لا تنفصل تربيتنا اللغويّة والاجتماعيّة عن قِيَم تربويّة أخرى موروثة أو مستوردة. ولعلّ من أبرز القِيَم الموروثة قيمتين: الاتكاليّة، والتقاعس عن العمل. ففي الأُولى تشحننا القِيَم الشعريّة بقدرٍ كبير من إلقاء التبعات على مشاجب لا حصر لها، داخليّة وخارجيّة، بدءًا من الأب والأم، فالمدرسة، فالمجتمع، فالنظام العام، فالدولة، فالاستعمار، فإسرائيل، فالعالم، فالكون.. إلخ. لكلّ شيءٍ لدينا تخريج، وتبرير، ومسؤول آخر، وحاشانا.
الطالب المُهمِل علّته في المدرس، أو المنهج، أو الوزارة، أو طريقة الاختبار. والمتخرّج، الذي يريد أن يكون من أوّل يومٍ مديرًا، علّته في البطالة، والفساد، وظروف العمل غير المرتّبة وفق مؤهّلاته وتطلّعاته. والمثقّف، غير القادر على التكيّف مع محيطه والتوافق مع مجتمعه، مشكلته في تقييد الحريّات والتخلّف العامّ، والدولة البوليسيّة، ولا سبيل له إذن إلاّ الهجرة الفكريّة أو الجسديّة، وإلاّ فإنه مسحوق لا محالة. الأنثى مشكلتها قِيَم الذكورة، والذكورة مشكلتها قِيَم الأنوثة! وهكذا في دوّامة لا تنتهي من الشكوى، والتذمّر، وعدم الرضا عن شيء.
وقد يكون في كثيرٍ من تلك الشكوى حق، والنقد مهمّ للإصلاح، لكنه يكون في كثير من الأحيان مجرّد سبيلٍ لتبرئة الذات، ليشعر المرء بالراحة، حين يرمي مشكلاته النفسيّة أو الاجتماعيّة أو الوجوديّة على كاهل آخر، ويستريح. إذ على المتشكّي أن يسأل نفسه قبل غيره: وماذا قدّمتُ أنا لنفسي ووطني؟ أوليس بجزءٍ من المسؤوليّة؟ وما الوطن والأُمّة؟ أليسا من مجموع هؤلاء الذين يُلقي أحدهم المسؤوليّة على الآخر؟
إن قيمة التشاكي والتباكي، بدءًا من وقوف العربي على الأطلال وبكائه على الديار، وانتهاء بمقولة "لا تشكِ لي لأبكي لك"، تبدو قيمة عربيّة بامتياز، مع مرتبة الشرف الأولى، وتتشكّل في صورٍ شتّى من ممارسة الفرد البسيط، إلى المسؤول الكبير، وصولاً إلى الدولة، فالوطن العربي كلّه.
وهذا ما يَؤُوْل إلى ما أشرنا إليه من بعض القِيَم الموروثة المعيقة لتقدّمنا، وأُسُّها: (التقاعس عن العمل). إذ كثير من الأعمال والمهن- على سبيل المثال- معيبة في الثقافة العربيّة. بل إن العمل اليدوي الحرفي لا يتناسب وكبرياء الشخصيّة العربيّة، ولاسيّما في الحِقَب التي عزّز المال والرفاه هذا النزوع الأصيل في الشخصيّة العربيّة. والأمر يقترن كذلك بعدم العمل الفكري أو الإبداعي للبحث الجدي عن حلول لمشكلاتنا، حتى المشكلات الشخصيّة منها، فالآفاق مغلقة، والأضواء مطفأة، وهناك جيوش ستتحمل عنا عبء التفكير والتقدير والتجهيز، وإن لم تفعل ستتحمّل المسؤوليّة كاملة نيابة عنا، في الدنيا والآخرة! حتى ليصل الأمر في أدبيّاتنا، التي نزعم أنها دينيّة، إلى تعليق الأمور كافّة على القضاء والقدر والنصيب والمشيئات الإلاهيّة.
هذه الطفولة الثقافيّة المدلّلة ترسمنا مقارنة بشعوبٍ أخرى في صورة الطفل الذي ينتظر من والديه تقديم الحلوَى والسلوَى وكلّ شيء، فإذا لم يُرضياه، غَضِبَ فكسر اللعبة، وربما فعل شيئًا بنفسه ليغيظهما، فإذا هما يتلقّيانه آسفين على ما قصّرا في جنبه.
وحتى يشبّ الطفل القابع داخلنا، أفرادًا وشعوبًا ودولاً، سنظلّ ننتظر السماء لتمطر علينا ذهبًا، وهيهات!
( عضو مجلس الشورى – الأستاذ بجامعة الملك سعود )
aalfaify@yahoo.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صحيفة "المدينة"، ملحق "الرسالة"، الجمعة 21 ذو الحِجّة 1429هـ= 19 ديسمبر 2008م، ص4.
http://al-madina.com/node/83976/risala
|