مستقبل المذهب البيئي في القرن الحادي والعشرين
قد تبدو التوقعات بخصوص المذهب البيئي للقرن الحادي والعشرين شديدة الارتباط بحالة الأزمة البيئية والمستوى العام لفهم القضايا والمشكلات البيئية؛ فمن المتوقع أن يزيد البحث عن بديل للتقدم الصناعي المولع بالنمو، وإحدى المشاكل التي تواجه الأحزاب الخضراء أن منافسيهم قد اتخذوا مواقف "صديقة للبيئة" كانت قبل ذلك حكرًا على الخضر (مثلما اتخذت الرأسمالية بعد نقد الشيوعية لها سياسات دولة الرفاهة والحقوق الاجتماعية)؛ إذ لن يكون للجنس البشري بدٌّ في القرن الحادي والعشرين من قلب السياسات والممارسات التي كادت أن تدمر كل من الجنس البشري والعالم الطبيعي.
وتواجه النظرية البيئية عددًا من المشكلات:
الأولى: صعوبة جعل المذهب البيئي أيديولوجية عالمية، فيبدو أن القيود التي تكبل الدول النامية قد سلبتها فرصة اللحاق بركب الغرب، حيث تطورت الدول الغربية بالصناعات الكبيرة وباستنزاف الموارد المحدودة والتلوث... إلخ، وهي ممارسات يسعون الآن إلى إنكارها على الدول الساعية للتقدم. والغرب الصناعي مثله مثل العالم النامي غير مهيأ لأخذ الأولويات البيئية في الاعتبار، حيث يعني ذلك التخلي عن الرخاء الذي ينعم به بوصفه أكبر مستهلك للطاقة والموارد.
والمشكلة الثانية: تتمثل في الصعوبات التي تحف رسالة المذهب البيئي المعادية للنمو، فسياسة النمو المستديم أو اللانمو قد تكون غير مشجعة للجماهير بحيث تستحيل عمليًا كخيار انتخابي.
ثالثًا: قد يكون المذهب الأخضر greenism ما هو إلا بدعة حضرية أو شكل من أشكال رومانسية ما بعد الحركة الصناعية، وهو ما يملي أن الوعي البيئي ما هو إلا رد فعل مؤقت للتقدم الصناعي، ويميل إلى الاقتصار على الشباب والأغنياء الذين يملكون ترف الاحتجاج.
رابعاً: أن الرؤية البيئية صعبة التحقيق لو استقام الناس عليها؛ لأنها تتضمن تضحيات لا يريد الكثيرون تقديمها ويفضلون المصالح العاجلة، فالبيئية الحقيقية أكثر راديكالية من الاشتراكية والفاشية والحركة النسائية أو أي اعتقاد سياسي آخر، فهذا المذهب لا يقتصر على المطالبة بتحول النظام الاقتصادي أو إعادة تنظيم العلاقات بين السلطات داخل النظام السياسي فحسب، بل لا يرضى بأقل من إقامة نمطا جديدًا للوجود أي أسلوب مختلف في تجربة الوجود وفهمه. والأكثر من ذلك أن نظرياته وقيمه وأحاسيسه تتعارض كلية مع تلك الخاصة بالمجتمعات التي يهيمن عليها التقدم الصناعي.
البيئة والاستخلاف الرباني: مدخل نظرية المقاصد
ربما يثير اللبس دومًا البحث عن مصطلح من لغة ما في فكر لغة أخرى، وعند افتقاده يقال بأن هذا الفكر لم يقدم إسهامًا تحت هذا المصطلح أو العنوان، وهو ما يقال أحيانًا بشأن موقف الإسلام من حقوق الإنسان ومن قضايا البيئة ومن حقوق المرأة، في حين أن النظر للإشكاليات في جوهرها والألفاظ في معانيها مشترك بين العقول ومتكرر في أي سياق حضاري رغم اختلاف التوصيف والتصنيف، وبذلك لو أخذنا معالم نظرية البيئة لوجدنا الفقه الإسلامي القديم والحديث قد تعرض لمكوناتها، ولكن في المواضع التي ترتبط بها في مجال العقيدة أو العبادة أو التشريع القانوني بأقسامه، أي في مكانها من خريطة العقل المسلم في تكييفه لها، فالرؤية الكلية Holistic تدخل في المكونات الإبستمولوجية للنظرية البيئية، وتدخل في المقابل في العقيدة الإسلامية التي ترى الإنسان سيدًا في الكون -لا سيدًا للكون-، ومستخلفًا من الله على الكون بكائناته ومخلوقاته، فلا هي مركزية بشرية يستنزف فيها الإنسان الطبيعة، ولا هي مركزية للطبيعة تساوي بين الإنسان والمادة والإنسان والحيوان، وتتجاهل خالق الكون ورسالة البشر وأمانتهم المسئولة في الدنيا.. واليوم الآخر.
والاستدامة تدخل في نظرية المقاصد في العدل كمقصد وحفظ المال، ومراتب هذا الحفظ من حفظ بقاء لحفظ أداء لحفظ نماء. والقيم الأخلاقية لا تقتصر على المسئولية تجاه الأجيال بل المسئولية أمام الله بالأساس عن الموارد والكائنات، بدءاً من التوجيه النبوي بعدم الإسراف في الماء ولو للوضوء، مروراً بالرحمة الواجبة بالحيوانات التي قد تدخل الجنة ونقيضها قد يدخل النار-مع تسخيرها للإنسان للأكل والانتفاع-، وأخيرًا -وليس آخرًا- بالتواصل مع كل مكونات الكون النباتية بل و الجمادات التي يؤمن الإنسان بأنها تسبح لله.
ويحكم الإنسان في كل موقف ميزان الضرر والنفع، في الحال والمآل.
والأمة توفر لسياسات البيئة التمويل عبر الأوقاف ، وتضمن الالتزام بالقواعد والنظم بالقانون، والأهم من ذلك عبر إدماجها في السلوكيات والآداب اليومية العبادية والفردية والجماعية.
وفي مقابل رؤية الأيدلوجيات للبيئة كدائرة حيوية يجعلها الإسلام أمانة على الإنسان التعامل معها بمنطق العمارة، والإنسان هنا يحمل قيمًا ربانية، ويستوي في حملها الرجال والنساء؛ فليست المرأة أقرب للطبيعة من الرجل، ولا هو أكثر إفسادا لطبع فيه من النساء كما تذهب النسوية، بل المناط التقوى والالتزام بالعدل والقسط، والرحمة صفة المؤمن وليست شيمة النساء، وهكذا في كل قضية تندرج تحت نظرية البيئة وتجد لها في خريطة الفكر والفقه الإسلامي موضعًا يرتبط بملامح تلك الخريطة المتأسسة على عقيدة التوحيد لله الأعلى الذي خلق الإنسان ويسأله في يوم لقيامة عما استرعاه.
ومن اللافت أن أجندة التيارات الإسلامية السياسية المعاصرة لم تستنبط هذه المقاصد المرتبطة بالبيئة، وتصوغها بلسان معاصر تأسيسًا على تراث غني، بل انصرفت لرؤية مركزية للدولة، وبالتالي لتعريف ضيق للسياسة همّش قضايا البيئة رغم كونها من أولويات المشروع الحضاري الإسلامي في الواقع البيئي الدولي الراهن.