3 الذاكرة قصيرة المدى :
تظهر المعطيات الإكلينيكية و التجريبية أن الذاكرة قصيرة المدى تتشكل من حيز زماني لا يتعدى بعض مئات جزء من الثانية ، وهي تكون سجلا تذكريا يتميز بمعلومات هشة وسريعة الاندثار و النسيان . ويتلاءم هذا مع المعطيات التجريبية التي تبين أن جهـد العمل المتنقل عبر المسالك العصبية النشيطة و الخاصة بهذا السجل التذكري هو الذي يجسد المعلومات الخاصة بالذاكرة القصيرة المدى وهي معلومات كهروفيزيولوجية محصنة . كما تبين هذه المعطيات التجريبية الواضحة أن ميكانيزمات مرور الدفعات الكهروبائية من خلية عصبية إلى أخرى لا يمكن تصورها دفعات لها نشاط مستديم .بالفعل ، يتميز جهد العمل بنشاط جد محدود حيث إنه لا يتعدى بعض آلاف أجزاء الثانية . ويفـسر هذا "هشاشة" وسرعة اندثار المعلومات ونسيانه في الذكرة قصيرة المدى . لقد أجريـت التجارب كثيرة في علم النفس التجريبي وعلوم الأعصاب على الإنسان و الحيوان لدراسـة هذه الظاهرة . فمثلا ، إذا قدمنا لمتعلم ما معلومات لكي يحفظها ، مباشرة بعد ذلك طلبنا منه القيام بعمليات حسابية كالضرب أو الجمع أو أي عملية لا تترك له الفرصة لتكرار المعلومات المقدمة للحفظ أو قمنا بإعطائه ومباشرة بعد تقديم المعلومات صعقة كروبائية وطلبنا منه أن يسترجع المعلومات الأولى، يلاحظ أن المبحوث لا يستطيع تذكر العلومات التي كان عليه استرجاعها . بالفعل ، نجد أن المبحوث يفاجأ بالنسيان السريع للمعلومات التي قدمت له للحفظ . كما يلاحظ من خلال ملامح وجهه وحركاته التعبير عن القيام بمحاولات لايجاد المعلومات المقدمة . وقد تطول مطاردة المعلومات لمدة تستغرق بضع ثواني . وفي الأخير يصرح المبحوث أنه يعرف ماهي المعومات المطلوبة ولكنه يعجز عن تذكرها.
4 الذاكرة طويلة المدى :
ولقد أجريت تجارب مماثلة على الحيوان . حيث تم وضع فأر أو قردة في متاهة سهلة أو معقدة وتم تمكينه من معالجة جد محدودة كالاتجاه نحو ضوء أزرق ليجد قطعة جبن أو أكلة مفضلة لديه ، ومباشرة بعد ذلك يفاجأ بصعقة كهربائية ثم يوضع في نفس الحالة التجريبية ، فالفأر أو القردة لا يتمكن من تذكر السبيل الذي يؤدي إلى قطعة الجبن أو الموز مقارنة مقارنة مع الحيوان الضابط للتجربة ، أي الحيوان الذي لم يخضع للصعقة الكهربائية .
تتلائم هذه المعطيات التجريبية مع المعطيات الكهروفيزيولوجية المسجلة بالمسـالك العصبية النشيطة و المزامنة لعملية معالجة المعلومات بالذاكرة قصيرة المدى . وهكذا تم افتراض أن الذاكرة قصيرة المدى خاضعة لميكانزمات و آليات تقتصر على النشـاط الكهروفيزيولوجي .
أما بالنسبة للذاكرة الطويلة المدى ، فهي تبدو نتاج ميكانزمات و أليات فيزيوكيميائية مختلفة حيث أن مجموعات من الخلايا العصبية التي تشكل مسالكا أو أنساقا ، تتميز بارتباطات جديدة مزامنة للمعلومات المعالجة و الذكريات المتولدة عنها . و الشيء الذي يظهر هو أن الذاكرة طويلة المدى تستلزم آليات و ميكانزمات كهروفيزيولوجية و عصبكيميائية متعددة ومعقدة تمكن من ترسيخ واسترجاع المعلومات لمدة تفوق الدقيقة إلى سنوات أو عقود متعددة . و الميكانيزمات الكهروـ فيزيوـ كيمياءـ عصبية تشكل عمليات معقدة لكل منها دور جوهري في ترسيخ المعلومات بالمسالك الموظفة وتذكرها و استغلالها في السياق الملائم .
أولا :
تأكيد ما قدمناه بالنسبة لذاكرة قصيرة المدى .
ثانيا :
يظهرأن التكرار عملية أساسية للتعلم و ترسيخ المعلومات وتخزينها بالذاكرة . لكن لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن عملية التكرار هي عملية ديناميكية و وظيفية وليس كما اعتبرها "تورندايك" في الأربعنيات من القرن العشرين أن ليس لها دور . لكن المعطيات التجريبية تبين عكس ما افترضه "تورندايك" و بالفعل قد بينت كثير من التجارب الحديثة التي أجريت في الميادين التي تهتم بظاهرة الذاكرة و التعلم أن للتكرار دورا أساسيا في عمليات التعلم و الذاكرة . وهذا لا يعني أنه ليس هناك عمليات ووظائف أخرى جوهرية تتدخل في ظاهرة التعلم . فالعمليات تختلف وميكانيزماتها و آلياتها الوظيفية تتدخل في اكتساب المعلومات وفق طرق سيكولوجية متعددة ومواد عصب ناقلة وعصب مستقبلة مختلفة . مثلا : ترتيب المعلومات ، إدماجها وفهمها ولكل من هذه العلمليات مميزات عصبحيوية خاصة ...
هذا ، وقد أظهرت تجارب أجريت على الفئران و الأرانب وحلزون البحر مثلا ، أنه بعد كل عملية تعلم أو معالجة معلومات توظف مسالك عصبية وتتشكل بها ارتباطات جديدة بين عدد من الخلايا العصبية المكونة لهذه المسالك . غير أنه لوحظ إذا لم تكرر أو تعزز المعلومات أو لم تحدث إتارة هذه المسالك بعد وقت معين ، فإن الارتباطات المشكلة تندثر وتختفي . و ما يمكن استخلاصه من هذه التجارب هو :
إذن ، لا يمكن إنكار أن للتكرار دورا أساسيا في التعليم ، حيث إنه كلما كرر المتعلم معالجة قطعة شعرية مثلا ، فإنه يعزز بذلك ارتباطات بين عدد من الخلايا العصبية التي تشكل بدورها أنساقا أو أنظمة شبه مستقلة تظل نشيطة لمدة زمنية طويلة . فقد يعمل مرور المعلومات للوهلة الأولى على تنظيم المشابك و المسالك و الأنساق الخاصة بالمعلومات الشعرية المعلجة من طرف المتعلمين ، أما بالنسبة للمعلم فإن ما يقوم به يقتصر على إعادة تنشيط المشابك و المسالك و الأنساق الحديثة التشكيل عند المتعلم أكثر سرعة ومرونة مقارنة مع المعلجة الأولى . هكذا ، وبعد كل معالجة للمعلومات الشعرية ، فإن المشابك و المسالك و الأنساق تنشط بكيفية شبه آلية ، مما يجعل التذكر أكثر سلاسة وسرعة ودقة . و لابد من الإشارة هنا إلى أنه كلما عمد فقيه أو عالم أو مدرس مثلا إلى إثبات شيء أو تبريره وتفسيره وتأويله ، فإنه يلجأ إلى سرد سورة أو حيث أو مقولة أو أنه يذكر بتعريف المصطلحات و القواعد و المبادئ المؤسسة للمعلومات التي عالجها ويعالجها . وتقوم عملية اللجوء إلى هذه الوظائف العليا على إثارة معلومات اختزنت منذ مدة طويلة أو قصيرة ولحقب عديدة في ذاكرة الفقيه و العالم و المدرس . وهي ناتجة عن إعادة تنشيط مسالك و أنساق خلوية تذكرية بنيت وفق آليات وميكانيزمات كهروفيزيولوجية وعصبكيميائية تمكن من ترسيخ إعلامي " Informationnel "قد يستمر لعدة عقود.تمكن هذه المعطيات من تفسير ثبات عدد مهم من الذكريات التي تظل راسخة بأذهان الراشدين حتى سن متقدم من شيخوختهم . معنى ذلك أن ما يقوم به المتعلم أو أي فرد يتذكر إنما هو إعادة تنشيط الارتباطات الخاصة بالمسالك و الأنساق العصبية المبنية أثناء آليات حفظ القرآن أو الحديث أو صيغة شاملة مفادها أن الفقيه أو العالم أو المدرس يشكلون أشخاصا في حالة تعلم مستديمة ولو أنهم يقومون بتعليم الآخرين . في الواقع ، يمكن اعتبار عملية التدريس عملية تعليم مستديمة ، و يتلاءم هذا مع التعريف العصبي لظاهرة التعلم . ولهذا لا يمكن أن نستغرب أنه كلما عمد مدرس إلى تكرار بعض المعلومات ، فهذا لا يعني أنه أصبح عاجزا عن إيجاد معلومات حديثة أو جديدة ، بل إنه يدرك ، في الكثير من الأحيان ، تمام الإدراك أن تدريس الاشياء يمكمن في تكرارها ، وبهذا يمكننا اقتراح افتراض مفاده أن عملية التكرار هي جوهر التدريس . ويحصل هذا في جل ميادين المعرفة . وليس بغريب أن نعتبر لأن الذاكرة ترتاح لهذا . ولتبرير ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الغبطة التي يشعر بها الآباء كلما تمكن طفل لهم من سرد معلومات حفظها عن طريق تكرار لسورة من القرآن الكريم أو أبيات شعرية معينة ... وتؤدي بنا هذه المعطيات إلى طرح السؤال التالي : أين توجد وترسخ المعلومات و آثار التذكر و الذكريات بدماغنا ؟
تستلزم الإجابة عن هذا السؤال اللجوء إلى المعطيات العصبحيوية النظرية و التجريبية التي تم التوصل إليها . بكيفية عامة ، تبين الدراسات التي أجريت على الجهاز العصبي المركزي عند الانسان و الحيوان أن الذاكرة تتموقع بعدد من جهات ونوى الدماغ . ويمكن انقاء المعطيات الأساسية من الأعمال التشريحية للدماغ حيث مكنت هذه الأعمال من بلورة معطيات تشخيصية عند بعض المرضى الذين يعانون من أعراض تختلف في النوع و الحدة . مثلا ، هناك من يعاني من أعراض خاصة بالذكرة قصيرة الأمد أو من أعراض تهم الذاكرة طويلة الأمد . وقد تشمل الاضطرابات معلومات جزئية أو شاملة أو تكون مركزة بسجل تذكاري معين أو بفترة زمنية محددة . كما أضهرت الدراسات التشريحية أن الأعراض ترتبط بمناطق قشرية أو نوى دماغية ، و أن لهذه المناطق أو النوى دورا إما أساسي أو ثانوي بالنسبة للوظيفة التذكارية المعنية بالاضطرابات . وفي ما يلي سنحاول دراسة بعض الباحات و النوى الدماغي التي لها دور في التذكر و الذاكرة .
صفحة العناوين
الصفحة الموالية