الفصل الثالث المنهج التاريخي |
* مقدمة :
سبق أن
أشرنا في تقسيم أنواع البحث أن المنهج التاريخي يصف ويسجل ما مضى من وقائع وأحداث
الماضي، ولا يقف عند مجرد الوصف وإنما يدرس هذه الوقائع والأحداث ويحللها ويفسرها
على أسس علمية بقصد التوصل إلى حقائق وتعميمات لا تساعدنا على فهم الماضي فحسب،
وإنما تساعد أيضاً في فهم الحاضر بل
والتنبؤ بالمستقبل .
ومن خلال الوصف السابق
للمنهج التاريخي يمكننا تبين وظيفتين رئيستين له هما: التفسير والتنبؤ . أما
التحكم أو الضبط المقصود للمتغيرات فهي وظيفة ترتبط بالتجربة العلمية وتخص المنهج
التجريبي أكثر من المنهج الوصفي والتاريخي .
* هل المنهج
التاريخي في البحث منهج علمي ؟
ـ لا يعتمد المنهج التاريخي على التجربة
العلمية المضبوطة .
ـ لا يمكن استخدام الملاحظة المباشرة
الدقيقة .
ـ لا يؤدي
البحث التاريخي إلى التوصل إلى تعميمات وقوانين علمية لها نفس الدقة والكفاية
العلمية مثل التي يحصل عليها الباحث في مجال العلوم الطبيعية.
ورغم كل ما سبق
:
ـ ليس هناك ما يمنع الباحث التاريخي من
مراعاة وتطبيق خصائص وأسس المنهج العلمي في الدراسات التاريخية كلما أمكن ذلك.
ـ إن التجربة
وحدها أو التوصل إلى قوانين وتعميمات معينة لها خصائص القوانين والتعميمات في
العلوم الطبيعية هي التي تُفرق بين منهج علمي وآخر غير علمي، أو بين العلمية وغير
العلمية.
ـ أن هناك خصائص ومعايير أخرى يمكن أن
يتصف بها البحث التاريخي تجعله بحثاً علميا، مثل الدقة، والصحة، والموضوعية،
والأمانة الفكرية، والقياس الكمي، وإدراك العلاقات.
ـ أن المنهج التاريخي يستلزم تناول
مشكلات معينة وتحديدها في وضوح ودقة، وجمع البيانات والتحقق منها، واستخدام أسلوب
فرض الفروض، والتحليل، والتفسير، والتوصل إلى نتائج تساعد في فهم الحاضر وربطه
بالماضي، وكذلك التنبؤ بالمستقبل.
هذا يجعل من منهج
البحث التاريخي منهجاً علمياً ومن المادة التي نتوصل إليها عن طريق هذا المنهج
مادة علمية.
* أهمية المنهج التاريخي في المجالات التربوية :
1 ـ توفر الدراسات والبحوث التاريخية
محتوى معرفياً علمياً لتاريخ التربية والتعليم في دولة معينة أو في دول العالم
المختلفة، ويُستخدم هذا المحتوى في الإعداد المهني للمعلمين والمشتغلين بالأمور
التربوية والتعليمية.
2 ـ تزودنا نتائج البحوث التاريخية بمعرفة عن : الأهداف ومحتوى المقررات
وطرق التدريس وأساليب التقويم وأسلوب إعداد المعلم، وغير ذلك من القضايا والسياسات
التعليمية التي اتُبِعت في الماضي، ومثل هذه المعرفة لها أهميتها في تحديد
العمليات والخطوات اللازمة لتطوير التعليم في الحاضر والمستقبل.
3 ـ تمكننا البحوث التاريخية من تفسير الكثير من الممارسات والمشكلات
التعليمية القائمة في الواقع التعليمي في حاضره ومدى ارتباطها بهذه الجذور
التاريخية، ومن أمثلة ذلك مشكلة الأمية، ومشكلة التفاوت في المستوى العلمي والمهني
لمعلمي المرحلة الابتدائية.
4 ـ تكشف لنا البحوث التاريخية جوانب أصيلة في تراثنا التربوي العربي
والإسلامي في مجال النظرية والتطبيق التربويين، وهذا يتيح الفرص للاستفادة منه
وتحسين عمليات التربية والتعليم ونواتجها في الحاضر والمستقبل.
عمليات أساسية في المنهج
التاريخي
يتضمن
المنهج التاريخي خمس عمليات أساسية هي:
1 ـ اختيار
موضوع البحث. 2
ـ جمع المادة التاريخية.
3 ـ نقد المادة
التاريخية. 4
ـ عرض المادة التاريخية وتفسيرها
5 ـ كتابة تقرير
البحث.
وفيما يلي توضيح لكل
من هذه لعمليات بإيجاز:
اختيار موضوع البحث
التاريخي يتحدد عادة في ضوء الإجابة عن الأسئلة التالية:
(المنطقة الجغرافية قد
تتسع لتشمل دول مجلس التعاون الخليجي، وقد تضيق لتشمل دولة الإمارات، أو الإمارات
الشمالية فقط).
(قد يكونون فئة من
المجتمع مثل المطوعين، أو معلمي المرحلة الابتدائية، وقد يقل العدد إلى شخصية
واحدة فقط مثل الأفكار التربوية عند الإمام الغزالي).
(قد تكون فترة طويلة
مثل تطور النظام التعليمي في دولة الإمارات خلال الـ 50 عاماً الأخيرة، وقد تقصر
مثل دور جمعية المعلمين في تطوير أداء المعلمين خلال السنوات الخمس الأخيرة)، وقد
تتعدد أسباب حدوث الظاهرة المستهدف دراستها (الأمية مثلاً)، وقد تقل.
في ضوء كل هذه العوامل
وكذلك في ضوء اعتبارات كفاية الخبرة، وتوفر مصادر الحصول على المادة التاريخية،
والوقت، والتكلفة، ينبغي أن يختار الباحث الموضوع الأكثر مناسبة.
جمع المادة التاريخية
ودراستها وتحليلها يثير صعوبات عديدة للباحث الذي يستخدم المنهج التاريخي، ويرجع
ذلك إلى أنه لا يعيش الزمن أو العصر الذي يدرسه، ويصعُب عليه تكرار الأحداث التي
يدرسها، أو إخضاعها للملاحظة المباشرة، ومن هنا يضطر إلى جمع المادة التاريخية عن
طريق مصادر أخرى.
ويُقسِّم المؤرخون
المصادر التاريخية إلى نوعين رئيسين أولهما يُعرف بالمصادر الأولية، وثانيهما
بالمصادر الثانوية :
1 ـ المصادر الأولية:
تشمل هذه المصادر
أقوال أشخاص يُشهد لهم بالكفاءة في التأريخ ممن شهدوا الحوادث الماضية بعيونهم أو
سمعوها بآذانهم، أو بمعنى آخر عاشوا هذه الأحداث وعلى وعي صحيح بها.
كما تشمل المصادر
الأولية الآثار وهي تُعبر عن بقايا حضارات
أو أحداث وقعت في الماضي، وتشمل المباني، والأدوات، والرسوم، والمعابد، والتماثيل،
والكتب، والشهادات، وكشوف السجلات، وكشوف الحضور والغياب في المدارس، وكتابات
التلاميذ ورسوماتهم، وكراسات الإجابة عن الاختبارات.
ومثل هذه
الآثار لم يُقصد أصلاً من وجودها أن تنقل إلينا البيانات والمعلومات عن العصور
التي ظهرت واستُخدمت فيها، لذا يلجأ الباحث إلى مصادر أولية أخرى مثل الوثائق.
والوثائق
على عكس الآثار عُملت أساساً لكي تنقل إلينا معلومات عن وقائع وأحداث ماضية، فهي
تُكتب عادة بواسطة أشخاص اشتركوا فعلاً في واقعة معينة أو على الأقل شهدوها، وتأخذ
الوثائق أشكالاً متعددة ومن أهمها:
ـ السجلات الشفهية: مثل الحِكم والأمثال، والقصص، والخرافات، والحكايات الشعبية.
ـ السجلات المكتوبة:
مثل:
أ ـ
السجلات الشخصية: مثل كتابة اليوميات، والسير الذاتية، والمسودات الأصلية
للمحاضرات والكُتب.
ب ـ
السجلات الرسمية: مثل الدساتير، والقوانين واللوائح، والإحصاءات والتقارير،
سواء أصدرتها الدولة، أو مؤسسات علمية أو مهنية داخل الدولة.
ج ـ
السجلات المصورة: مثل الرسوم والنحت، والصور الفوتوغرافية، وصور الأفلام
بأنواعها، وطوابع البريد، والعُملات.
د ـ
السجلات الصوتية الميكانيكية: مثل التسجيلات الصوتية بأنواعها.
وفي مجال التربية والتعليم: فإن المباني
المدرسية القديمة، والأثاث المدرسي، والكتب والوسائل التعليمية، ووسائل العقاب،
والامتحانات، وأشكال الشهادات، وكراسات التلاميذ، والتقارير المختلفة عن التعليم
تمثل جميعها أنواعاً من الآثار والوثائق التربوية.
* ملاحظة هامة:
الآثار كمصدر أولي للمادة التاريخية لا تؤدي إلى كثير من
الأخطاء إلا من حيث صحة نسبتها إلى عصورها التاريخية، لأنها تُمثل أثراً مادياً
ولذلك تتكافأ مع الحقيقة غالباً.
أما في
حالة الوثائق فاحتمال
الخطأ أكبر لأنها تُعبّر عن الآثار المتبقية في نفسية الإنسان عن الواقعة أو الحدث
التاريخي، وبالطبع تتأثر نفسيته بعوامل كثيرة قد تؤدي إلى الخطأ أو تحريف الحقيقة.
وفي كثير
من الأحيان لا تكون المصادر الأولية غير كافية لإعطائنا صورة متكاملة عن طبيعة
المشكلة أو الموضوع المُزمع دراستها، فيلجأ الباحث إلى المصادر الثانوية.
2 ـ المصادر الثانوية :
تشمل هذه المصادر ما
يرويه شخص معين من معلومات نقلاً عن شخص آخر شاهد فعلاً واقعة معينة في الماضي أو
شارك فيها، ويُشهد له أيضاً بالكفاية.
وواضح أن المصدر
الثانوي يروي عن مصدر أولي، وأن الراوي الثانوي لم يكن حاضراً الواقعة، وإنما هو
يروي أو يكتب ما قاله أو كتبه شخص آخر حضر فعلاً هذه الواقعة.
ومعظم كتب التاريخ
ودوائر المعارف يكتبها أشخاص بعيدين عن الرواية الأصلية والملاحظة المباشرة
للوقائع، وبالتالي فهي أمثلة لمصادر ثانوية.
والمصادر الثانوية
عادة ما تكون محدودة القيمة بالمقارنة بالمصادر الأولية حيث أن احتمال الأخطاء في
المصادر الثانوية أكبر نتيجة انتقال البيانات من شخص لآخر، وتكرار هذا النقل عن
الآخرين أكثر من مرة، وعلى الرغم من ذلك فإن المصدر الثانوي له أهميته في تزويد
الباحث بمعلومات عن الظروف والآراء التي قيلت في المصدر الأولي.
وأحياناً يبدأ الباحث
بالاطلاع على المصادر الثانوية لعدم العثور على المصادر الأولية وقد يعثر على
توثيق لها في المصادر الثانوي، فمثلاً إذا أراد باحث معين دراسة التطور التاريخي
للتعليم الديني في دولة الإمارات العربية المتحدة، فإنه قد يبدأ بدراسة بعض الكتب
التي تناولت قضايا التعليم الديني في دولة الإمارات وهي تُعتبر مصادر أولية، ومن
خلالها قد يستدل على مصادر أولية للدراسة، وأماكنها، ووقت تسجيلها … الخ.
من العمليات الأساسية
في المنهج التاريخي نقد المادة التاريخية التي يجمعها الباحث، سواء حصل عليها من
مصادر أولية أو ثانوية، وذلك للتأكد من صدق مصدر هذه المادة، وصدق المادة، وهذا
يتطلب من الباحث أن يفترض مقدماً أن المعلومات التي يجمعها تحتاج إلى نقد وإثبات
لصحتها.
وينقسم النقد التاريخي
إلى نوعين رئيسين أولهما يُعرف بالنقد الخارجي، وثانيهما يُعرف بالنقد الداخلي :
* أولاً : النقد
الخارجي :
يهدف هذا النقد إلى
التحقق من صحة الوثائق من حيث انتسابها إلى أصحابها، وإلى العصر الذي تُنسب إليه،
ومكان كتابتها، وإعادتها إلى شكلها الأصلي إذا كانت منسوخة أو منقولة عن الوثيقة
الأصل.
ويتطلب ذلك من الباحث
التاريخي دراسة صاحب الوثيقة (شخصيته وأخلاقه ومكانته ومدى اهتمامه بالأحداث التي
يكتب عنها ومدى كفايته التي تمكنه من ملاحظة وفهم الوقائع والأحداث وتسجيلها)،
ومدى صحة نسب الوثيقة إلى مؤلفها (أو مؤلفيها) الأصلي. وكذلك دراسة عصره من حيث
خصائصه وسماته الاجتماعية والتربوية والاقتصادية … الخ.
* ثانياً : النقد
الداخلي :
يهتم الباحث في النقد
الداخلي للوثيقة بالتحقق من معنى وصدق المادة الموجودة في الوثيقة، ويمكن للباحث
أن يطرح هنا أسئلة مثل:
ـ ما الذي يعنيه
مؤلف الوثيقة من كل كلمة وكل عبارة في الوثيقة؟
ـ هل هناك اختلاف بين المعنى الحرفي
الظاهري، وبين المعنى الحقيقي الذي يقصده فعلاً كاتب الوثيقة؟
ويتطلب النقد
الداخلي ـ والخارجي أيضاً ـ من جانب الباحث التاريخي أن يُلم جيداً بلُغة كاتب
الوثيقة ولغة العصر الذي عاش وكتب الوثيقة فيه. كما يتطلب هذا أيضاً من الباحث
معرفة بالظروف الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية والجغرافية التي كانت
تحيط بكاتب الوثيقة، وهذا يساعد الباحث على فهم المعاني التي قصدها المؤلف.
تتطلب هذه المرحلة من
الباحث قدراً كبيراً من التفكير المنطقي، بحيث لا يقع الباحث في خطأ شائع، ألا وهو
محاولة تفسير الحدث أو الواقعة التاريخية بإرجاعها إلى سبب واحد، فلكل ظاهرة عدة
أسباب غالباً .
وإذا أراد الباحث أن
يُركّز على سبب معين فعليه اختيار العبارات التي تُجنبه الوقوع في الخطأ، كأن يقول
مثلاً:
ـ أن أهم أسباب
زيادة حِدة ظاهرة الدروس الخصوصية في السنوات العشر الأخيرة في دولة الإمارات
انخفاض العائد الاقتصادي من العمل في مهنة التدريس بالمقارنة بالمهن الأخرى.
بداية ينبغي التأكيد
على ضرورة كتابة البحث التاريخي بأسلوب موضوعي سليم، ولقد تبين من تقويم البحوث
التاريخية لطلاب الدراسات العليا وقوعهم في خطأ أو أكثر مما يلي :
1 ـ صياغة مشكلة
البحث صياغة فضفاضة.
2 ـ الميل إلى استخدام المصادر الثانوية المتوافرة،
بدلاً من المصادر الأولية التي قد يحتاج الحصول عليها إلى بعض المجهود.
3 ـ عدم قيام الباحث بنقد تاريخي كاف
للبيانات والوثائق التي يعثر عليها، وميله إلى تصديق كل ما يعثر عليه بحجة أن
الآخرين يصدقونها.
4 ـ افتقاد تحليل الباحث للبيانات
والنتائج إلى المنطقية، فقد يُبسّط النتائج إلى حد إفقادها قيمتها، أو المبالغة في
تعميم النتائج دون الاعتماد على شواهد وأدلة تسمح بالتعميم الواسع، أو عدم القدرة
على فهم معاني كلمات الوثائق لعدم إجادة الباحث للغة كاتب الوثيقة.
5 ـ التحيز الشخصي، وقد يحدث تحيز الباحث
لكل ما هو حديث في موضوع المشكلة، الأمر الذي يجعله غير قادر على ممارسة الموضوعية
في دراسته للماضي، أو تحيزه لكل ما هو قديم، وينعكس هذا على رأيه في كل ما هو حديث
في موضوع المشكلة. (مثال ذلك: تحيز الباحث لبنية ونظام المدرسة الشاملة، في مقابل
نظام الكتاتيب).
********