تناولنا في المساق الماضي ظاهرة الاستلاب العربيّ الشغوف بكلّ ما هو غربيّ. ومن أعراضه الوَجْد بالكلمات الأعجميّة والغرام باجتلابها بمناسبة وبغير مناسبة. ويظهر ذلك بدرجاته المتفاوتة لدى فئات أربع:
1) مغترب عن ثقافته ولغته، نشأ في أكناف مجتمع آخر، وقد لا يُحسن التعبير بالعربيّة. وهذا له مبرّراته.
2) غير مغترب لكنه متهافت المعرفة بلغته، ولا يرى اللغة إلاّ ما يسمع ويلقف، وما يسود في الأوساط العامّة. فهذا شِبه أُمّي، مهما حمل من شهادات ورقيّة. وهو في المستوى الثقافي (إمّعة)، أينما يوجّه يَنْقَد ويمتثل. وفئة هذا الصنف أكبر الفئات.
3) ذو (عُقدة خواجة)، بسبب أنه لم يحظ بثقافة أجنبيّة، وهو يخشى أن يظهر تقليديًّا إزاء أقرانه ممّن امتازوا عليه في ذلك الجانب. ولهذا تراه يحرص على تزيين حديثه وكتاباته بالحروف اللاتينيّة، حتى وإن بإعادة كتابة الأسماء المشهورة بتلك الحروف. كما أنه يحرص على اجتلاب أيّ مصطلح بغير العربيّة، وإن كانت عنه بدائل بالعربيّة أكثر دلالة واستقرارًا وأصالة، فذلك السلوك لديه بالدُّنيا؛ لأنه يُظهره على قدم المساواة مع ذوي العزم من المتفرنجين. وهذا المسكين يحمل عُقدة نقصٍ مزمنة، لا علاج لها؛ لأنه لم يَعُد في طور التعلّم ليعوّض ما فاته، ولا في طور التربية كي يُسقَى دواء الثقة بالنفس والبراءة من عُقد المحاكاة لمن يكبرون في نفسه.
4) لا منتمٍ فِكريًّا أصلاً، رغم معرفته ووعيه، بل لمعرفته تلك ووعيه؛ فلغته جزء من عقليّته وتوجّهه الأبعد مغزى من اللغة. وهذا هو الأخطر.. لكننا نحسبه ما يزال الأقلّ الأشذّ.
إن التقليد معيب في حدّ ذاته؛ لأنه نقيض الأصالة، والحريّة، والكرامة. فكيف إذا كان في أمور لا ضرورة لها ولا معنى، والبدائل عنها متاحة؟! هو عندئذٍ مرضٌ حضاريّ، يستأهل الشفقة، والسعي إلى المعالجة.
على أنه لا يخلو الأفق العربي ممّا قد يبشّر بخير، وإن كُنّا نتمنّى أن لا يكون حِبرًا عربيًّا على ورق النسيان؛ لما يبدو من أن العرب- منذ تاريخهم في الترحّل واستحالة منازلهم الأولى إلى أطلال تنعب فيها الغربان ويبكي عليها الشعراء- قد مَرَدوا على الترحّل بين القرارات، فلا استقرار لما يقرّرون، ولا نهار لما يكتبون! ومن تلك البشائر ما نشره المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو)، عبدالعزيز بن عثمان التويجري، تحت عنوان "قانون رائد لتعزيز السيادة اللغوية"، في صحيفة "الحياة"، عدد 6/6/2008، حول ما صدر عن مجلس الشعب المصريّ مؤخّرًا من قانون إعادة تنظيم مجمع اللغة العربية، الذي نصّت مادته الثالثة على: أن "تلتزم دُور التعليم والجهات المشرفة على الخدمات الثقافية والوزارات والهيئات العامّة، ووحدات الإدارة المحليّة، وغيرها من الجهات الخاضعة لإشراف الجهات المشار إليها، بتنفيذ ما يُصدره المجمع من قرارات لخدمة سلامة اللغة العربيّة، وتيسير تعميمها وانتشارها، وتطوير وسائل تعليمها وتعلّمها، وضبط نطقها الصحيح، وتوحيد ما فيها من مصطلحات، وإحلالها محلّ التسميات الأجنبيّة الشائعة في المجتمع، على أن يصدر بها قرار من الوزير المختصّ، يُنشر في الوقائع المصريّة، ويقوم المجمع من خلال لجانه النوعيّة المختصّة، بتحقيق هذا الدور، وتذليل أيّة صعوبات تواجهه، ومتابعة تنفيذه، وتقييم مستوى الأداء فيه. و[يعتبر] هذا الالتزام أحد الواجبات العامّة الملقاة على العاملين، كلّ في حدود اختصاصاته، ويترتّب على مخالفة هذا الالتزام انعقاد المــسؤولية الــتأديبيّة للمخالف". وعليه، جاء في مطلع التوصيات الصادرة عن الدورة الرابعة والعشرين لمؤتمر المجمع: "يؤكّد المجمع كلّ ما صدر عنه من توصيات سابقة عبر مؤتمراته السنويّة، والعمل على استخلاصها والتركيز على أهمّ ما جاء فيها، تمهيدًا لإرسالها- ومعها توصيات هذا المؤتمر- إلى وزير التعليم العالي، [باعتباره] الوزير المختصّ الذي يشير إليه القانون، لاستصدار القرارات الملزمة بها، ونشرها في الجريدة الرسميّة طبقًا للقانون". ويأتي القانون الذي أصدره مجلس الشعب المصري- كما يشير التويجري- استجابة للقرار الذي أصدرته القمّتان العربيتان في كل من الرياض ودمشق بخصوص حماية اللغة العربيّة. ونحن نأمل هنا أن لا نظلّ نحلم، ثم نغنّي:
أَلا يا لَيلُ طُلتَ عَليّ حَتّى
كَأَنّك قَد خُلِقتَ بِلا صَباحِ!
وعودة إلى طرف المعادلة الآخر، أي العامّية وشِعرها.. فلربما ظنّ بعضٌ- بعد معركتنا مع الشِّعر العامّي- أننا نراه شرًّا مطلقًا، بل قد يظنّنا ضِدّ أعلامه، وضدّ اللهجات، وقبائل العرب! وهناك من قال لي بصراحة: "لماذا تقف- يا عبدالله- ضدّ الشّعب (هكذا!)، وتراث الآباء والأجداد، فنحن عرب، يا أخي، مثلك!" ومثل هذا الكلام دالّ على أن قائليه إمّا لم يُحسنوا قراءة خطابي النقديّ للعامّيّات، أو أن تعصّبهم لها قد بلغ منهم مبلغه.
وبعيدًا عن شخصنة القضايا، أو قَبْيَلَتِها، أو شَعْبَنَتِها، فإن من حقّ هؤلاء المتسائلين الإجابة، كي يفهموا حقيقة الموقف العلميّ والثقافيّ من الشِّعر العامّي. ذلك أننا قد ورثنا حُبّ المديح، ودَرَجْنا على عقليّة: إمّا أن تكون معي- على الحُلوة والمُرّة- وإلاّ فأنت ضدّي، وألِفنا عدم التفريق بين (النقد) و(الذمّ). وهنا يجب أن يكون واضحًا أنني شخصيًّا لستُ ضِدّ الشِّعر العامّيّ، من حيث هو شِعر، ولا يمكن أن يكون شاعر ضدّ الشِّعر، بأي لهجة أو لغة. وكم أطرب كغيري لجيّد ذلك الشِّعر، وربما أكثر من شعراء العامّيّة أنفسهم، لأن طربي هنا لا طَرَبًا للهجة، أو لشِعر، أو للمضامين فحسب، ولكنه طربٌ أيضًا لأصالة فنّيّة يحملها بعض ذلك الشِّعر، ولذاكرةٍ يبتعثها في دارسٍ مثلي للشِّعر الجاهلي، منذ "شِعر ابن مقبل العجلاني"، الذي كتبتُ فيه رسالتي للماجستير، إلى "مفاتيح القصيدة الجاهليّة"، إلى التراث العربيّ عمومًا. فكثير من ذلك الشِّعر العامّيّ يعيدني إلى تلك الجذور العريقة لشِعر العرب، بما له وما عليه. بل سأضيف هنا ما قلتُه من قَبْل مرارًا: إن العربيّة في حاجة إلى ثورة في لغتها ونحوها، اللذين شيّد لنا تراثهما (أعاجم)، أو (غرباء) عن الذوق العربي والسليقة والبيئة العربيّتين، فأفسدوا وأصلحوا، وعقّدوا وعالجوا، وأتوا في أسفارهم بعجائب وغرائب السفسطات والأوهام التي جعلت العربيّة ألعوبة سحريّة لا يفكّ طلاسمها إلاّ ذوو العزم من حُواة النّحاة الفارغين. فشوّهوا أجمل لغة اختارها الله لخاتم أنبيائه وكتبه، وصدّوا العرب عن لغتهم صدًّا، وأصبح عملهم مضرب المثل في فساد المنهج ووهن الحجّة. وتلك الثورة الضروريّة على الترث- الذي صنعه لنا فُرس أو قابعون إلى جوارهم في البصرة والكوفة، يتسقّطون أكاذيب الأعراب المتسوّلين على أبواب المدن، فإنْ لم يجدوا لديهم الشواهد صنعوها بأنفسهم- لن تتأتّى إلاّ بمراجعة نقدية لذلك التراث، متحرّرة من تقديس السَّلَف، في ضوء ما تبقّى حيًّا من العربيّة في استعمالها الفطريّ. ولا ينبغي أن يلتبس هنا فهم التوجّه العلميّ البحت للإفادة من مادة اللهجات العربيّة بتلك الدعوة المجّانيّة لنشر العامّيّة أو ترسيخها، فهذا شيء وذلك شيء.
إن الموقف من الشعر العامّيّ يمكن تلخيصه إذن في رفض أمور سلبيّة يحملها ذلك الشِّعر، أظهرها: اللحن الإعرابي. وهو إفساد لنظام اللغة العربيّة، ونشر لذلك الفساد، وترسيخ له، وتصعيب لعلاجه. إلى جانب ما يوطّده الشِّعر العامّيّ من قِيَم اجتماعيّة بالية، ومضرّة على المستويات الاجتماعيّة والتعليميّة والثقافيّة. إضافة إلى صرف الناس- حتى المتعلّمين منهم- عن الفُصحَى، وإغرائهم بالعامّيّة واجتذابهم إلى نتاجاتها. فضلاً عن صرف مبالغ طائلة في غير محلّها، مع أن أوجه التنمية المعيشيّة في بلداننا- التي تُسمّى نامية- كانت الأولى بتلك المبالغ والأحقّ بإنفاقها.
ولتفصيل القول في كل سبب من هذه الأسباب مساقنا الآتي، بإذن الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة "الجزيرة"، المجلة الثقافية، الاثنين 21 شوال 1429هـ، العدد 257، ص8.
http://www.al-jazirah.com/culture/2008/20102008/fadaat19.htm
|