ما جاء في قتال الخوارج :
إن فهم المسألة السابقة يزيل الشبهة العالقة في أذهان كثير من طلبة العلم فيما
يتعلق بقتال الخوارج ، ويبين خطأ من عد كثير من الخارجين في هذا العصر من البغاة
لكونهم لا يكفرون بكل كبيرة ، ويبين لك كذلك تهافت ما يسمى
بمبادرات الصلح .
فقد إتفق سلف الأمة وأئمتها على قتال الخوارج وفرقوا بينهم وبين البغاة ، فلم
يتنازع الصحابة فى قتال الخوارج كما تنازعوا فى القتال يوم الجمل وصفين .
وقد عرف عن الصحابة رضي الله عنهم التفريق بين قتال الخوارج و قتال أهل البغي فقد
سلكوا في قتال الخوارج وأهل الردة مسلكاً لم يسلكوه في قتال أهل البغي وإن كانوا
يفرقون في الحكم بين الخوارج وأهل الردة كما سيأتي .
يدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه :
" تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى
الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ "
فذكر في هذا الحديث ثلاث طوائف فدل أن حكم الطائفة الثالثة وهي المارقة يختلف عن
حكم الطائفتين الأخريين .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 28/515):
" قتال مانعى الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين وهذا هو المنصوص عن
جمهور الأئمة المتقدمين وهو الذى يذكرونه فى إعتقاد أهل السنَّة والجماعة وهو مذهب
أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره وقد نصوا على الفرق بين هذا
وهذا فى غير موضع حتى فى الأموال فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج وقد نص أحمد
فى رواية أبى طالب فى حرورية كان لهم سهم فى قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم
المسلمون فأرضهم فىء للمسلمين فيقسم خمسة على خمسة وأربعة أخماسه للذين قاتلوا يقسم
بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم مثل ما أخذ عمر السواد عنوة
ووقفه على المسلمين فجعل أحمد الأرض التى للخوراج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال
الكفار وبالجملة فهذه الطريقة هى الصواب المقطوع به فإن النص والإجماع فرق بين هذا
وهذا وسيرة على رضى الله عنه تفريق بين هذا وهذا فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله
وفرح بذلك ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من
كراهته والذم عليه ما ظهر وقال فى أهل الجمل وغيرهم إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف
وصلى على قتلى الطائفتين ".
والباحث يجد في بعض كتب الفقهاء عدم التفريق بين قتال البغاة وقتال الخوارج وقد
أنكر عليهم شيخ الإسلام هذا الأمر .
ففي مجموع الفتاوى (28/486) :
قال شيخ الإسلام "ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه المسائل فى مختصراتهم
وكثير من الأئمة المصنفين فى الشريعة لم يذكروا فى مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول
الشريعة الإعتقادية والعملية كمانعى الزكاة والخوارج ونحوهم إلا من جنس قتال
الخارجين على الإمام كأهل الجمل وصفين وهذا غلط بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة
فرَّق بين الصنفين كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث والتصوف والكلام
وغيرهم ".
فالخارجون على الإمام أحد صنفين ، صنف خرجوا بتأويل سائغ وهم موافقون لأهل السنة في
باقي مسائل العقيدة فهذا الصنف يُعد أصحابه من البغاة ، وهؤلاء لم يأت الأمر
بقتالهم إلا بعد الإصلاح لقوله تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ } (9) سورة الحجرات .
وذلك أن مقاتلتها بعد الإصلاح من المؤشرات على بغيها فحينئذ لا يعد قتالها من قتال
الفتنة ، لأن الله أمر به ، وكذلك كل من ظهر بغيه لايعد قتاله من قتال الفتنة . قال
شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 4/ 442 ) " والقرآن إنما فيه قتال الطائفة الباغية بعد
الاقتتال فإنه قال تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي } الآية ، ](9) سورة الحجرات [ فلم يأمر بالقتال إبتداءً مع واحدة
من الطائفتين لكن أمر بالإصلاح وبقتال الباغية " .
وقال ( مجموع الفتاوى 4/ 443 ) " فما ورد من النصوص بترك القتال في الفتنة يكون قبل
البغى وما ورد من الوصف بالبغى يكون بعد ذلك " .
قلت : وفرق بين من خرج بتأويل سائغ كما في الصنف السابق ،
ومن يعتقد جواز الخروج على الحاكم الجائر ولو لم يباشر الخروج ، فالأول من البغاة
والثاني من الخوارج و سيأتي ذكر الدلائل على ذلك وبيان متى يحكم على تأويل
الخارجين بأنه سائغ أو غير سائغ ، وأن مرد ذلك إلى أهل الحل والعقد .
ومن أصناف الخارجين صنف ليس لهم تأويل سائغ أو أنهم وافقوا الخوارج في كثير من
اعتقاداتهم فهؤلاء يقاتلون قتال الخوارج وإن لم نحكم بكفرهم ، ويختلفون عن القسم
الأول في أن قتالهم مرَّغب فيه كما قال النبي " فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ
ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ فَطُوبَى
لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ." رواه أحمد في المسند وفي السنة
بإسناد جيد .
وأما من قال بقتل أسيرهم وإتباع مدبرهم والتذفيف على جريحهم فقد بنى قوله هذا على
تكفيرهم ، والله أعلم .
قال الحافظ ( الفتح 12/353) : " وقال الغزالي في الوسيط تبعاً لغيره في حكم الخوارج
وجهان أحدهما أنه كحكم أهل الردة والثاني أنه كحكم أهل البغي ورجح الرافعي الأول ،
وليس الذي قاله مطرداً في كل خارجي فانهم على قسمين أحدهما من تقدم ذكره والثاني من
خرج في طلب الملك لا للدعاء الى معتقده وهم على قسمين أيضا قسم خرجوا غضباً للدين
من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنَّة النبوية فهؤلاء أهل حق ، ومنهم الحسين بن
علي وأهل المدينة في الحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج ، وقسم خرجوا لطلب الملك
فقط سواء كانت فيهم شبهة أم لا ، وهم البغاة وسيأتي بيان حكمهم في كتاب الفتن
وبالله التوفيق " .
وأما وصف من خرج من أهل السنة بأنهم أهل حق فهذا قبل انعقاد الإجماع على عدم جواز
الخروج ، قال الحافظ نفسه في تهذيب التهذيب عند ترجمة الحسن بن صالح (2/250) "
وقولهم كان يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف
قديم لكن أستقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه ففي وقعة الحرة
ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر" .
وينبني على هذا كما قررنا سابقاً أن من خرج بغير تأويل سائغ فإنه يقاتل قتال
الخوارج ولا يعد من البغاة بأي حال من الأحوال ، لا كما قرر الحافظ رحمه الله .
فلم يبق من مسوغات الخروج إلا ما ذكره النبي في قوله " إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا
بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ " ، وسيأتي زيادة بيان لهذه
المسألة .
ماجاء في تكفير الخوارج :
أما تكفير الخوارج فقد صرح جماعة من العلماء بكفرهم ، قال الحافظ وهو ظاهر صنيع
البخاري حيث قرنهم بالملحدين وأفرد للمتأولين باباً آخر ، وممن صرح بكفرهم القاضي
أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي قال : الصحيح إنهم كفار لقوله صلى الله عليه وآله
وسلم ( يمرقون من الدين ) ولقوله (لأقتلنهم قتل عاد) وفي لفظ ( ثمود ) وكل منهما
إنما هلك بالكفر ، ولقوله ( هم شر الخلق ) ولا يوصف بذلك إلا الكفار ، ولقوله (
إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى ) ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد
في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم .
قال الخطابي وهو ممن يرى عدم كفرهم ، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم يمرقون من
الدين ، أراد بالدين الطاعة أي أنه يخرجون من طاعة الإمام المفترض الطاعة وينسلخون
منها.
لكن جاء في بعض الروايات في الصحيحين " يمرقون من الإسلام " فيكون المعنى أن تشددهم
هذا يوصل بعضهم إلى الكفر.
فالراجح عدم كفرهم يدل على ذلك أمور منها أن من
المقرر ، أن الخلل في التدين يأتي إما من جهة الإخلاص أو من جهة الاتباع وهما نوعا
التوحيد ، توحيد العبادة وتوحيد الاتباع ويدل عليهما شطرا الشهادتين كما ذكر ابن
أبي العز في شرح الطحاوية ، فالخوارج أتوا من جهة الإتباع ولو كان الخلل من جهة
الإخلاص لحكم بكفرهم لظاهر النصوص .
وأما تكفيرهم للمسلمين فهم فعلوا ذلك متأولين فلا ينطبق عليهم قول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم " من كفَّر مسلماً فقد كفر " .
وأما تكفيرهم بالتكذيب لشهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض الصحابة بالجنة
بشهادتهم له بالنار فلا سبيل إليه لأنه لم يثبت عندنا أنهم علموا هذه الشهادة
فكذبوها .
وقد نقل شيخ الإسلام إجماع الصحابة على عدم كفرهم ، قال الشيخ الإمام عبد الرحمن بن
حسن في الدرر( 8/ 270) " الصحيح الذي قاله الأكثرون المحققون : أن الخوارج لا
يكفرون ببدعتهم "
قال شيخ الإسلام ( منهاج السنة 5/247) : " ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا
الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من
الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما
يخاطب المسلم المسلم كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه
يسأله عن مسائل وحديثه في البخاري وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان
نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان وما زالت سيرة المسلمين على هذا
ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه هذا مع أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء
خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره أي أنهم شر
على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم لا اليهود ولا
النصارى فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين
وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة
ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين
ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة
وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة "
وحجة من قال بعدم كفرهم ما جاء في الصحيحين :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ فِيكُمْ
قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ
وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ
حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ
فَلَا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَيَتَمَارَى فِي
الْفُوقِ *
فقوله " وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ " ، الفوق هو الحز الذي في آخر السهم والمعنى ،
يشك هل علق به شيء من الدم واللحم ، ذكر ذلك ابن عبد البر في التمهيد والحافظ في
الفتح وهذه اللفظة من حجج من قال بعدم كفرهم والله أعلم .