أبدًا لا يسمع الناسُ الكلمات،
لكنهم- حتمًا- يسمعون الأفعال!
.........................................................
ثم إذا انتقلنا في مناقشاتنا لحال اللغة العربية من مستوى الإعلام إلى التعليم، انتابنا السؤال: أيّ لُغة نرجو صلاحها، وهي حتى حينما تُشرح للطلبة تُشرح نظريًّا بالعامّيّة، وتهمل التربية النصوصيّة، سواء التربية النصوصيّة من خلال المناهج، أو التربية النصوصيّة من خلال ما يسمّى الأنشطة اللا صفّيّة؟! فلا شِعر هنالك، ولا خطابة، ولا مسرح. بل لقد باتت النصوص النبطيّة تُقدّم بديلاً عن العربيّة الفصحى في تلك المناسبات (التعليميّة!)، أسوة بالمناسبات الثقافيّة، بما فيها المُقامة في بعض (الأندية الأدبيّة!). لأن الشِّعر قد صار- وببركة الإعلام- نموذجُه الأسمَى في عقول الطلبة، وعقول عامّة الشعب: النَّمَط النَّبَطي.
أمّا الخطابة: فلا وجود لها، وأمّا المسرح، إنْ وُجِد: فعامّي في عامّي كذلك.
ألا يدرك أولئك معنى ما يفعلون وما يجيزون؟ أم هم يدركون ويتعمّدون التعامي والتعمية والعامّيّة؟!
إن اللغة العربيّة ليست القواعد، لكنها السماع والممارسة والتمرين، وأضعف الإيمان أن يكون ذلك في المدارس، التي كانت تُسمى: صروح العِلم، فباتت صروح كلّ شيء.. وأيّ شيء.
اللغة العربيّة لن تنمو بأن يُناقض تطبيقُنا تعليمنا، وما يسمّى نشاطنا اللاصفّي نشاطَنا الصفّي، بل بالتشجيع على الحديث بها تنمو، وبالمران على الإلقاء بها، والكتابة، والإبداع، وتلقّي نماذجها العُليا بكثافة. وما تلك المناشط إلاّ جزء من المناهج، بل هي أهمّ من المناهج. وإنّي لأذكر هاهنا أنني شاركتُ في مسرحيّة في المرحلة المتوسطة، في معهد الطائف العلمي- باللغة العربيّة طبعًا، يوم أن كانت اللغة تحظى ببعض الاحترام- أفدتُ منها أكثر من كلّ ما درستُه حينها في كتب القواعد ومنهج ابن عقيل وابن مالك، وما زلتُ أحفظ حوار المسرحيّة.
يبدو- والحالة هذه- إذن، أنه قد بات معترفًا بهذا الازدواج اللغوي، بين النظري والتطبيقي، حتى في تعليمنا، ومدارسنا، ومحافلنا العامّة والخاصّة، فالنظري باللغة العربيّة والتطبيقي باللغة النبطيّة أو العامّيّة. وما الغريب في ذلك، إذا عرفنا أن كثيرًا من مدرّسي مدارسنا شعراء نَبَط، يقولون ما لا يفعلون؟! وسيجعلون نشاط المدارس نشاطًا عامّيًّا نَبَطيًّا، بالفطرة والغريزة، إن لم يكن بانحيازٍ مؤدلج. ذلك مبلغهم من العِلم والعمل؛ لأنهم غير مقتنعين أصلاً بهذا الهمّ الذي نقول، ولو اقتنعوا ما استطاعوا أن يخرجوا من جلودهم؛ فواحدهم يعلّم أبناءه الطلاب اللغة العربيّة في الصفّ؛ لأنها وظيفة و"أكل عيش"- على رأي مصطفى محمود، أكثر منها رسالة يستشعرها، أو مسؤولية يحاسبه ضميره على أدائها، وليست حتى قناعة اجتماعيّة وثقافيّة. ذلك أنه خارج الصفّ الدراسي لا يعدو شاعرًا عامّيًّا، كأنه نفسه ذلك الأُمّي من آبائه وأجداده الذي لم يدرس ولم يتعلّم، وربما كان (معلّمنا) من أبطال شاعر المليون، كلّ ما في الأمر أن الله قدّر عليه أن يسلك طريق العربيّة تخصّصًا لطلب الوظيفة، ليس إلاّ!
أمّا المرحلة الجامعيّة، فمحتلّة بالإنجليزيّة إلى أجلٍ لا يعلمه إلاّ الله؛ لأن "أكل العيش" أيضًا معتمد على الإنجليزيّة.. ومع هذا كلّه يظن العرب- إذ يحلمون ليلاً بالعامّيّة أو الإنجليزيّة- أنهم ما زالوا أُمّة بين الأُمم! أمّا أحسنهم طريقة، فيحلم أن يستيقظ صباحًا أو مساءً وقد قيّض الله له مفاتيح الحضارة، هكذا دون مقدّمات، كي يتفرّغ من بعدها لإحياء لغته؛ لأنه لا يؤمن بأن الكلمة كانت البدء الأوّل في التكوين الإنساني والحضاري!
أيّ تعليم نتحدث عنه هاهنا إذن أم أيّ مستقبل؟
والمعضلة لا تكمن في وضع اللغة في أجيالنا القادمة فحسب، بل أيضًا في وضعيّة الذهن العربي وأحلام التطوّر العلميّ (البحت)؛ لأن البنية اللغويّة هي بنية فكريّة في المحصّلة، ووسيلة تواصلٍ معرفيّ، لها إنتاجيّاتها الإنسانيّة واقتصاديّاتها الحضاريّة، لا محض أداة تواصلٍ غريزيّة، أو آلة منفعة آنيّة، كما يصوّرها بعض.
أيّ لغة ستترقّع أسمالها، وهذا هو واقع حالها فينا، وذاك هو الجوّ الثقافي الآخذ بتلابيبها وتلابيبنا؟ نعم لقد كان بعض هذا في الماضي موجودًا، لكنه كان على استحياء، إذ كان لكل مقامٍ مقال، فالمقام الرسمي والمقام العلميّ والمقام الثقافي والمقام التربوي كانت مقامات تحترمها العامّيّة، ولا "تعتّبها"، إذ كانت مقصورةً على اللغة العربيّة الفصحى فقط، وللعامّية البيت والشارع والسَّمرة. أمّا الآن، فلم تَعُد ثمّة مقامات، خُلط الحابل بالنابل، ونزا عبّاس على دبّاس، في مضطربٍ سمجٍ لا نُحسد عليه. بل يبدو هناك زجٌّ متزايد الآن للعامّيّة إلى أمام الأمام، وفي كل المنابر، كي تحتلّها عنوة.
أيقع هذا بحُسن نيّة، ولعدم وعيٍ بعواقب ما يحدث على المستوى اللغوي والقيمي والاجتماعي، أم هو بإصرار وتخطيط؟!
لماذا؟ ولمصلحة مَن؟ دعونا نُحسن الظنّ، فنقول إنه بخليطٍ من تلك العوامل مجتمعة؛ إذ لا يُعقل أن يصل بنا الحَوَل الفكري إلى هذا الحدّ، ولا من المنطقي أن لا يرى المرء عبثيّة ما يحدث، ولا معقوليّة ما يجري اليوم.
أم تُرانا نحن المخطئين الضالّين، وأن الأمر في نتائجه أهون ممّا نرى؟ أتمنّى، والله، ذلك، لكن النتائج ظاهرة للعيان، وكلما ارتفعت وتيرة المسلسل العامّي على كل المستويات، انحدر مستوى اللغة العربيّة والتعليم العامّ، على كل المستويات. وهذه نتيجة طبيعيّة، ومعادلة منطقيّة، إلاّ إنْ نحن سلّمنا بـ"هيروغليفيّة" منطقيّة، مردّدين مع أبي العلاء المعري:
هذا كلامٌ له خبيءٌ
معناهُ ليستْ لنا عقولُ!
وهنا سأُثمّن قرار وزارة التربية والتعليم- المنشور في الصحف منذ فترة- المشدّد على منع دعوة المسؤولين من خارج وزارة التربية والتعليم لحضور حفلات المدارس، مع وضع ضوابط لإقامة الحفلات المدرسيّة التي تقام عادة في نهاية العام الدراسي؛ ومن تلك الضوابط: منع التعرّض لأيّ قبيلة أو لهجة أو جنسيّة بالسخرية، والاهتمام بسلامة اللغة العربيّة في جميع ما يقدّم والبُعد عن العاميّة. وأن مدير المدرسة يتحمّل المسؤوليّة في حالة مخالفة الضوابط المنظّمة لإقامة الحفلات في المدارس؛ من حيث هو المسؤول عن لجنة تنظيم فقرات الحفل بمدرسته وإعدادها. وضرورة أن يكون وكيل المدرسة، والمرشد الطلابي، ورائد النشاط، ومعلّم التربية الإسلاميّة، ومعلم اللغة العربيّة ضمن الأعضاء المشاركين في إعداد فقرات حفلات المدارس، ورفعها في محضرٍ خاص إلى مركز الإشراف التربوي الذي المدرسة تابعة له.
هذا القرار هو عين الحقّ وصَوْب الصواب، وقد جاء في وقته، بعد أن طفح الكيل، وبدأت تطفو على السطح ظواهر غريبة لم يكن لها من قبل وجود. لكننا نتطلّع إلى أن لا يكون ذلك مجرّد تعميمٍ عامّ، لإبراء الذمّة، بل أن يُجعل هذا الأمر محلّ التنفيذ والمتابعة للالتزام به. كما نتمنّى أن تحذو وزارة الثقافة والإعلام حذو وزارة التربية والتعليم في هذا الاتجاه، وأن يكون التكامل والتعاضد بينهما هو المنهج، لا الازدواج؛ ذلك أن الإعلام وسيلة تربيةٍ اجتماعيّة شاملة أكثر خطورة. والإعلام يقف، أصلاً، وراء بروز تلك الظواهر الأخيرة المشار إليها؛بإحياء ما مات منها، وإيقاظ ما كان غافيًا، وتسليط الأضواء على ما اندثر، ونشره وبثّه وتحبيب الناس فيه وتطبيعهم عليه. فهل سيطبّق قرار وزارة التربية والتعليم؟ أم سيكون كغيره، حبرًا على ورق؟! سنرى.
* (عضو مجلس الشورى)
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــ
• من العرفان أن أنوّه هنا بالقرّاء الكُثر الذين يصلني تفاعلهم المهم والإضافي حول هذه السلسلة من المقالات، ومنهم: الروائية دينا سليم؛ الدكتور سمير نوح؛ الكاتبة فريال الحوار؛ الشاعر محمّد جبر الحربي؛ الكاتبة نورة آل عمران؛ الدكتور باديس فوغالي؛ الشاعر عناد المطيري؛ الكاتبة نورا علي؛ الكاتب سعيد بو كرامي؛ الشاعرة فوزية العلوي؛ الكاتب هاني نقشبندي؛ اللواء محمّد حسن العمري؛ الدكتور طلال قطبي؛ الدكتور محمد أمين أابوالرُّب؛ الدكتور حسن الطيان.. وغيرهم، الذين كانت كلماتهم وما زالت عينيّ اللتين أبصر بهما مدارات أخرى متعدّدة للموضوع.
شَذْرَة:
- أخشى أن تتحول بعضُ الأشياء / فيصير الشاعرُ شارعًا / وتدوس الأقدامُ مخيّـلته!
(من مجموعة الشاعرة العراقية فليحة حسن، "ولو بعد حين"، الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، 2007).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة "الجزيرة"، المجلة الثقافية، الاثنين 8 محرّم 1430هـ، العدد 265، ص10.
http://www.al-jazirah.com/culture/2009/05012009/fadaat23.htm
|