الجزيرة:
من هنا، من أرض الجزيرة العربية انتشر الإسلام، وانتشرت معه اللغة العربية، حتى أصبحت لغة عالمية، وقد واجهت كثيراً من الأزمات التي جعلت المخلصين من أبنائها يعملون على إنشاء المجامع اللغوية خدمة لها، إلا أننا في معقل الإسلام ومهبط الوحي لم نحقق هذه الخطوة بعد!
من هنا ننطلق بحوارنا مع عدد من المثقفين والأدباء عن مدى ضرورة تأسيس مجمع للغة في المملكة العربية السعودية، وعن الأسباب التي تقف في طريق تنفيذ هذه الخطوة، والجديد الذي يتوقع أن ينتج عنه القيام بهذه الخطوة لو تمت؟
نورة آل عمران
مجمع لغوي للعرب:
كانت البداية مع الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيْفي الأستاذ في جامعة الملك سعود - وعضو مجلس الشورى، وأجاب قائلا عن مدى ضرورة تأسيس مجمع لغويّ في المملكة العربية السعودية: "إذا كان كثير من دول العالم العربي (كمصر، وسوريا، والعراق، والأردن، والسودان) قد أقامت مجامع للغة العربيّة منذ عشرات السنين، وإذا كانت دول العالم الحيّة جميعها تقيم مجامع أو مراكز للغة والترجمة منذ تأسيسها، فإن السؤال عن "مدى ضرورة تأسيس مجمع لغويّ في السعوديّة"، بعد كل ذلك، يبدو سؤالاً استفزازيًّا. ذلك أن السعوديّة هي قلب العروبة، وكانت بدهيّة الأشياء تفترض أن يقوم مجمع للغة العربيّة فيها قبل أيّ دولة عربيّة أخرى، كما قام فيها منذ سنوات مجمع للفقه الإسلاميّ، ومجمع للمصحف الشريف. السؤال عن "مدى ضرورة تأسيس مجمع لغويّ في السعوديّة" هنا هو بمثابة سؤال عن: "مدى ضرورة اللغة العربيّة في السعوديّة اليوم"؟ ولاسيما في هذا الوقت الذي تشهد اللغة العربية هجمتين شرستين من اللغات الأجنبيّة واللهجات العامّيّة، تريدان أن تستأثرا بالحياة والثقافة والعلوم، فتذهب العربية الفصحى بينهما أدراج الأسئلة والتردّدّ. لقد فوجئ الحفيّون بشأن العربية ودعم مواكبتها العصر- وبعد ردح طال من الحُلم بإنشاء مَجْمَعٍ واحد للغة العربية في الجزيرة العربيّة- بافتتاح القرن الحادي والعشرين بتدشين فضائيّات شتّى للعاميّة، وابتكار مهرجانات ومسابقات بعرض الخليج وطوله، تنهض على ما يُعادل ميزانيّات دول، من أجل التراث الشعبي والشعر العامّي، كما فوجئوا بالتوجّه إلى تعليم الإنجليزيّة منذ مراحل الطفولة المبكّرة، في حين ما زال السؤال يُطرح منذ عقود طويلة عن "مدى ضرورة تأسيس مجمع للغة العربيّة". يأتي هذا على الرغم ممّا تُصدره المؤتمرات العربيّة والقِمم السياسيّة، ومنها قمّتا الرياض ودمشق، من توصيات بحماية اللغة العربيّة! وكيف ستُحمى اللغة العربيّة دون إيجاد آليّات عمليّة ومؤسسات جادّة لتحقيق ذلك؟"
لا مانع من إقامته:
أما عن الأسباب التي تقف في طريق تنفيذ هذه الخطوة فقد قال الدكتور الفيفي: "ليس هنالك أسباب مقنعة على الإطلاق. والمؤمل أن ينهض مجمعنا المنشود على أُسسٍ جديدة، وبقُدرات تتناسب مع أهميّته، وما تُعقد عليه من آمال، وأن يفيد من خبرات المجامع العربيّة التي سبقتنا في هذا المضمار، كي لا يكون وجوده كعدمه. إن الجدليّة الدارجة تقول إن مجامع اللغة العربية على كثرتها واختلافها قد فشلت في تحقيق أهدافها، فلماذا نكرّر التجربة؟ وإنْ نحن أحسنّا الظن بهذه الحجّة، ولم نرها من قبيل الحقّ الذي يراد به باطل، فإنها تنطلق من منطلقات مغلوطة. ذلك أن فشل تجربة لا يعني الحكم بالفشل الحتميّ، بل تجب دراسة أسباب الفشل. مَثَل هؤلاء كمَثَل رجل أراد أن يربّي نحلاً، فلسعته نحلة، فقرّر إبادة النحل كلّه، ناسيًا أنه "لا بُدَّ دونَ الشَهدِ مِن إِبَرِ النَحلِ". يجب الاعتراف هنا أن المجامع اللغويّة العربيّة واقعة بين طائفتين، أولاهما ترى العربيّة ما قاله الأوائل ولا زيادة عليه لمستزيد، وكلّ مغايرة لما قالوه انحراف سلبيّ، والأخرى ترى الإبداع اللغوي يتعارض مع مشاريع تلك المجامع، متناسيةً جهودها في خدمة اللغة العربيّة وتراثها، لا ترى فيها إلا السلبيّات والنقائص، محمّلةً إيّاها فشلها، وفشل غيرها من الجهات التنفيذيّة لقراراتها، أو بالأصح المستخفّة بتلك القرارات."
الجديد المتوقع:
وعند سؤاله عن الجديد الذي يتوقع أن ينتج عنه القيام بهذه الخطوة لو تمت، قال الدكتور الفيفي: "لا شكّ في أهميّة قيام مجمع للغة العربيّة في المملكة. وكثيرٌ من علماء اللغة السعوديين هم أعضاء فاعلون في مجامع اللغة العربية في الدول العربيّة، أفليس بلدهم أولى بهم؟ أهداف المجامع اللغويّة ومشاريعها معروفة، من خدمة العربيّة، وتعزيز سيادتها، والحرص على سلامتها، وتعميمها ونشرها، والسعي إلى تطوير وسائل تعليمها، وضبط استعمالاتها، وتوحيد مصطلحاتها العلميّة والفنّيّة، وإحلالها محلّ الأجنبيّ الشائع في المجتمع والأوساط العلميّة والثقافيّة، وإيجاد البدائل العربيّة عمّا يجدّ من مصطلحات واستعمالات، فضلاً عن إحياء التراث العربيّ وتحقيقه. كما أن من أهمّ ما يتوقّع أن ينهض به مجمع (فاعل) للّغة العربيّة والترجمة في بلادنا أن يكون أحد السُّبل إلى التعريب والترجمة، والتعليم الجامعي باللغة العربيّة. وذلك كما تفعل كلّ أُمم الأرض الحيّة، التي تُنفق على الترجمة ونقل المعارف إلى لغاتها، وتوطين التقنية في بلدانها، بسخاء لا محدود، مراهنة على هذا النهج في بناء مستقبلها. على أن دور المجامع لن يتمّ ما لم تلتزم وزارات التربية والتعليم، ودُور التعليم المختلفة، والإعلام، والجهات الثقافية، والوزارات والهيئات العامّة، وغيرها، بتنفيذ ما يُصدره المجمع من قرارات. فالعمليّة تكامليّة، وليست ترفًا علميًّا لغويًّا لا يعني سوى شيوخ المجامع. وهذا الخلل هو ما دفع مجلس الشعب المصريّ مؤخّرًا إلى إصدار قانون لإعادة تنظيم مجمع اللغة العربيّة. وقد أشارت مادة ذلك القانون الثالثة إلى إلزام الجهات المعنيّة بما يصدر عن المجمع من قرارات، ومتابعة تنفيذها، وتذليل أيّة صعوبات تواجه ذلك، وتقييم مستوى الأداء في هذا الأمر، مؤكّدة أن الالتزام بذلك يُعدّ أحد الواجبات العامّة الملقاة على العاملين في الأجهزة المختلفة، كلّ في مجال اختصاصاته، ويترتّب على مخالفة هذا الالتزام مسؤولية تأديبيّة على المخالف."
الانزواء حول المحلية:
ومن جامعة تبوك شاركت معنا برأيها الدكتورة عائشة حكمي أستاذ مساعد الأدب الحديث حيث قالت في إجابتها عن مدى ضرورة تأسيس مجمع للغة في المملكة (ظهر موضوع تأسيس مجمع لغوي في المملكة منذ أكثر من عشرين عاماً تقريباً، ولم تكن الفكرة آنذاك جديدة، فهناك في عدد من البلدان العربية لديها مجامع لغوية بلغت ستة مجامع في القاهرة ودمشق وعمان وغيرها. أسس المجمع الأول في القاهرة قبل (سبعين عاماً) لضرورة حضارية تتمثل في معالجة القضايا اللغوية العربية وحماية الهوية اللغوية من العبث بعد الاستعمار في العصر الحديث، وفي الوقت نفسه معالجة قضايا التداخل اللغوي العربي مع الأجنبي وتهيئة العربية كلغة حيوية تستوعب كافة مستجدات العصر وتذليل الصعوبات أمام الاستخدام العلمي والحياتي للعربية، وفوق ذلك ترسيخ العربية كهوية عربية في المجتمع العربي. وقد قام علماء اللغة في مصر والبلاد العربية بهذه المهام والمفترض مواصلة الجهود وتكثيفها في المجامع العربية الموجودة وحصرها في مجمع واحد تتناوب الدول العربية سنوياً على رعايته، وفي هذا تحقيق لمفهوم الوحدة اللغوية، وتوحيد المسائل الخلافية اللغوية وحصرها لتحقيق التوافق حيالها حتى لا يكون هناك مجال لعدم مصداقية الآراء والقرارات تجاه تلك القضايا فنصبح نردد المجمع الفلاني يقول كذا والآخر يقول كذا! إذا نحن حصرنا اهتمامنا في مكان واحد نعمل على تحقيق انتماء قومي موحد ونكون معا وجها لوجه سنوياً وهذا يهم في روم الخلاف حول المسائل العالقة.
إن تأسيس مجمع في كل بلد عربي يكرس الفرقة والاختلاف والتعصب والفوقية، وسيتبادل العلماء الاتهامات، ولو كان الأمر مريحاً ومقبولاً لنفذ المجمع في المملكة منذ ظهور الفكرة.
وفي إجابتها حول الجديد الذي يتوقع حدوثه لو تمت هذه الخطوة، قالت الدكتورة عائشة حكمي: (أتوقع أن ينتج عن تأسيس مجمع لغوي في المملكة مزيد من التقسيم والانزواء حول المحلية، واحتفاء أكثر باللهجات التي تعمل على توسيع الهوة بين أبناء الأمة الواحدة، كما يحدث في المغرب العربي بين اللغة البربرية الأمازيغية واللغة العربية، ثم إن مصالح العالم اليوم تقوم على التكتلات لتحقيق الأهداف في كل مجال بدءًا من السياسي وانتهاءً بالاقتصاد، والأولى نبدأ بالتكتل اللغوي؛ لأن ذلك يؤكد على وعي وإدراك الأمة بمواطن القوة.
لا ضرورة لذلك:
ومن كلية المعلمين بتبوك شارك معنا الدكتور موسى العبيدان أستاذ علم اللغة في جامعة تبوك حيث قال عن مدى ضرورة تأسيس مجمع للغة في المملكة العربية السعودية: (لعلي قبل الإجابة على هذا السؤال أقدم له بالآتي: إن اللغة لأي شعب تُعدّ من ثوابت هويته التي يمكن التعرف عليه من خلالها لذا يجب على كل مجتمع أن يحافظ على لغته من الاندثار والفناء والضياع فصونه لها يُعدّ صيانة لهويته وبقائها، فعليه أن يتخذ التدابير اللازمة للحفاظ على لغته حية نقية. واللغة العربية بوصفها لغة الإسلام بها نزل القرآن وبها نطق رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهي في حقبة معينة كانت لغة معظم الشعوب الإسلامية وهي الآن لغة ما يزيد على مئة مليون عربي، لغة بهذه المكانة يجب على أبنائها والناطقين بها الحفاظ عليها حية مورقة يانعة القطاف ولعل من الوسائل التي اتخذها أبناؤها للحفاظ عليها إبان عصر النهضة العربية إنشاء المجامع اللغوية في مصر والعراق والشام والمغرب العربي.. الخ لخدمة هذه اللغة وزيادة ثروتها اللفظية عن طريق التوليد أو التعريب أو الابتكار أو بعث القديم من الألفاظ في دلالات جيدة وهي جهود طيبة آتت أكلها وقامت بدورها، ولعل هذه الجهود الطيبة حققت خدمة جيدة للغة العربية المعاصرة ولا ضرورة لتأسيس مجمع للغة في المملكة العربية السعودية فوجود المجامع العربية أمر يتحقق به ضرورة القيام بخدمة اللغة العربية في العصر الحاضر ولعل المطلوب من أبناء العربية اليوم ومن الذين بيدهم صناعة القرار هو التفكير في الضرورات الآتية:
أولاً: البحث عن آليات جديدة وطرائق إبداعية تؤدي إلى زيادة فاعلية اللغة واستخدامها في المجالات العلمية والجامعات وذلك بمد هذه اللغة بالألفاظ المعاصرة والمصطلحات العلمية لتواكب التطور العلمي الذي يمد رواقه على معظم شعوب العالم.
ثانياً: دعم الجهود العلمية التي تبذلها المجامع اللغوية مادياً ومعنوياً وتمويل الأبحاث اللغوية التي تجريها المجامع اللغوية.
ثالثاً: استغلال الطاقات التقنية التي يفيد منها البحث اللغوي.
رابعاً: تزويد المجامع اللغوية بالدماء الشابة والخبرات الحديثة، والاستفادة مما توصلت إليه الأبحاث اللغوية في الدول المتقدمة.
خامساً: العمل على إنشاء بنوك المصطلحات العلمية ومتابعة الجديدة في مصطلحات العلم والمخترعات والابتكارات وترجمتها إلى اللغة العربية وتنشيط حركة الترجمة العلمية لمنجزات العلم في مجالاته المختلفة.
لعلنا إذا استطعنا أن نحقق هذه الضرورات في مجامعنا اللغوية الحالية تعفينا من إقامة أي مجمع لغوي في مكان ما.
معوقات اللجان الاستشارية:
أما الدكتور مسعد العطوي الأستاذ في جامعة تبوك فقد قال حول ضرورة تأسيس مجمع للغة في المملكة العربية السعودية: (الجزيرة منبع اللغة العربية وشهدت ولادتها وعلى ألسنة أبنائها نشأت وتطورت ثم تحولت إلى لغة شاملة جامعة هي اللهجة العربية التي تمثل الإرهاص لمشرق النبوة ونزول الوحي بكتاب الله، وكل عربي ينتمي إلى لغة الضاد، وقد بادرت الدول إلى تكوين مجمعات لغوية مثل: مصر، العراق، وسوريا، والأردن، والسؤال الذي يلح بل هو مثار الاندهاش من المثقفين عدم وجود مجمع لغوي في موطن اللغة العربية المملكة العربية السعودية ولاسيما في هجمة العامية المعاصرة التي شمخ فيها الشعر العامي، وتصدرت مجلات العامية المحلات الثقافية.
وعن المعوقات التي تقف في وجه إقامة مجمع قال الدكتور مسعد العطوي: (إنها تتمحور حول اللجان الاستشارية التي تضع العقبات ولم تقدر مسؤولية الدولة أمام العالم الإسلامي في هذا المجال شأنها شأن جائزة الدولة التقديرية فغيابها يؤكد تساؤلات منها أن البلاد تفتقد المبدعين والمفكرين والمؤلفين والكتاب، وهم كثر- ولله الحمد- ويولد تساؤلا آخر، هو لماذا لم تكرم الدولة المثقفين، فهل وعت اللجان ذلك؟!
وعن الجديد الذي يتوقعه من قيام مجمع للغة في المملكة، قال: (افتتاح المجمع اللغوي يزيد اللغة ثراء، فيفتح الدراسات اللغوية المتواصلة مع المخترعات والخدمات، وتسمية كل جديد، وأرى أن يصحب بلجان خبرة قوية تناسب العصر وتتلافى التباطؤ الذي أصيبت به المجمعات اللغوية الأخرى.