضرب
بالقصبة ، واستخرجها.
أم في القرية الثانية والثلثة
والرابعة، فقد قالوا، كلاما آخر.
شعر علي الحوات بالتعب من
كثرة السفر والسهر. نصب قصبته وراح تيأمل كثرة السفر والسهر. نصب قصبت وراح يتأمل
الماء يتموج. غلبه النعاس، فنام. نام علي الحوات نوما عميقا. راى خلاله رؤى
وأحلاما عديدة، وعندما استيقظ مع العصر وجدالقصبة تتخبط في يده، حاول أ، يرفعها
فلم يلح. استعان بذراعه الأيمن، فلم يقو. استعان برجليه، فعجز. تشبث بالقصبة وراح
يهتف: الى، ألى. سمكتى توشك أن تضيع. انجدونى، لم يصل صوته أحدا، فقد كانت الريح
تعاكس اتجاه القرية. أسف أسفا شديدا، عن منعه للغريب المرافق له، عن النزول معه إلى
الوادى، وتمنى لو يحضر. وكأنما حملت حدأة، الغريب ووضعته أمامه فقد برز اليه من
حيث لايدرى. وحيث لم يكن يتوقع، وسأله:
أكنت تنادى يا علي الحوات؟
الى، الى. انها هنا، هنا.
هى بذاتها وصفاتها.
ومن قال لك أنها هى؟
اعرف ضربتها. اعرف
رقصتها.
اعانه الغريب، فاستخرجا.
كانت هى. الاولى بالذات ، ولربما أختها، المهم أنها من وادى الابكار.
في قرية الحظة، راج
قولان: قول، لدى النساء، وقول لدى الرجال.
قالت النساء: أن جنية
شبقة، استحمت في وادى الابكار، ثم نزلت إلى وادى قرية التحفظ تبحث عن رجل، كان علي
الحوات أول من صادفها برزت له متعطرة في أجمل صورة، وسألته:
ماذا تطلب؟
أطلب أجمل سمة، تليق
بمقام جلالة السلطان.
أعطيكها.
أوه. كم أكون لك شاكرا،
أيتها الفاضلة.
لدى شرط واحد.
أنا ظمأى. لم يستطيع فحول
الجن، أن يرووا شبقى فنزلت أبحث عن إنسان أفجل.
ولكن أنا متزوج، تنتظرنى في
قرية التصوف عذراء بديعة.
أنا نفسى أتحول إلى السمكة
التي تطلب، واصطحبك إلى القصر.
أنا خير، فكيف اقوى على
الخيانة؟
ولكن هذه ليست خيانة، أن
الخيانة تكون مع غيرك من بنىجنسك، أما مع جنية مثلى، فكما لو أن الأمر يتعلق بحلم
لذيذ.
اعتذر أيتها الجنية الجميلة.
أطرد كل السمك الموجود في
الوادى، وسأنتزع كل طعم تضعه في صنارتك، سأنتقم منك.
رضخ علي الحوات أخيرا،
فالتهم الجنية الساحرة والتهمته، حاول أن يقهرها، فقهرته، انكسرت رجولته، أمام
شبقها،فاستلقى جانبها. غلبه النوم فنام.
عندما استيقظ علي الحوات،
وجد سمكته إلى جنبه.
أما الرجال الخصية فقد
قالوا قولا آخر.. عندما وصل علي الحوات إلى حافة الوادى، وطرد الغريب الذي تبعه
سمع صوتا بخاطبه:
يا علي الحوات، سيجف
الماء، وسيجمع كل مافي الوادى أمامك طاعة وولء لجلالته فاختر ماتشاء من الاسماك.
أنا لا يهمنى سوى سمكة
واحدة، تزن سبعين رطلا، وبها تسعة وبها تسعة وتسعون لونا، تعيش في الماء مثلما
تعيش في البر، أحملها ين تتعب على كتفى، وتحملنى حين أتعب على ظهرها. في النهار
سمكة، وفي الليل امرأة، إذا مارأت خطرا يداهمنا تحولت إلى شبح أو إلى رغبة تسكن
الصدر. تعينني على قهر أعداء جلالته، وتساعد على الوصول اليه.
ليكن ماتشاء يا علي
الحوات، أنت أبن الوادى، وابن القرية، وابن السلطنة، وابن القصر.
صعدت السمكة حتى رجليه،
دثرها، وحملها على كتفه ثم وضعها على البغلة، ونطلق.
في قرية التصوف وفي قرية الأعداء
راج كلام آخر.
قالوا أن سمكة علي الحوات
الاولى، ما ان رأت الأعداء يغدرون به، حتى ولت هاربة، نحو الوادى. تثب كل مرة سبعة
وسبعين مترا وتثبت في اليوم ألف مرة. واصلت الهروب الليل مع النهار، وبينما كان علي
الحوات عند حافة الوادى ينتظر. إذا بها تتخبط حوله.
تركها تستريح ثم حملها
على البغلة وعاد بها.
الصحيح، في كل ماقبل، أن علي
الحوات، حصل على سمكة تزن سبعبن، رطلا، ذات تسعة وتسعين لونا، لايفرق من يراها،
بينها وبين الأولى، حملها على البغلة، وامتطى الجواد، وقصد القرى يطلب غير ماطلب في
المرة الأولى.
-32-
عندما تجمع الناس في ساحة
الاعترافات، حول علي الحوات، اشار بيده إلى السمكة. لم يلتفتوا اليها وظلوا يحدقون
فيه.
شعر بأنهم، يوجهون اليه
لوما يعاتبونه، لاول مرة في حياته يقولون اليه، يا علي الحوات يالبننا، كنت تجلب
الينا الخير والبركة، فما الذي دفعك إلى احراجنا، بمثل هذه الحدة. من يوم بروز
سمكتك المسحورة من الماء، لم نعرف استقرار، انك تسير مغمض العينين، عما ينتج عن
سيرك. قلنا لك انك تتحدى التاريخ، بتمثل التاريخ، فلم تصدقنا.
ماذا تريد منا أيضا يا
علي الحوات؟
تساءل شيخ، فبلغ علي
الحوات ريقه، واستجمع نفسه، ورفع صوته.
أريد أن تعينونى.
وفيم نعينك يا علي الحوات،
أو لاتدرى أننا نحن الذين أصبحنا في حاجة إلى من يعيننا. لقد ولغنا في داء القر
غصبا عنا، بسببك قتلنا مايزيد عن مائة ملثم، وهانحن نستعيد لصد هجوم قد يشن قتلنا
مايزيد عن مائة ملثم، وهانحن نستعيد لصد هجوم قد يشن علينا بين حين وآخر، ألا ترى
أننا لاول مرة، نأتى إلى الساحة، مسلحين. لم نحمل سلاحا منذ أجيال عديدية، حتى في عصور
الشر الكبرى وكن ها نحن، وبسبب سمة العصر، علي الحوات الخير، نصطر إلى قتل فرسان
القصر.
لقد انتهى وابتدا اخر، في
هذه القرية يا علي الحوات لم نبق متحفظين، اننا انحزنا ضد القصر، دفعة واحدة حدثناك
في الاول فلم تسمع كلامنا، وها انت ترى .
إذا ما أعتنمونى، اعتذرت لكم لدى جلالته.
لن يقبل عذرك. ولن تصل
اليه. " القلوب القاسحة تسد البيبان".
وماهى الاعانة التي تطلبها.
هذه هدية لجلالته. لكن
للوصول إلى جلالته، لابد من هديا إلى مراكز الحراسة، أريد أن أصل بسرعة، حتى اتمكن
من أقامة العرس في الموعد المناسب كم تعلمون.
لكن يا علي الحوات تعم
أننا فقراء.
لكن يا علي الحوات، تعلم
أننا لم نستجب لطلبك في المرة الاولى.
من لم يهد لللطان، كيف
يهدى لحراسة؟
يا علي الحوات، هذا احراج
كبير.
نحن الآن في حرب مع
القصر.
حتى هديتك يجب إعادة
النظر فيها.
ياقومى، الاعانة لى أنا،
اريدكم أن تزويدونى ببعض المال، وهذا كل ما في الأمر، علي الحوات اليتيم، الذي لم
يدخل قرش جيبه قط، يطلب منكم بعض نقود، أعلم أن القرى السبع الأخرى لن تبخل على
بأى مبلغ أطلبه، ولكن انتم قومى، وأهلى وعشيؤتى.
هذا منطق آخر يا علي
الحوات، أنت شيء، والقصر شيء آخر، انتظر حتى نجمع لك بعض المال.
لم ينتظر ينتظر علي
الحوات، أن فعل، وضع السمكة على البغلة واتطى الجواد، وغدر الساحة، ليجد في مدخل
القرية، الغريب في انتظاره.
عندما كان في ساحة القرية
الثانية، التحق به فارس من قريته، وقدم له صرة من النقود.
هذه ألفا قيراط ذهبا،
تغنيك عن اللوجوء لأية قرية، وتدلل لك كل صعوبة، دفعها لك أبناء قريتك، عن طيب
خاطر، يا علي الحوات، واصل طريقك ولا تبدر وقتك.
اهتز قلب علي الحوات،
ومسك دمعة تجمعت، وارتسمت على شفتيه بسمة بريئة:
"سيزداد حبى لكم،
سيزداد ويزداد حتى يفيض ويغمر الدنيا كلها".
قال في سره، وواصل طرق،
دون أن يقول شيئاً، لا إلى مبعوث قريته، ولا إلى المتجمهرين حوله.
تجنب الدخول إلى القرى،
والوقف في ساحاتها، وكلما صادفه وفد يرجو دخوله إلى القرية، إعتدر ومر، ومعندما
بلغ قرية التصوف إضطر إلى التوقف.
إستقبله آلاف وآلاف،
بهتافات متعددة:
حيت يا علي الحوات.
نصرت يا علي الحوات.
ياصهرنا العزيز عززت.
بفضلك إستعدنا البصر.
بفضلك تحالفنا مع الاباة.
نحبك نحبك، يا علي الحوات.
لاحظ علي الحوات، أن
الصوفية مسلحون، وعجب لذلك، هكذا بين عشية وضحاها، يتحول مهدرو الشرف والكرامة،
جامعوا القنافذ والخنافس المتنازلون عن ابصارهم، والراكضون خلف البرق الوامض، إلى محاربين
مسلحين؟.
لا يا علي الحوات، قريتنا
لم تبق قرية التصوف، لقد أضحت قرية الثأر للشرف.
سنثأر لعذارنا، سنثأر
لأعيننا، سنثأر ليدك.
تحلفنا مع الأباة،
وأرسلنا معضم شبابنا إلى مدينة الأباء للتعلم والتدرب، ولن نرضخ لباغ مرة أخرى.
بالأمس، هاجمنا جيش
عرمرم، من فرسان القصر، فإشتبكنا في ربوة النصر، وهزمناه شر هزيمة.
سنعود إلى التصوف، بعد أن
نضمن الأمن والسلامة لأنفسنا ولبناتنا يا علي الحوات.
كل هذا بفضلك يا صهرنا
العزيز.
سيتحقق الحلم كما
رأيناه.. إنما..
لم يتم الشاب المتحمس
الجملة. قطعها حين كان يجب ألا تقطع، حيث كان علي الحوات، يعتقد أنه أمسك برأس
الخيط السر الذي يخفيه الصوفية.
وأين العذراء؟
إطمإن يا علي الحوات،
إنها تستحم.
رجاهم علي الحوات، أن
يأذنوا له بالإنصراف، لتبليغ نذره وإراحة ضميره، أقنعهم بان المسألة بالنسبة إليه،
لا تعنى سوى سوء تفاهم، من كلا الطرفين، من القصر ومن الرعية، وأنه سيزيل سوء
التفاهم هذا، حالما يتمكن من ذاك، بل ربما أن هديته، عندما تصل إلى جلالته، تجعل
قلبه يرق ويلين، فيعطف على الرعية كلها، ويخفف عنها وطأة أعدائه وأعدائها.
أنه مهما كان الأمر، رعية
وخلص، وسيثبت صفته هذه.
من عاهد وفى، ولقد ألزم
نفسه، إختيارا بعهد، وسيفي به، بكل صفة.
-33-
هذا أنت. كيف خرجت من
القصر؟ اين يدك اليمنى؟
سئل علي الحوات في مركز
الحراسة الاول. فمهمه دون أن يجيب بالحقيقة، ثم إنتقل رأسا إلى الموضوع الذي يهمه.
أريد أن أرى رئيس المركز
بسرعة.
آهاه. يبدو أنك رجعت
متحمسا.
أجابه الحارس، وهو ينظر إلى
يده، فمهمها علي الحوات بسرعة وأخرج قطعة ذهبية، كان أعدها لهذا الغرض وإختطف
الحارس القطعة وراح يركض نحو مكتب رئيس المركز، ليعود بسرعة مرحبا.
أهلا، أهلا، رئيس مركز الحراسة الاول ينتظرك. هات جوادك
وبغلتك نسقيهما ونعلفهما.
كان رئيس مركز الحراسة
يقف إحتراما لعلي الحوات وكان بصره عالقا بيده.
تفضل إجلس، ضنناك في
القصر لا تزال؟
طلبت منى سمكة ثانية، وقد
جئت بها؟
كنت بيدين في المرة
السابقة.
حادث صيد، نعم حادث صيد.
تعلم أن من اجل إصطياد سمكة مثل هذه ينبغى بذل جهد عشرة رجال، و أنا أصطاد وحدى.
سكت علي الحوات لحظة، كان
العرق يتصبب من جبينه، كان حلقه قد جف، لأول مرة يكذب. يكذب وينجح في كذبه، كأنما
تعود الكذب، مثلما تعود فعل الخير. لقد بدأت تقتنع بضرورات السياسة يا علي الحوات،
ربما تضطر للقتل، ربما تضطر لإنتزاع أيدى الناس. هكذا من أجل الوصول إلى قصر صاحب
الجلالة، بهديتك، تضطر للكذب ! مثلما اجدنى مضطرا لدفع الرشا. هذا هو الطريق ما العمل؟
لقد عدت بسرعة. وأيدكم
هذا يبدو أنه عامر بالسمك العظيم الجميل.
أوه عامر. عامر إنما
اصطياد مثل هذا السمك يتطلب حنكه كبيرة.
أيه خدمة نقدمها لعلي
الحوات الكريم؟.
قال الحارس، مبتسما،
وعيناه عالقتان بيد علي الحوات، وتتبعان كل حركة منها. كان علي الحوات، قد قسم
المبلغ سبعة اقسام، قسم لكل مركز.
أدخل يده إلى صدره وأخرج
صرة صغيرة، بها نصيب المركز الاول، وناله لرئيس الحرس. فتحه وعده جيدا، ثم وضعه في
جيبه.
هذا المبلغ لبمتولضع،
يوصلك إلى المركز الثاني.
أريد أن أصل رأسا إلى صاب
الجلالة.
تلزمك أربعة آلاف قيراط-
تدخل إلى صاحب الجلالة رأسا دون أن تمر لا على حاجب، أو على رئيس حرس، أو كبير
المستشارين لا أخفي عنك. المسألة هكذا. ألفان اقتسمهما مع الحراس الذين معى، حتى
لا يفشوا السر، لفان للوكيل الذي يتولى توصيلك إلى العرش. سيدفع منها بدوره
الكثير، حتى يفض الطرف عنه.
العملية فيها شىء من
التعقيد بالنسبة لك، المهم على مايبدو ألا تتعطل في المراكز.
أصارحك، معى ألف وخمسمائة
قيراط. أعطيكما كى توصلنى مباشرة إلى صاحب الجلالة.
ألف وخمسمائة ! ألف وخمسمائة؟ لى أنا كذا وكذا للحراس كذا وكذا، للمعنى
بالأمر كذا وكذا، الحق الحق المبلغ جد قليل.
أعطيك يوم أعود بالسمكة
الثالثة مسة آلاف هذا ما أرسل لى صاحب الجلالة في المرة الاولى مع الحاجب. لاشك
أنه سيعطينى أكثر هذه المرة.
طبعا. طبعا، الحاجب لا
يستطيع أن يسلم لك أكثر مما ذكرت. دعنى استشر المعنيين بالأمر. أمهلنى ساعة على
أقل تقدير لكن قبل ذلك هات الالف وخمسمائة قيراط.
تردد علي الحوات قليلا،
ثم أخرج المبلغ وسلمه وهو يحاول اخفاء امتعاضه وتخوفه، لا استطيع أن أفعل غير ذلك،
انه الاقوى كان في امكانه ينتزعه منك، وان يعيدك من حيث قدمت.
هكذا أما أن تربح دفعة
واحة، واما أن تخسر ماكان مقدرا أن تخسره… لو أنني أعلم هذا من قبل لاتخذت احتياطاتى، فلا اضطر إلى المرور على مسعود الكلب اللص
المجرم.. حسنا فعلت يا علي الحوات، بالاحتفاظ ببعض المبلغ، ربما تضطر في القصر
ذاته إلى الدفع لبعض الغلمان أو الحراس. من يدرى، صاحب الجلالة محاصر باللصوص على
مايبدو.
لكن بالمناسبة. ماهو
موقفك من أخوتك؟ جابر وسعد ومسعود؟ موقفهم هم واضح، أما أنت ياالحوات، ماهو موقفك؟
هل ستنذر جلالته، فيقضى عليكم، أم ستتخلى عن واجبك كرعية مخلص خير.
أن سكوتى حتى الان، عن
مسعود الكلب، وعن فعلته معى، علامة على أنني أميل إلى كتمان المسألة ماذا في وسعى أن أفعل.
هؤلاء اخوتى من أبى
وأمى.. وهم في أعلى المراكز في القصر على مايقال فكيف استطيع أن احطمهم. ثم كيف
أستطيع أن أتدخل في شيءون جلالته الداخلية، انه لا تخفي عنه خافية، فالأعداء
وانصار الظلام، قالوا لى أن القصر، تكمن في وسائل استعلاماته ومخابراته.
لا. الاخوة قبل الولاء،
وقبل الطاعة، وقبل الاخلاص لاى كان.
ثم، من يدرى،فلعلهم
تابوا، لعلهم اعترفوا لجلالته بكل آثامهم وذنوبهم، واقروا التوبة أمامه، من يدرى.
انهم في مراكز جد حساسة.
لكن مسعود الكلب، أمر
بقطع يدك اليمنى. أنه أراد أن يحركم من الصيد، من أحب شيء إلى نفسك، من تعبيرك عن
وجودك وكيانك.
لو لم أكن أخاه لا أمر
بقتلى. هكذا أفهمت.
لقد عجب الجلادون أنفسهم،
للعقاب الصغي الذي نالنى.
لم العتاب ياسيدى؟ لقد
جئت لتعبير لجلالته عن سرورك بنجاته، وهذا كل ما في الأمر، لو لم يكن الشر. لايزال
كامنا في نفس مسعود الشرير. لاخذ سمكتك- على الأقل- وشكرك باسم جلالته. وصرفك.
أخى مهما كان الأمر. وعلي
الحوات الخير، لايمكن أن يحقد على أخيه، أبدا، أبدا.
عاد رئيس مركز الحراسة،
أفاق علي الحوات من سهومه، وتنبه بكل جوارحه، إلى ماسيقوله الرجل الذي ابستم واتخذ
مجلسا إلى جنبه وبادره فرحا.
اسمع يا علي الحوات. مبلغك
في الحقيقة- كما قلت لك جدضئيل، وكما سبق أن قدرت بنفسك، فانه لايوصلك الا إلى باب
القصر دون تعطيل أو تفتيش. لكن، بما أنك أنت وبما أن وأديكم عامر بأمثال السمكة
التي تمل، وبما أن، وبما أن، ولحسن حظك فقد تمكنت في العثور على من يوصلك.
أهاه . أخيرا.
قال علي الحوات وهو ينهض
ويجلس، ألا أن رئيس المركز الاول صدمه.
لكن إلى رئيس الحرس لا
أكثر. وفي الحق، لا فرق بين الوصول إلى رئيس الحرس، وبين الوصول إلى جلالته.
ان حياة جلالته مرهونة
لدى رئيس الحرس.
ربما جابر. وربما سعد. لن
يكون سوى سعد.
قال علي الحوات في سره، وفكر
قليلا، اكتشف أنه لابد من المرور بالتجربة.
عندما يعلمون أنني كتمت أمرهم تى الان، وأنني مستعد للكتمان، وأنني أيضا مصر على تقديم
هديتى، يتراجعون عن فسوتهم، ليكن سعد اذن.
أضاف علي الحوات يحدث
نفسه، ثم رفع رأسه، نحو رئيس مركز الحراسة لاولى في طريق القصر.
ليكن رئيس الحرس، ليكن.
آهاه، أحسن. أحسن بكثير،
ستعود بعشرة آلاف قيراط ولاشك، هيا تفضل.
-34-
استيقظ علي الحوات، على
الضجيج، وعلى الالم في ذراعه اليسرى. النساء ينحن، ويرسان آهات كأنها فحيح آفاعى.
الرجال يبربرون بأصوات عوالة. قلبه يعتصر، وشي كاحز بالسكين، أو الكى بالنار ينبعث
من ذراعه اليسرى.
أين أنا؟
رفع رأسه، فقابلته من
خلال ضباب عينيه، أشباح تنحنى، وتلط وجوهها، وشعورها تتدلى شعثاء، والدماء تقطر من
أظافرها.
هذ قرية الحظة.
قال، ثم أسلم نفسه
للسقوط، كان رأسه جد ثقيل، وكانت الأرض تحل محل السماء في دوران سريع، وخيل اليه
أن ماينتهى لى سمعه، فيه خدر وفيه سحر، وفيه دفء، وفيه انكسار، وفيه حنين وفيه
ذوبان.
هذه المشاعر أعرفها، لقد
اعترتنى قبل اليوم. أين؟ ترى مامصدرها؟
هذا كل شيء من حوله، عم
ألصمت غلبه النعاس لم يبق غير صوت الرباب يضبح صاعدا إلى السموات العلى.
أن الروح فنت، أن الروح
فنت، وأن الشموع ذابت وانطفات.. شعر بسواعد تحمله من رأسه ورجليه برفق، وتضعه على شيء
وثير، وتروح تهز، وكأنما هى تسير به، استسلم للغيبوبة أكثر، الآلام المنبعثة من
ذراعه، قويت وقويت، تى لم يبق لها قوة ترتفع اليها، لقد بلغت قمتها واستقرت فيها.
فتح عينيه، ثانية، ليجد
نفسه بين أربعة جدران وعند رأسه فتاة بلباس أصفر، ووجه جميل، سبق أن عرفه، سبق أن
هفا قلبه اليه.
مرت يد حنون على جبينه،
كأنما تستطلع قوة الحرارة المنبعثة منه، ثم هوت شفتان ممتلئتان على جبينه، وخلفتا
قلبه، وتساقطت دمعتان على وجهه.
العذراء انت هنا؟ أينا ؟
أهدأ ، أهدأ، حتى تسترجع
قواك.
أريد أن أعرف أين أنا؟
في قرية الحظة هذان يومان
وأنت ملقى في الساحة تنزف الدماء دون أى علاج، والنسائ المسعورات والرجال الجبناء
حولك، ينوحون ويندبون ويعولون ولا يقوى أحد على دخول القرية اللعينة.
حاصر الاباة، وانصار
الظلام القرية، لكن دون جدوى.
هيجان النساء، فاق شجاعة
الرجال.
انتشر الخبر في كامل
السلطنة الشقية، هجم حرس القصر يريدون صدنا عن نجدتك، لكن قهرناهم.
هجمت النساء، يردون
الاستيلاء على الرجال، تحايلنا حتى لا نصطدم بهن، ومع ذلك تمكن من السطو على بعض
المحاربين في المراكز الاساسية.
كان الاباه يخدرنهن
بالدخان، ثم يحملونهم والمرسلون، قد وجدوا عقارا يعالج أهل داء الحظة، ألا أن
المشكل، هو كيف يتم الوصول إلى الاجساد الفائرة لمعالجتها.
أخيرا، أرسلت الأقدار
الينا، سبعة شبان ن قريتك، عجاب، في أيديهم آلات وأدوات قتال وعلم أسود في وسطه
سمكة بيضاء كتلك التي حملتها إلى القصر.
قالوا انهم فرقة نصرة علي
الحوات، وأنهم كانوا في قرية بنى هرار ستصلحون أهلها، وسيثيرونهم، للانتقام لك،
بلغتهم أنباء قرية المخصيين، فجاؤوا مسرعين، وأكدوا أن الحل بين أيديهم.
اقتحموا القرية غير
هيابين، يتقدمهم، عازف الناى، يلهث بلحن غريب.
تبعناه، نبكى غير مبالين
بأى مصير.
والغريب، أن المخصيين
والنساء الهائجات، سرعان ما استكانوا إلى الهدوء.
احنوا رءوسهم كأنما
يعتريهم خجل من لعنة أبدية، واسلموا أنفسهم لبكاء مر.
شاطرناهم البكاء.
التفت الينا، صاحب الرقاع
والعلم والدواة، وطلب منا العودة إلى مراكزنا، امتثل البعض منا، وظل البعض يبكى
شيئا لايدريه.
تقدم منا صاحب العلم
الاسود والسيفن وراح يدفعنا إلى الخلف ويناولنا صوفا نسد بها آذاننا.
ما أن تأخرنا مسافة تسعين
قدما، أن انسدت آذاننا، حتى استعدنا وعينا.
رنا نرقب متعجبين، فرقة
نصرتك. وهى تقوم بعمل عجز الانبياء والمرسلون والعلماء والحكماء والمحاربون عن
القيام به.
كان صاحب الناى، لايعزف
فحسب. إنما يتذاوب. يتذاوب بكل مافي الكلمة من معنى، ويتلوى ويتلوى تحمر وجنتاه
وتحمر، وتنتفخ أوداجه وتنتفخ، وتنتفخ عينه، تنغلق عيناه، يتلوى عنقه، ينتفخ صدره،
ويرق، ويتصب العرق من كامل جسده وتخضر شفتاه.
كان يعانى. كان المسكين
يعانى.
يعانى آلام أبلاغ الناس
شيئا.
ما أصعب ذلك، ما اشتق
العملية.
لكن، م أروعك مع ذلك.
بعده تقدم، صاحب الرباب،
ما أن تذاوب قليلا، حتى انسلت أرواح المخصيين، والنساء الهائجات ارتفعت، إلى السماء
اللازوردى، وراحت تستحم، في نهر الغفران.
نام المخصيون، نامت
المسعورات، أمرنا صاحب الرقاع والقلم والدواة، أن تأخذك، تقدمنا منك، أعطيناك
الاسعافات الاولية، وهربنا بك هنا، عالجك الاطبء، ثم انصرفوا إلى الساحة، أمامهم
مهمة جد كبيرة، عليهم أن يشكوا كل المخصيين، أن يسقوهم دواء. هم نائمون، وعليهم أن
يحقنوا النساء، بعد أن بضع المحاربون في أرحامهن نطفا.
سيظل صوت الرباب يعلو
ويعلو. وسيظل عمل الاطباء متواصلا، وأن وصلت الامدادات من مدينة الاباة اليوم
بالذت فلن تستغرق العملية سوى ثلاثة أيام.
المهم أن يصمد صاحب
الرباب.
-35-
يا علي الحوات، السكوت لا
يعنى سوى الانهزام.
قال وفد قرية الحظة، في حين
راح وفد القرية الثانية يقول:
يا علي الحوات. من سار
على الدرب وصل، لقد بدأت طريقا ولم تصل بعد.
فكر وفد القرية الثالثة
قليلا وقال:
يا علي الحوات يجب كشف الأعداء،
السكوت عنهم جرم يغتفر.
أما وفدا القرية الرابعة،
فقد عبر عن رأيه بأسلوب آخر، وقف رئيسه، واخرج سيفا وحدق في أعين جميع الحاضرين ثم
قال:
ما دواء الشر؟ انه الشر
طبعا، مادواء الاهانة؟ انه الاهانة طبعا. والرد على العدو، لايكون الا بأسلوب
العدو، مضاعفا سبع مرات. قتلك، اقتله. اهانك مرة أهنه عشرين مرة، اذلك أذله.
افتض بكارة عذراء لك،
افتض بكارة سبعين عذراء منه، لم يفعل أى شيئ ازاءك. افعل تجاهه كل نكر، قل له، إنني هنا، وان كل حركة منك
تقابلها الف منى.
الحياة في نظر بنى هرار،
هى اثبات وجود، قبل تلقى اشعار بوجود.
أما وفد أهل قرية احظة،
فقد تردد كثيرا، ثم أضاف وكأنما يتحدث بلسان غيره.
يا علي الحوات، مهما كان
الاخلاص له، لجلالته للقصر، فان السكوت عن أعدائه يضاهى عد نصرته في حالة الشدة.
قل يا علي الحوات ما يجب علينا فعله تجدنا مستعدين.
وفكرت العذراء مليا، ثم
قالت:
يا علي الحوات، رغم كل شيء،
فانه ليس في امكانك التراجع أبدا، لقد تحدثت مع الحاجب، ثم مع رئيس الحرس، وبقى أن
نتحدث مع كبير المستشارين، ثم مع جلالته. كل الرعية، مقتنعون إلى حد كبير، غير أن
الاقتناع النهائى يأتى من اقتناعك أنت، لو تحدثت عن العداء الواقفين في "
البيان"، كما طلب منك لهانت المسألة، أو على الاقل لا تضح طريق الحل، أما
وأنت تحتفظ لنفسك بالسر الكبير، فما عليك الا بالاقتناع الاكبر.
أنا موافقة على تأجيل
العرس مرة أخرى، حتى تفرغ من مسألة المسألة، فاما…وأما..
لما حان دور وفد مدينة
الاباة، ساد صمت كبير.
القرية السابعة، تتحدث.
القرية الاقرب للقصر تقول
كلمتها.
قرية الانبياء والمرسلين
والعلماء والحكماء، تعلن عن الرأى الفاصل.
نهض رئيس وفدها، وقال
بلهجة متواضعة:
نحن، الاباة، والأنصار
العائشين في الظلام، المرتبطين بحلف وثيق، نعلن، أنه رغم انقطاع كل صلة بين القصر
وبين الرعية، فانه لابد من اجراء التجربة الاخيرة، بالنسبة لعلي الحوات، أن
التجارب الاولى ادت إلى اكتشاف الصوفية لطريقهم، وإلى استعادة المخصبين لرجولتهم،
وإلى خروج أهل التحفظ من تحفظهم، وإلى انتماء بنى هرار، وإلى بروز فرقة نصرة علي
الحوات، وإلى خروج قرية التساؤلات إلى مرحلة الاجابة، وقرية الحيرة إلى اليقين،
ويقين ان المرحلة القادمة، هى مرحلة العمل الجماعى المتوحد، وأن مايليها، من مراحل
هو الجولة النهائية، التي تأتى على طغيان الطغاة.
مابقى في نظر قرية
الاباة، ونظر لفائها انصار الظلام، هو التعبير المشترك عن الموقف المشترك، واننا
على ثقة من أن علي الحوات بما يقدم من معطيات موضوعية وذاتية، الوحيد، الكفيل
بتحقيق هذا الهدف المشترك.
أضافت العذراء، وكأنما
تتحدث باسم الجميع:
المبلغ جمعناه. أربعة
الاف قيراط، هى ذى. الجواد جاهز، وما عليم الا أن ترحل باعلي الحوات، سيكون الزفاف
بعد عودتك مباشرة، ولا بأس أن ينتظر الوفود يوما أو يومين في قريتنا، انهم ضيوفنا،
ولاشك أن لدى وفد كل قرية ما يحدث به غيره من وقود القرى الأخرى.
لابد من مرافق لى، لن
أستطيع استخراج النقود وعدها وحدى. ذراعى لا تزال تؤلمنى.
سرافقك شاب من عندنا.
قال رئيس وفد مدينة
الاباة، فانحنى، عضو من وفد أنصار الظلام، وهمس في أذنه، بلام، بدأ عليه، أنه،
تجاوب معه، ثم رفع صوته.
مدينة الاباة، وانصار
الظلام، المرتبطون في حلف يتقدمون باقتراح جديد.
أى اقتراح؟
تساءل علي الحوات، فالتفت
اليه رئيس الوفد، وقال:
نرى أن يصطبك وفد كامل،
وفد من سبعة اعضاء يمثل القرى لسبع، أن المسألة لم تعد تتعلق بعلي الحوات وحده، وإنما
كما عبرتم جميعا، تتعلق بالسطنة كلها وبالرعايا كلهم. أن القصر، مهما كان أحمق،
فانه لا يستطيع أن يتعرض بسوء لسبع قرى دقع واحد، سيكون ممثلنا، من أنصار الظلام،
واوصيكم باتباع جميع آرائه وارشاداته، فهو من كبار الحكماء، ونحن نضع فيه ثقة
مدينة الاباة.
فكرة معقولة.
رد جميع الحاضرين، وفكر علي
الحوات مليا، ثم قال:
شرط أن أكون الناطق باسم الوفد.
مهمة الوفد، هى نسهيل
مهمتك أنت لاغير، سيكون ركيزة لك، كاما اقتضت الحاجة ذلك.
ليكن اذن.
رد علي الحوات، على تعليق
عضو من أنصار الظلام وانطلق الوفد على جياد كلها سود، عليها طابع مدينة الاباة
يتقدمه علي الحوات، ويليه عضو انصار الظلام. فممثلو باقى القرى.
في المركز الاول للحراسة،
قال علي الحوات أن معه المبلغ الموصل لعرش جلالته، أربعة آلاف قيراط، فابتسم رئيس
المركز واعتذر.
المسألة تتعدانا جميعا،
لقد بلفت اباركم القصر، منذ اللحظة التي غاذرتم فيها قرية الصوفية، تلقينا الاوامر
باستبقاء الوفد هنا، وبارسال علي الحوات إلى كبير المستشارين، انه في انتظاره،
وسيستقباه حال وصوله.
فوجئ أعضاء الوفد بخطة
القصر، فلم يجدوا بدا من الانتظار. لقد جاءوا ليعضدوا علي الحوات حتى يصل إلى قلب
القصر، وهاهى أبواب القصر تنفتح أمامه.
بما أن القصر على علم،
بوجودنا، وبما أنه صاحب البادرة في عدم تعطيل علي الحوات، فاننا باسم القرى السبع
نعلن عن مساندتنا لعلي الحوات، وسنظل ننتظرهز
قال ممثل أنصار الظلام
ومدينة الاباة، مودعا علي الحوات الذي انطلق مرفوقا برئيس مركز الحراسة ذاته،
والبسمة على شفتيه، رغم آلام يده اليسرى.
-36-
بينما كان وفد القرى
السبع، ينتظر رجوع علي الحوات من القصر، قلقا، بعد أن أوشكت الشمس على الغروب، جاء
فارس، من قرية الأعداء، يعلمهم بان علي الحوات، عثر عليه في مدخل المدينة، مغمى
عليه، والدماء تسيل من فمه.
في تلك الاثناء دخل مبعوث
من القصر، ليقول للوفد، أن علي الحوات، شتم في حضرة كبير المستشارين، صاحب الجلالة،
وأنه أنزل به العقاب الذي يستحقه.
ما العقاب؟
تساءل ممثل انصار الظلام
وقرية الأعداء، فاعتذر المبعوث، بأنه لم يكلف أن يقول غير ماقال، وأنه لولا تقدير
جلالته، لوفد يمثل السلطنة كلها، لما اضطر إلى أعلامهم، بعقاب نزل بواحد من الرعية
شتم جلالته.
امتطوا جيادهم، وقبل أن
ينصرفوا، طلب رئيس مركز الحراسة من ممثل أنصار الظلام أن ينفرد، ليحدثه في أمر
هام.
بلغتنا بعض شائعات عن
مشكل علي الحوات في القصر. أن له أعداء خطيرين، يعتقدون أنه سيشى بهم لجلالته، لذا
بذلوا كل مافي وسعهم لمنعه من الاتصال بالعرش، بلغنى أنهم قالوا، ليمنع من
التعبير، حتى لانخشاه أبدا.
ايكونون قد انتزعوا
لسانه؟
تساءل المندوب، فعلق
مسئول المركز:
وكيف تردهم أن يحرموه من
الحديث أن لم يقصوا لسانه لاشك أنهم يعنون ذلك.
يالهم.
قال المندوب، فرمقه رئيس
الحرس، بنظرة تأنيب، وكأنما يقول له. لا تشتم في حضرتىز انك تحرجنى، ثم رفع صوته:
بخسة آلاف قيراطن يصل
جلالته، أوصله بنفسي.
ماذا يفعل عند جلالته،
بعد أن فقد ذراعيه، ولسانه ماذا سيقول على الوات المسكين، غير أن ينظر بعينيه
البريئتين؟
فكروا جيدا، يستطيع
جلالته ان يفهمه حالما يراه.
وهل تعتقد أن جلالته حى؟
انك تحرجنى أيها السيد،
فكروا جيدا. خمسة آلاف قيراط لاغير.
اتخذ مندوب انصار الظلام،
وقرية الأعداء، قرارا سريعا، املاه الموقف، " ليتوجه كل واحد منكم إلى قريته،
ويلقى في ساحتها خطابا يشرح فيه القضية".
أكدوا على أن العداوة
وقفت بين القصر وبين السلطنة، وعلى ان الأعداء هم الذين يحكمون.
لقد أراد علي الحوات، ان
يعبر عن ولائه وطاعته مدفوعا بطيبة قلبه فمنعوه من ذلك. لقد عاقبوه شر عقاب.
انتزعوا منه يديه، حتى
ينزعوا عنه صفته، وانتزعوا لسانه حتى لا يقول لكم الحقيقة التي رآها.
انطلقوا نحو قراهم،
وانطلق النبأ المحزن يسبقهم.
-37-
هل رأيت السلطان يا علي
الحوات؟
سئل في قرية الأعداء، بعد
أن اسعف بأدوبة اوقفت نزيف الدم والآلام. فادار رأسه يمينا وشمالا.
من أنزل بك يمينا وشمالا.
رفع حاجبه إلى فوق، ومطط
شفته السفلى.
أهو كبير المستشارين؟
أجاب برأسه، أن نعم،
استبشر الانبياء والمرسلون والحكماء ورئيس قرية الأعداء، وتوقعوا المزيد من
المعلومات.
أهو عدو؟
لم يجبهم علي الحوات،
واستغرق في استعادة حادث الصباح، الأليم.
أزاحوا العصابة عن عينيه،
فوجده، هو، كما توقع جابر، اخوه الاكبر.
لم يجد بدأ من الابتسام.
تراءه له الدم الواحد الذي يجرى في عروقهما. والثدى الواحد الذي رضعاه، والماضى
المشترك.
كيف لايمكن أن يبتسم
المرء وويرى أخاه؟.
تساءل، وتأمل وجه جابر، الذي
كان لايعبر عن شيء. لم يأمره بالجلوس. لم ينهض ليسلم عليه، كان يستقبله كصاحب سلطة
لا غير.
شعر بالذنب، وانهم نفسه
بأنه ارتكب اثما ما. أعاد الابتسام لجابر، فلم يجبه بشء، انه يحبه. هو الكبير. هو
أبوهم في الحقيقة.
هكذا تطاردنا ياكلب.
أنا لا اطاركم اطلاقا،
انظر ماذا فعل في مسعود وسعد، ومع ذلك ل أحدث احدا كل ماهناك، أنني نذرت ما أن بلغنى خبر
نجاة جلالته من هجوم الأعداء.
ومذا جئت اليوم تفعل،
مصحوبا كالعروس، بسبعة أشخاص؟
قاطه جابر، فمهمه علي
الحواتن ثم راح يجيبه في هدوء:
أنا مظلوم. المسألة لم
تعد تتعلق بى فحسبز القرى السبع كلها صارت تدفعنى، أريد فقط، أن أرى جلالته، واعبر
له عن طاعتى وولائى واخلاصى.
هكذا تعترف بذنوبك كلها،
ما أن تسلمنا الحكم، حتى برزت كغراب الشؤم، توقد نار الفتن في القرى، فخرجت قريتنا
من نحفظها واستعاد الخصيان رجولتهم، وحمل الصوفية السلاح. انك تتآمر مع الأعداء يا
علي الحوات.
لقد عقدت العزم ألا اتعرض
لكم بسوء اطلاقا. انتم اخوتى، أولا وقبل كل شيء، فكيف لى أن أضركم. ولاشك أنكم
تبتم، ولم تبقوا شريرين مجرمين.
هذا كلام مغفلين يا علي
الحوات، عندما يتعلق الأمر بالحكم، تزول الاعتبارات والعواطف. ياسياف خذ. اسكته إلى
الابد، وقل لهم، أن يرموه قرب قرية الأعداء.
هل هم لصوص يا علي الحوات؟
سأله رئيس قرية الأعداء،
فأوما برأسه: لصوص لصوص، الاصوص، قتله مجرمون.
-38-
في الصباح الباكر نهض علي
الحوات، واسرع نحو باب خروج مدينة الأعداء، التحق به جمعكبير يتساءل، عن وجهته.
القوا عليه عشرات، وعشرات الاسئلة، فم يجب على اى واحد منها.
كان يلتفت اليهم، ويحدق
فيهم مليا، ثم يذرف دمعات.
بكى حوله النساء
والأطفال، وبعض الشبان الصغار.
بعضهم بكى يده اليمنى.
بعضه بكى يده اليسرى.
بعضهم بكى لسانه.
معظمهم بكى دموعه.
رجوه أن يبقى يوما آخر،
حتى يسترجع قواه بعد الدم الغزيلا الذي فقده، وحتى تتخذ القرى السبع،قرارا في المسألة،
ألا أنه لم يأبه بهم.
امر رئيس القرية، ان
يعيدوا اليه الجواد الذي كان قد استعاره، وقال اه:
هدية. انه لك.
ظهرت علامات الامتنان على
وجهه، "كانت اللفتة في محلها" قال في سره، واستعان بأحدهم على امتطاء
الجواد، ركبه وأم القصر.
اتريد نقودا، الاربعة
الاف قيراط التي جمعتها لك القرى، لاتزال هنا هاكها.
لم يجب، ولم ينتظر، كان
مرفوع الرأس. مستقيم الظهر، يتشبت بذراعية معا باللحام، في حين راح الحصان يسير
بخطوات ثقيلة، مطاطئ الرأس، كأنما هو منشغل بهموم علي الحوات بدوره.
وصل المركز الاول،
استقبله الحراس مشدوهين، هاهو عاد. ماذا يريد؟ هل معه نقود ذهبية؟ ماذا نفعل به.
لم يكن في وسعه أن يقول
شيئا. زكانوا على علم بذلك، فراحوا يتبعون حركات عينيه ووجهه وهم يسألونه. ألا أنه
لم يعبر عن شيء.
كان منتصب على الجواد
كالتمثال، وكانت الدموع تنهمر من عينيه.
دعوه يمر.
قال رئيس المركز الاول،
واصل طريقه استوقفوه في المركز الثانى لحظات ثم خلوا سبيله، كان بعضهم ينزع اللثام
عن وجهه، ولا يرده، كأنما هو يتبرأ من الانتساب إلى القصر.
قطع المركز الثالث،
فالرابع فالخامس فالسادس وعندما بلغ السابعن أمره رئيسه باتباعه.
سأدخلك من باب سرى، تصل إلى
جلالتهن شاءوا أم كرهوا إذا ماقلت له انك علي الحوات، فهم المسألة كلها . لقد رفعت
اليه التقارير.
ود علي الحوات، أن يطرح
أسئلة كثيرة عنه، ود أن يشكره، وهو يجد نفسه داخل لقصر، غير معصوب العينين،يرى
الاشجار الباسقة، وبرك المياه المذهبة، وحدائق الزهور الشاسعة، وأقفاص الطيور
الزبرجدية، والجوارى العاريات، يثين إلى البرك، ويقفن في النوفذ نا وهناك.
لم يستطع أن يشكره، حتى
ببسمة.
كان همه أنقل بكثير من
عجزه عن الكلام.
اتجه به إلى بناية صغيرة،
ادخله فيها وطالب منه أن ينتظر، حتى يحضر من يصطحبه إلى الايوان.
امتثل علي الحوات، وظل
يرقب مطاطئ الرأس، غير مهتم بم حوله، ومن حوله، إذا ماوقفت أمام جلالته، عرفنى
وفهمنى، سيرئى لى، وسيعرف أعدائى وأعداءه، جلالته قوى وذكى، وعظيم، وقادر، سيفهمنى
وسيينتصر لى منهم
-39-
أعلنوا في ساحة قرية
التحفظ، أنه لن يهدأ لهم بال، حتى ينتقموا لعلي الحوات.
نقطع يد الحاجب اليمنى
ورجله اليسرى.
قال الشاب، وأضاف كهلك
نقطع يد رئيس الحرس
اليسرى مع رجله اليمنى.
قال شاب آخر:
اما كبير المستشارين،
فنقطع لسانه وانفه.
وأعلنوا في ساحة القرية
الثانية، أن اللصوص لا ذنب لهم، وإنما الذنب من فسح لهم المجال.
الانتقام الحقيقى هو ذلك الذي
يكون من السلطان الغافل ذاته. وأعلنوا في القرية الثالثة، أن الانتقام يجب أن يكون
من اللصوص ومن حاميهم أيضا، وانهم لن يضعوا السلاح ، حتى ينصروا علي الحوات.
أما بنو هرار، فقد أعلنوا
أن الانتقام الحقيقى، هو انتزاع كامل جدران القصر وترك من فيه عراه حفاة ألف سنة.
وأعلن اهل قرية الحظة، أن
الانتقام الذي ليس بعده انتقام، هو أن يسقى السلطان وحاشيته، والحرس والخدم، وجميع
من يضمهم القصر الملعون من عقار الحكيم.
ليس أكبر من خصى الرجا
وأهاجة النساء انتقاما لعلي الحوات المسكين.
واعلن المتصوفون. انه،
للانتقام لعلي الحوات من اعدائهن ليس أفضل من ربط الأعداء بالاغلال والقيود، في رأس
قمة النسور ليموتوا نهشا، تارة من أعينهم، تارة من فروجهم، وتارة من السنتهم وتارة
من قلوبهم.
وعلي الحوات لا ينصر
بالكلام فقط.
إلى الساح، أيها الشرفاء.
هتف العذراء، فردد الجميع
هتافها، وتسارع الجميع إلى الاسلحة التي اكتسبوها من جيش السلطان ومن اعانة
أصدقائهم الاباة.
في مدينة الاباة، أعلن عن
شيء آخر، أهم بكثير من الانتقام بهذه الوسيلةأو تلك، وبهذا الاسلوب أو ذاك.
قال رئيس قرية الأعداء:
من اليوم فصاعدان تنتهى
آلام الرعية، لقد تحقق حلم الانبياء والمرسلين والحكماء والعلماء.
أما انصار الظلام، فقد
أعلنوا عن خروجهم إلى الحياة العلنية، وعن تخليهم عن السلطان نهائيا، والبحث عن
سلطان لائق من مدينة الاباة.
وهتف صاحب الرقاع والقلم
والدواة، باسم فرقة نصرة علي الحوات يردد على نغمات الناى والرباب وايقاعات الطيل:
لتكن العذراء زوجة علي
الحوات سلطانة.
انها احبته مثلما أحبها.
ليس أرق والين، وانسب
لاهل القرى السبع، الذين ملوا الطغيان، من قلب عذراء تحب علي الحوات.
عاشت العذراء سلطانه، عاش
الحب الكبير.
-40-
طلبت جارية من علي الحوات،
أن يغير ثيابة بثياب اليق بمقام صاحب الجلالة وساعدته على ارتداء قفطان مطرز
بالذهب واللؤلؤ، ووضعت في رجلة حذاء فخما وعطرته، ووضعت العصابة على عينيه، وراحت
تقدم بخطوات متئدة، وهى تهمس:
اتبعنى اتبعنى، لاعليك
الطريق مستقيم.
سارت به حوإلى الاربع
ساعات،ثم أودعته لجارية أخرى، ظل يتبعها حوإلى أربع ساعات أخرى ثم تولت أمره جارية
ثالثة، فرابعة فخامسة، فسادسة، فسابعة.
كان قد شعر بالارهاق،
وتمنى لو يغفو ولو لظات قصار، كانت قواه خائرة من جراء الدماء التي نزفت من لسانه
أمس والدموع التي ظلت تنهمر من عينيه كامل صباح اليوم، اضافة إلى كل ذلك سير مسافة
تخور منها قوة جمل.
سأل الجارية أن تتركه
يستريح قليلا، فردت عنه برقة:
كل شيء هنا يسير بنظام
دقيق، لايمكن لتوقف اطلاقا، على كل، لقد وصلنا.
شعر بشيء، مثل النسيم
يلفح وجهه، ممزوجا بروائح متنوعة، تنبعث من كل جانب، فأيقن بأنه وصل.
ازاحت الجارية العصابة عن
عينيه، فراح يفتحها ببطء منبهرا بالانوار المتلألئة من الزبرجد والياقوت والذهب
والفضة.
كانت القاعة جد فسيحة،
تغطى جدرانها ستائر سابرية هفهافة من كل لون، تشع فيها أنوار مختلفة الالوان،
لايدرى الانسان أهى منبعثة من أشعة الشمس أم من غيرها.
هل القاعة مستقلةز ام
مرتبطة بمقاصير عديدة تخفيها الستائر، لا أحد يمكن أن يعطيه الجواب، ث ماذا يهمه،
ماذا هذا التساؤل، انه في الايوان وسيتجلى له بعد قليل صاحب الجلالة.
رت لحظات وسيتجلى، ثم
انتهى إلى سمعه صوت خيل اليه أنه صوت مسعود يحاول ان يغيره:
أنت في حضرة صاحب
الجلالة، تكلم ماهى حاجتك؟
بحث علي الحوات عن مصدر
الصوت، فلم يقابه سوى الستائر، تيقن من أنه في قاعة مرتبطة بمقاصير عديدة، وأن
جلالته في واحدة منها.
غير انه طلب منه أن
يتكلم، طلب منه المستحيل.
هكذا لو أنني أقوى على الكام، ماذا
سأقول بالضبط ؟ هل أبادره يا صاحب الجلالة تقدمت اليك بهدية، وحي تعرفت على أعضاء
حاشيتك، وهم من كبار اللصوص القتلة عاقبونى شر عقاب، نزعوا عنى صفتى كحوات يقطع
يدى ونزعوا منى صفتى كانسان بقطع لسانى آه ياصاحب الجلالة. أن لم تسرع إلى القضاء
على هؤلاء اللصوص، قضوا على ملكك، لا قدر… وياصاحب الجلالة أنا لا أطمع في شيء ولا أطمح لشيء،
كفانى أنني حوات بارع في سلطنتك، أقدم لجلالتك كل سمكة جميلة يهبها لى وادى قرية
التحفظ المعطاء.
ألا أنني ياصاحب الجلالة، لدى
التماس، الرعية في حالة تعيسة يا مولاي. حرسك يظلم، جيشك يهينويقتل. الصلة بينك
وبينهم مقطوعة فاربطها، فانهم كلهم يحبونك، وسيحبونك اكثر ياصاحب الجلالة. أزل
المراكز السبعة التي تقوم في وجه من يقصد قصرك، وستضال المسافة التي بينك وبين
الرعية. لو رأيت يا مولاي آلاف رسائل الشكاوى والتظلمات، تلوح بها الايدى في كل
قرية.
لا، لن أقول لجلالته هذا
الكلام. الأعداء الاخوة أخوة لى، ولن أعاملهم الا بما تتطلبه الاخوة- علي الحواتالخير،
القلب الاكبر، مستعد أن يمنح من أجل حبه كل شيء فيه، ليس اليدين أو اللسان، فحسب،
وإنماحتى البصر، حتى الحياة، كيف يقتنع اخوتى بطيبتى وبخيرى، ان لم أكن أخا يفهم
جميع طبائعهم، علي الحوات لا يثور لجشع أعداء ضعفاء النفوس.
علي الحوات سمة العصر،
ومعشوق الوديان، لن يصدر عنه أذى لاى كان حتى لمن نكلوا به.
يا صاحب الجلالة ويا
مولاي، ليس لى أى غرض أو هدف غير أن أقول لجلالتك: إنني رعية طيع موال، يحبك
الحب الجم.
بلغنى أنك تعرضت لكيد الأعداء
ونجوت، فهزنى الكرح، ووددت لو أعبر لجلالتك باسم جميع الحواتين عن مشاعر حبنا،
حملت لك أجمل سمكتين في جميع الانهر والوديان لما لم أر وجهك سواء المرة الاولى أو
الثانية، طلبت أن أحظى بالتعبير الشفوى لجلالتك عما كافنى به ضميرى والحواتون
والرعية جميعهم.
لكن هل يجوز أن اكذب في حضرة
جلالته؟ هل من الاخلاص والحب له، أن اكذب في حضرته؟
لا،لا لن اقول شيئا في حضرته،
سأظل أبكى، سأبكى فليعذرنى.
أيها الغريب تكلم فانت في
حضرة صاحب الجلالة.
كان الصوت يشبه إلى حد
كبير، صوت سعد، أنه صوته بالذات، ادخل عليه تغييرا طفيفا.
ادور باكيا، حتى يلمحنى
مولاى، اينما كان.
وراح يدور في مكانه ببطء،
وكلما توهم أن بصر جلالته يقطع عليه ازادات عبراته انهارا وشعر باعتصار كثير،
يعترى قلبه.
أين ذراعا الرجل؟
كان الصوت يشبه كثيرا صوت
جابر الخبيث.
سرق بطيخة يا مولاى، جرى
عدلك يا مولاي بقص اليدين، كانت البطيخة كبيرة، فاضطر إلى استعمال يديه الاثنين يا
صاحب الجلالة.
انبعث صوت مسعود يرد في لهجة
خبيثة، ثم تساءل صوت جلبر باسم جلالته:
ولم لا يتحدث هذا الرجل؟
أجابه صوت سعد:
لعله أبكم يا مولاي.
فتح على الحواب فمه، وكشف
عن بقية ضئيلة من لسانه، فهتف سعد:
انه مجذوم اللسان ياصاحب الجلاة.
لاشك أنه تعرض لجلالتكم ببعض كلمات نابية، فنال عقابه على يد رجال حرسنا الاوفياء
الاشداء.
قال صوت مسعود، فتساءل
صوت جابر:
ولم يبكى هذا البكاء
الحار، أن يقول لجلالتم انه مظلومز أن هذا البكاء لايصدر الا عمن يستشعر الظلم
ياصاحب الجلالة.
رد صوت سعد في خبث،
فانبرى صوت جابر يأمر:
فلتفقا عيناه، أيستشعر
أحد الظلم في سلطنتى؟ أن هذا لا يكون الا من الأعداء.
قبل أن يخرجوا بعلي
الحوات. لمس بمرفقه، موضع القلب من صدره، وود لو كان في امكانه، أن يقول لهم
" الا هذا لن تنالوه منى، انه الموضع الوحيد الذي لن تقووا على تشوبهه".
-41-
يقال إن علي الحوات، رفع
من القصر بقوة خارقة. صارت السمكة التي كانت في احدى برك القصر، حصانا بسبعة
اجنحة، امتطاه علي الحوات وطار به إلى وادى الابكار، وان الجنية الشبقة اعادت له
كل الاعضاء التي فقدها وتزوجته.
يقال إن علي الحوات سمع
وهو في قاعة الجلادين ضجة كبيرة.
هتافات رجال، طلقات
بارود، نقرات قوية على الطبول، صياح جوارى وغلمان، وأن الجلادين فقأوا عينيه،
وولوا هاربين وهم يهتفون:
القصر انهار، الرعاع فكوا
الاسوار، شلوا الحراسة وهم الان في قلب الايوان.
يقال إن الهجوم تم فعلان
وأن المراكز السبعة استسلمت قبل أن تصلها الجيوش الجرارة التي شكلتها القرى السبع،
وان الجيش السلطانى، انهزم قبل أن يخرج لملاقاة الغزاة، وأن ابواب القصر التسعة
والتسعين، بما فيها السرية والخلفية اتفتحت قبل أن تدك، وان كل من في القصر كانوا
مصطفين رافعين أيديهم مستسلمين سئلوا:
من السلطان؟
لم يتقدم أحد.
من السلطانة ؟
لم يتقدم أحد، أشار بعضهم
إلى الحاجب وريس الحرس وكبير المشتشارين، قانحنوا يلعقون التراب بألسنتهم، في حين
هتف قائد جيش قرية التحفظ.
هؤلاء اخوة علي الحوات،
المجرمون السفاحون لقد اعترفوا في الساحة وكشفوا عن سرائرهم الخبيثة، هذا هو العرش
اذن.
يقال إن السلطان
والسلطانة، برزا من ضمن جيش مدينة الاباة، وأعلنا بكل تواضع، انهما مجرد مواطنين
وانهما اقتنعا.
يقال إن علماء مدينة
الاباة، صبوا عقار احياء الحاسة السابعة عشرة الذي توصلوا اليه، قبل يوم واحد، في جميع
الابار والاعين والسواقى، وان كل الرعية، قبل يوم واحد، في جميع الابار والاعين
والسواقى، وان كل الرعية تحولوا من تلقاء أنفسهم إلى سلاطين، بما في ذلك سكان
القصر، وان علي الحوات استعاد كل اعضائه المفقودة وتوج العذراء التي كانت بحق
سلطانة السلطانات.
يقال، أن الدموع علي الحوات
اغرقت القصر في فيضان، وأن جدران القصر، وكل صخوره، تحولت إلى ملح، وراحت تذوب
وتذوب ، فما أن فقأ الحراس عينى علي الحوات، حتى أنهار كل شيء ونجا علي الحوات
بفضل السمكة التي حملته على ظهرها، وهربت به.
يقال، أن علي الحوات، ما
أن فقئت عيناه حتى صار وهجا، ارتفع إلى السماء، ثم صار شمسا، هبطت على القصر،
فتحول إلى دخان أزرق، وعندما وصلت جيوش الانتقام، لم تجد سوى الرماد.
تقال أشياء كثيرة حول
نهاية السلطنة، وعلي الحوات والقصر.
كل الاقاويل ، تجمع على
القصر انتهى ، وان حلم المتصوفين تحقق.
والمهم، في كل حكاية علي
الحوات، المهم أكثر من أى شيء، أن الحقيقة تجلت، وأن أعداء علي الحوات لم يستطيعوا
أن يمنعوه من التعبير عن الخير الذي جاء بسم العصر به.