في المساق السابق ألمحنا إلى إسهام العامّيّة في تعطيل التعليم في العالم العربي؛ لأن التعليم باللغة العربيّة، والعامّيّة تمدّ فساد اللسان العربي، والذوق الأسلوبي القويم، بل ترسّخ ازدراء العربيّة ونظامها وخطابها وأهلها. هذا فضلاً عن تعطيل العاميّة ذهننا العربيّ عن تعلّم العربيّة نفسها على نحو سليم، من حيث هي تدخل دائمًا على خطّ التلقّي مباشرة، مشاكسةً، معارضة، مناقضة.
وقلنا: إنه قد كان بإمكان أولئك المنقّبين للزعم أن العاميّة وأدبها عريقان في العربيّة تعديد بلدان كثيرة، شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالاً، وفئات اجتماعيّة متعدّدة، من عربيّة وغير عربيّة، لتقوية الحُجّة بوجود العاميّات في الماضي التعيس. وكذا هم حريّون بسرد ما كان من زجل ابن قُزمان، أو عاطل صفي الدين الحلّي، أو ما كان من الحمينيّ اليماني، أو خَرْجات بعض الموشّحات الأندلسيّة، أو من أدب هامشيّ في شرائح اجتماعية وأوساط معيّنة خلال تلك العصور التي جاورت العرب فيها الأعاجم أو حكمها الأعاجم. كان بالإمكان تكثّر هؤلاء المنبتّون في عشقهم للعامّيّة بذلك كلّه، ممّا لم يكن له شأن ولا خطر ولا صيت، بل كان نتاجًا شفاهيًّا لا يُكتب، ولا يُعنى به، بل يُغنّى في بعض المجالس الخاصّة، وتُحدَى به الإبل والقوافل، وتزجّي به الركبانُ أسفارها، ويتندّر العوامّ والمتندّرون بطرائفه. وما كان ذلك يضاهي بحال من الأحوال ما يشهده الأدب العامّيّ اليوم من حفاوة وتكريم في الإعلام المسموع والمكتوب والمرئي، بكل تجلّياته. بل وصل ذلك المدّ العامّي الشعبوي إلى بعض مناهج تعليم خليجنا العربيّ. إنها حفاوة رسميّة وشعبيّة تدلّ على الذهنيّة القابعة وراءها، ولا تحظى بعُشر معشارها اللغة العربية وآدابها، ولم يسبق لها سابقة في كلّ تاريخ العرب ولغتهم!
كما كان بإمكان صحابتنا من المتحمّسين للعامّية إلى درجة العمش، ولكي يقوّوا حُجّتهم أكثر فأكثر، أن يُضيفوا: أن ما وقع في الماضي- أيّ ماضٍ، مشرّف أو غير مشرّف، فالمهم أنه "ماضٍ" وكفى، وإنْ في عصور الجهل والتشرذم والانحطاط اللغوي والثقافي والقومي والحضاري، ومهما كانت طبيعته- لم يكن ليقع أصلاً إلاّ بإلهام علويّ، وتأييد لدنّي، لا يأتيه الباطل أو يتطرّق إليه الشكّ أو تناله التخطئة والنقد! كيف لا، وهو المهاد لتاريخنا المُشرق الحالي، الذي ننعم به بين الأُمم، لغةً وأدبًا وحضارة! أفيمكن لحجّة أحدٍ أن تكتسب قوّة، وتنهض مكانة مقنعة وإطرابًا للأهواء- وفق قيمنا الثقافيّة العريقة- بمقدار ما تكتسبه حينما توشّح بمقدّماتها تلك- مهما ناقضت العقل وطبائع الأشياء- أي بالقول: إن هذا ما كان يحدث في الماضي المجيد، فما علينا لو بقينا حيث نحن، وما علينا لو تبعنا آباءنا على ما وجدناهم عليه؟! ولربما اختُصر الأمر فقيل: إن "عاميّتنا في الجزيرة فصحى"، كما صرّح مؤخّرًا أحد الفصحاء جدًّا!
وفي هذا المخاض من التنقيب عن الذرائع، كثيرًا ما يُردّد المحتجّون للعامّيّة، جَذِلِين، ما عرّج عليه (ابن خلدون، -808هـ= 1406م) في ذيل مقدّمته المعروفة، و تحديدًا في (الفصل الستين: في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد- عهد ابن خلدون). مستهلاًّ بقوله: "اعلم أنّ الشِّعر لا يختصّ باللسان العربيّ فقط". وكأن هذه لديهم تُعدّ شهادة بمشروعيّة العامّيّة وشِعرها، وأنه لا ضرر من ذلك على اللغة العربيّة! مع أن موقف ابن خلدون حجّةٌ عليهم لا لهم، على فرض أن الأمر رهين الاحتكام إلى السيّد ابن خلدون أو غير ابن خلدون في تقرير صوابه من خَطَله. ذلك أن ابن خلدون- غفر الله له- لم يقلْ غير ما تعرفه كلّ بديهة، من أن الشِّعر- من حيث هو فنّ- موجود في كلّ لغة، عربيّة وغير عربيّة. بيد أن ابن خلدون هو نفسه القائل في (الفصل السادس والخمسون): "الصانع الذي يُحاول ملَكة الكلام في النظم والنثر، إنما يُحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجريه على لسانه، حتى تستقرّ له الملَكَة في لسان مُضَر، ويتخلّص من العُجمة التي رَبِيَ عليها في جيله، ويفرض نفسه."
وشواهد استهجان ابن خلدون ما خالف لسان العرب الفصيح، أو تدنَّى عن نمط شِعرها، الذي يعدّه (الطبقة العُليا من الشِّعر)، ليست مجال مزايدة بحال من الأحوال. فلقد وَضَع للشِّعر العربيّ المعتدّ به حدًّا، وربطه بالجريان على نهج العرب: بلاغة، وموسيقى، وأساليب، ومن باب أولى لغة.(1) ولقد تحدّث عن الشِّعر العامّي على أنه (شِعر فاسد)، ووصف أهل لغته بأنهم (عرب مستعجمون، لا مستعربون كسلفهم)، قائلاً: "ولمّا فَسَد لسان مُضَر ولغتهم التي دُوّنت مقاييسها وقوانين إعرابها، وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العُجمة؛ كان لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفتْ لغة سلفهم من مُضَر في الإعراب جُملةً، وفي كثير من الموضوعات اللغويّة وبناء الكلمات... فأمّا العرب، أهل هذا الجيل، (المستعجمون) عن لُغة سلفهم من مُضَر، فيقرضون الشِّعر لهذا العهد في سائر الأعاريض، على ما كان عليه سَلَفهم المستعربون..."(2).
وأمّا ذِكْرُهُ تلك الأشعار العامّيّة- أو شِبه العامّيّة- من أزجال، وخَرْجَات موشّحات، وأصمعيّات، أو شِعر بدويّ، أو حوراني، وقيسيّ، ونحوها ممّا وقف عليه في عصره، فإنما ابن خلدون في ذلك عالمٌ مؤرّخ، وراصد لكلّ الظواهر الاجتماعيّة، إيجابيّها وسلبيّها، صالحها وفاسدها، ومنها ما عاصره. وعصر ابن خلدون كان عصر انحطاط اللغة العربيّة وفسادها- كما قال هو- وعصر انحدار الحضارة الإسلاميّة واتّضاعها، ووصولها الحضيض في ذلك كلّه، أي خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريّين. ومن أصول عمل العالِم أن يعترف بالظواهر في حقل بحثه كافّة، ما حسُن منها وما قبح، وما أقرّه وما لم يقرّه. يسجّلها، ويحلّلها، وتلك وظيفته العلميّة وأمانته البحثيّة. غير أن ليست وظيفة العالم والمؤرّخ وظيفةً تبشيريّة بالظواهر، أو تحبيذيّة لها، أو دعويّة إليها. وإلاّ فإذا كُنّا سنستشهد بما عَرَضه ابن خلدون ووَصَفه على أنه دليل على ما يسوغ في الاستعمال والممارسة والنشر اجتماعيًّا وثقافيًّا، فلنقل إذن- على سبيل المثال- بتسويغ استعمال السّحر وممارسة الشعوذة ونشرهما اليوم؛ ذلك لأن ابن خلدون قد عَقَد فصلاً كاملاً، هو الثامن والعشرون، خاصًّا بما أسماه: "علوم السِّحر والطلسمات"!
ولذا، يتكشّف أن تلك القراءات الذرائعيّة هي، بنفسها، تعاني من عامّيّة الاستقراء والفهم. أو هي بالحريّ ساقطة الحُجّة، تُغالط من أجل التشبّث بأي قشّة من التعلّل، تحت مظلّة ذلك الضرب من التفكير الذي يلتمس أسانيد الماضي لأباطيل الحاضر، بأيّ شكل من الأشكال.
وتنتهي تلك التبريرات العامّيّة للعامّيّة إلى تأسيس نتيجةٍ، لا يُنكر عاقل ما فيها من شُذوذ، ولا ما فيها من حالة تخبّط، ومن تسليم بوضعيّة غير صحيّة لأيّ لغة أو ثقافة. وهي القول: بمشروعيّة ازدواجٍ لغويّ، يردفه ازدواجٌ أدبيّ، بين فصيح وعامّي. ومن ثمّ تغدو للأمّة: لغتان، لهما أدبان. ولقد يهوّن بعضٌ الأمر بالزعم أن هذا إنما هو صنو ذاك، أو القول: إنما العامّي امتداد الفصيح، أو هما متساويان في الجماليّة، لا بأس بأن يتعايشا، إلى آخر ما نسمع من تعميات على العقول. وهي مقولات تستهدف تمييع القضايا، وتخدير الأفهام عن جادّة التأمّل في أن خطورة الصَّدْع في البيت الواحد هي أبلغ من قيام بيت آخر إلى جواره.. أعني أن تحوّل العربية إلى لغتين، أو قل: مستويين، أو سمّ الحالة ما شئت، هو أخطر على العربيّة من وجود لغات أجنبيّة إلى جوارها؛ لأن العاميّة هي في الحقيقة: سرطان العربيّة، بما أنها إفساد وتخريب وتدمير مطّرد من داخل بنيات اللغة نفسها، وتجريد لها من قوانينها وضوابطها وجهاز مناعتها الموروثة والمكتسبة. وما قامت العاميّات في لغة- بحيث أصبح لها هذا الحضور، وأصبح لها هذا الإعلام، وصار أدبها متداولاً ومكتوبًا- إلاّ أرهص ذلك إلى انقسام اللغة إلى لُغيّات، واللغيّات إلى لُغات مستقلّة، وآل أهلها إلى شعوبٍ وقبائل، وإلى بلدان ودول، وولاءات وانتماءات، متناكرة متنافرة، لا تتعارف ولا تتفاهم إلاّ عبر الترجمة.
تلك سُنن التاريخ واللغات، وليدسنّ من شاء رأسه في الرمال!
ــــــــــــــ
1) انظر حدّ الشعر لدى ابن خلدون، (2001)، مقدمة ابن خلدون، تح. درويش الجويدي (صيدا- بيروت: المكتبة العصريّة)، 572.
2) م.ن، 585- 586.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة "الجزيرة"، المجلة الثقافية، الاثنين 5 ذو القعدة 1429هـ، العدد 259، ص10.
http://www.al-jazirah.com/culture/2008/03112008/fadaat25.htm
...........................
تفاعل:
اللواء محمّد حسن العمري، قالت لي الفـُصحى.
http://www.al-jazirah.com.sa/culture/pdf/10112008/t23.pdf
|