هل الفشل يعني- بالضرورة- بطلان القضيّة؟
كلاّ!
وإنما الفشل ذريعة اليائس إلى يأسه! والفشل محسوب على صاحبه، لا على قضيّته، ضربة لازب.
في الشأن اللغوي، لا بُدّ أن نعي أن فشل العرب محسوب عليهم هم، لا على لغتهم. وأحد أسباب فشلهم المركّب- وبصفة عامّة- إحساسهم المركّب بالفشل، المؤدّي إلى القنوط والانكفاء. لذلك تجدهم يرتدّون إلى الماضي تارة- نحو العامّية، من حيث اللغة، ونحو القبيلة من حيث الثقافة- أو يلجؤون إلى الحاضر، (الآخر/ الأجنبيّ)، معشوق المتخلّفين، لغةً وثقافة، كذلك. وهو عشق لا ينشأ عن جمال الآخر (الغربي)، ولا عن نُبله، أو ميزاته الخارقة، بمقدار ما ينشأ عن عُقدة المغلوب مع الغالب، التي كان يعاني منها معنا آخَرُنا اليوم، ذات يومٍ أندلسيٍّ ماض.
وامتدادًا لحديثنا في المقال السابق عن الموقف من الشعر العامّي، يمكن القول: إن ذلك الموقف يتلخّص في سلبيات العاميّة اللغوية والثقافية، التي لا ينكرها إلا مكابر. وأوّلها: اللَّحن الإعرابي. وهذا إفساد لنظام اللغة، ونشرٌ لذلك الفساد، وترسيخ له، وتصعيب لعلاجه، ومن ثَمَّ نشرٌ لدعوى الفشل اللغويّ. نظام اللغة العربي- الذي يَتطلّع إلى توطيده، وإشاعته، وإحيائه، كلّ منتمٍ مخلص- هو ما لا خيار لنا في سواه، إلا بخسران مبين، يمسّ الماضي والحاضر والمستقبل.
ولقد كان اللَّحن معيبًا جدًّا في العربيّة، بل مدعاة شكّ في الأصل والنسَب؛ إذ كان من يَلْحَن "مَطْنَزَةً" للناس(1). في هذا الشأن جاء في كتاب (المبرد، الكامل)(2): أنه "كان خالد بن صفوان يدخل على بلال بن أبي بُرْدَة يُحّدثه فيَلْحَن، فلمّا كثُر ذلك على بلال، قال له: أتُحدّثني أحاديثَ الخلفاء، وتَلْحَن لحن (السّقّاءات)؟! قال التوزيّ: فكان خالد بن صفوان بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلّم الإعراب. وكُفّ بصره، فكان إذا مَرَّ به مَوْكِبُ بلالٍ يقول: ما هذا؟ فيقال له: الأمير! فيقول خالد:
سحابةُ صيفٍ عن قليلٍ تَقَشَّعُ!
فقيل ذلك لبلال، فأجلسَ معه من يأتيه بخَبَره، ثم مَرَّ به بلالٌ، فقال خالد كما كان يقول، فقيل ذلك لبلال، فأقبلَ على خالد، فقال: لا تَقشّعُ والله حتى تُصبيكَ منها بشؤبوب بَرَدٍ! فضربه مئتي سوط. وقال بعضهم: بل أمر به فديس بَطْنُهُ!"
علمًا بأن خالد بن صفوان المشار إليه هو الملقّب بـ(القنّاص). وهو شاعر مغمور، له قصيدة "العروس" المشهورة، التي قيل فيها: "كفى غنى بمن حفظ قصيدة خالد بن صفوان!" وهي في 78 بيتًا، أقرب إلى العاميّة، لغةً ومضمونًا، فاسدة النحو واللغة والعروض. حقّقها (عبدالعزيز الميمني) في "الطرائف الأدبيّة"(3).
وبغضّ النظر عن سبب ضرب خالد بن صفوان هنا، فقد فَعَلها عمر بن الخطاب، وغيره، في شأن اللَّحن. وفي هذا أورد (ابن الأبّار، -658هـ، إعتاب الكُتّاب): "حكى الزبيدي في كتاب (طبقات النحويين) من تأليفه، عن أبي العباس ثعلب، عن ابن قادم أستاذه، قال: وجّه إليّ إسحاق- يعني ابن إبراهيم المصعبي- يوماً، فأحضرني، ولم أدر ما السبب؛ فلمّا قربتُ من مجلسه، تلقّاني ميمون بن إبراهيم- كاتبُه على الرسائل- وهو على غاية الهَلَع والجَزَع، فقال لي بصوتٍ خفيّ: إنه إسحاق!! ومَرّ غير متلبّث ولا متوقّف، حتى رَجَع إلى مجلس إسحاق.. فراعني ذلك، فلمّا مَثُلْتُ بين يديه، قال لي: كيف يقال: (وهذا المال مالٌ، أو: هذا المال مالاً؟)، قال: فعلمتُ ما أراد ميمون، فقلت له: الوجه (وهذا المال مالٌ)، ويجوز: (وهذا المال مالاً)؛ فأقبل إسحاق على ميمون بغلظةٍ وفظاظة، ثم قال: الزم الوجه في كتبك، (ودعنا من: يجوز ويجوز)! ورمَى إليّ بكتابٍ كان في يده. فسألتُ عن الخبر، فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون، وهو ببلاد الروم، عن إسحاق، وذكر مالاً حَمَله إليه، فكتب: (وهذا المال مالاً)، فخطّ المأمونُ على الموضع من الكِتاب، ووقّع بخطّه في حاشيته: (تُكاتبني بلَحن؟!).. فقامت القيامةُ على إسحاق. فكان ميمون بعد ذلك يقول: لا أدري كيف أشكر ابن قادم، بَقَّى عليّ روحي ونعمتي...".
ويُشْبه هذا الخبرَ ما حكى الجاحظ من أن (الحصين بن أبي الحرّ) كتب إلى (عمر، رضي الله عنه) كتاباً، فلَحَنَ في حرفٍ منه، فكتب إليه عمر أن: "قنّع كاتبكَ سوطًا"! وفي كتاب ابن عبدوس: ...أن كاتبًا لأبي موسى [الأشعري] كتب إلى عمر: "مِن أبو موسى"، فكتب إليه عمر: أن "اضربه خمسين سوطًا، واعزله عن عملك!"...
وقال المأمون لبعض ولده، وسمع منه لَحنًا، (أي خطأ في الإعراب): ما على أحدكم أن يتعلّم العربيّة فيُقيم بها أوده، ويزين مشهده، ويفلّ حُجج خصمه بمسكتات حكمه، ويملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه؟! أيسرّ أحدكم أن يكون لسانُه كلسان أَمَتِه أو عَبْدِه، فلا يزال الدهرَ أسير كلمته؟! ويُروى أنه كان يتفقّد ما يكتب به الكُتّاب، فيُسقط من لَحَن، ويحطّ مقدار من أتى بما غيره أجود منه في العربيّة.
تلك أُمّة كانت تقدر اللغة حقّ قدرها، وتعي أن اللسان ليس أداة صوتيّة بل هو أداة فكريّة. ثم يأتي اليوم متزبّبون وهم حُصرم، يزعمون أن حالتنا المعاصرة قديمة، وأن العاميّة واللَّحن كانا قديمَين مستساغَين، فلا تثريب علينا اليوم فيهما! وأن ليس علينا أن نقلق على اللغة العربيّة من العامّيّة، ولا خطر من الأدب العاميّ على اللغة العربية! فإذا سوئلوا: كيف ذاك؟! تصدّروا للقول: "لأن الشعر العامي موجود في تراثنا الأدبي منذ وقت طويل، وقد كتبه الشعراء في الأندلس، واليمن، والجزيرة العربيّة، وبلاد الشام، والعراق، والمغرب العربي، حيث تختلف تسمياته في هذه البلدان!". وتلك حجّة أحدهم، لتسويغ اشتغاله بالعامّيّة، ودفاعًا عن الذات، كالعادة. ولا تكاد تجد مدافعًا عن العاميّة، مناصرًا لإحيائها ونشرها- ملبِسًا إيّاها عباءة التراث، متشبّثًا بالتاريخ تارة وبالشَّعب تارة، يفتّش عمّا يستند إليه في حجاجه ما استطاع إلى التفتيش سبيلاً- إلاّ تجد لديه علّة فكريّة أو لغويّة، تتبدّى في لحن خطابه أو وهن لغته، تدفعه دفعًا إلى "سرنمته" في هذا الاتجاه، لواذًا ودفاعًا، هو في ذاته دفاع عن الذات، في معظم الحالات، لا عن الثقافة. ولكَمْ وددنا أن يُذكر صاحب القول السابق الشعراء الكبار الذين كتبوا في الماضي بالعامّيّة، في الأندلس، واليمن، والجزيرة العربية، وبلاد الشام، والعراق، والمغرب العربي؟! لكنه لن يجد أحدًا، اللهم إلاّ ممّن لا أهميّة لوجودهم، ولا قيمة لشعرهم، ولا حاجة بالتراث والثقافة إليهم، وهم موجودون دائمًا في كل العصور، وجودَ شيبوب إلى عنترة!
ولقد كان بإمكان هؤلاء المنقّبين للزعم أن العاميّة وأدبها عريقان في العربيّة تعديد بلدان كثيرة أخرى إذن، شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالاً، وفئات اجتماعيّة متعدّدة، من عربيّة وغير عربيّة، لتقوية الحُجّة. وكذا سرد ما كان من زجل ابن قُزمان، أو عاطل صفي الدين الحلّي، أو ما كان من الحمينيّ اليماني، أو خَرْجات بعض الموشّحات الأندلسيّة، أو من أدب هامشيّ في شرائح اجتماعية وأوساط معيّنة خلال تلك العصور، التي جاورت العرب فيها الأعاجم أو حَكَمها الأعاجم. كان بالإمكان تكثّر هؤلاء المنبتّون في عشقهم بذلك كلّه، ممّا لم يكن له شأن ولا خَطَرٌ ولا صيت، بل كان نتاجًا شفاهيًّا لا يُكتب، ولا يُعنى به، بل يُغنّى في بعض المجالس الخاصّة، وتُحدَى به الإبل والقوافل، وتزجّي به الركبان أسفارها، ويتندّر بطرائفه العوامّ والمتندّرون. وشتّان بين ذاك وما نشهده اليوم!
(وللحديث اتصال).
ــــــــــــــ
1) هذا التعبير ليس عامّيًّا حديثًا، بل هو قديم في العربيّة، أورد (ابن منظور، لسان العرب، (طنز)): "طَنَزَ يَطْنِزُ طَنْزاً: كلّمه باستهزاء، فهو طَنَّاز. قال الجوهري: أَظنه مولَّداً أَو معرَّباً. والطَّنْز: السُّخْريَةُ. وفي نوادر الأَعراب: هؤُلاءِ قوم مَدْنَقَة ودُنَّاق ومَطْنَزَةٌ، إذا كانوا لا خير فيهم هَيِّنَةً أَنفُسُهم عليهم."
2) (1986)، الكامل، تح. محمّد أحمد الدالي (بيروت: مؤسسة الرسالة)، 2: 556- 557.
3) (بيروت: دار الكتب العلمية)، 102.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة "الجزيرة"، المجلة الثقافية، الاثنين 28 شوال 1429هـ، العدد 258، ص9.
http://www.al-jazirah.com/culture/2008/27102008/fadaat23.htm
|