د. عبدالله الفَيفي:
ينبغي أن لا يظلّ مهرجان الجنادريّة يدور في حلقة ما يُسمى (التراث الشعبي)، أو (الثقافة الشفويّة)!
مجلة "اليمامة"، العدد 2046 ، السبت 3 ربيع الأوّل1430هـ= 28 فبراير 2009م
ضمن قضيّة الأسبوع تحت عنوان "تجديد الجنادريّة"، إعداد: سعد الحميداني، ص12-15
مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث منبر تزداد أهميته ولا تنقص؛ خاصة في وقت نحتاج فيه لتكريس ثقافة الحوار والتواصل الحضاري؛ وإبراز مكونات ثقافتنا وتراثنا في العالم•
والواقع أن الجنادرية بدأت قوية في بعدها الفكري والثقافي غير أن هذا البعد تراجع مع مرور السنوات••
مجلة اليمامة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- كيف يمكننا تجديد الجنادرية ومنحها زخماً جديداً؟
* ينبغي أن لا يظلّ مهرجان الجنادريّة يدور في حلقة ما يُسمى (التراث الشعبي)، أو (الثقافة الشفويّة)، مختزِلاً مفهومي "التراث" و"الثقافة" في ذلك. لقد أضحى المهرجانُ سوقًا ثقافيّة عربيّة عالميّة، وآن له أن يطمح، بعد الانتشار والصيت، إلى عهدٍ من النضج والعمق. هذا ما قلتُه منذ سنوات، وما زالت تتأكّد ضرورتُه في كلّ موسم. ولقد آن كذلك أن يتحدّد مفهومنا للتراث: فهل "التراث" شاعر عامّي، وربابة، وبضعة جِمال، وطائفةٌ من ممارسي الحِرَف؟ أم أنه يضرب بجذوره في تراث الجزيرة العربيّة، ولغتها، إلى الأعمق، والأشمل، الذي لا يمثّل تراثَ الجزيرة وحدها، بل تراث الأمّة العربيّة والإسلاميّة جمعاء، بما أن تراث المملكة هو نبع التراث العربي والإسلامي؟ ومن هنا يُمكن وَصْلُ الهويّة الوطنيّة بجذورها، ودارجتها بلغتها الأُمّ، بشمولِ نظرةٍ إلى الموروث، لا تَقْصُرُهُ على حِقَبٍ، تُعَدّ- في حساب الحضارة- حِقَبَ ظلامٍ؛ فهي من أدنى عصور التاريخ ضَعْفًا، وانحدارًا، وتخلّفًا. فهل هذا (فقط) ما يعنينا "التمهرج" حوله؟! إذن، لو تجسّدت تلك الرؤية الأبعد لوظيفة مهرجان الجنادريّة، لأصبحنا أمام (مهرجان حضاريّ)، لا مجرّد (مهرجان شعبويّ)، استنفد ما يستحقّ. لقد آنت ساعةُ المراجعة والتجديد؛ بحيث يسعَى المهرجان إلى مدّ الوحدة الوطنيّة- بعد امتدادها في المكان، على يدَي الملك عبدالعزيز، غفر الله له- في الزمان، على أيدي أبنائه وأحفاده.
- وما القضايا والتحديات التي يفترض أن تسهم الجنادرية في تسليط الضوء عليها واقتراح المعالجات لها؟
* لعلّه يتبدّى من تكاثر الظباء على (خراش المهرجان)، في السنوات الأخيرة، أن خراشًا لم يَعُدْ يدري ما يصيد! فمَن يُراجع تاريخ المهرجان سيلحظ- مثلاً- أنه بدأ بتوحيد المكان الذي تقام عليه نشاطاته؛ ليجسّد بهذا وحدويّة المهرجان، بفعاليّاته الوطنيّة، والتراثيّة، والثقافيّة. حتى نَجَمَ اتجاهٌ إلى فصل "التراث" عن "الثقافة"، وعندها تَمَّ عَزْلٌ جغرافيٌّ بين مكوّنات الشِّعار العامّ للمهرجان؛ إذ أضحى التراث- بمفهومه الشعبويّ- يُقام في الجنادريّة، وأمست الثقافة- بمفهومها الرسميّ- تُقام داخل مدينة الرياض. ومن ثَمّ غاب التفاعل الجماهيريّ، وتشرذمت الجهود، وتشتّتت عناصر النسيج الجميل، بين: الموروث الشعبيّ، والموروث العامّ، وبين التراث والثقافة، وبين العاميّ والفصيح. كما أن الندوات الثقافيّة المصاحبة كانت تتركّز في البدايات حول موضوعات، من قبيل: "الموروث الشعبيّ في التراث العربي"؛ "علاقة الموروث بمخيّلة المبدع"؛ "علاقة التراث بالإبداع الفنيّ والفكريّ"؛ "الموروث في الفنون الاحتفاليّة"؛ "أَثَرُ الموروث في السُّلوك وأنماط التفكير"، ونحو هذه من القضايا الحيويّة والجوهريّة في اهتمامات المهرجان. إلاّ أنها من بعد تعدّدت الموضوعات، وتشعّبت الاهتمامات، لتُخرج المهرجان، أحيانًا، عن إطاره، إلى قضايا مكانها الطبيعي ندوات جامعيّة خاصّة، أو مؤتمرات دوليّة مستقلّة؛ إذ لا يُعقل أن يغدو المهرجان الوطني للتراث والثقافة ميدانًا لكلّ ما يخطر على البال طوال العام من القضايا الواسعة للأُمّة العربيّة والإسلاميّة والعالم، بل كان المفترض بقاء التركيز على قضايا التراث والثقافة، وتفاعلهما الحيويّ مع الإنسان، ضِمن سياج الهويّة الوطنيّة الواحدة، من غير إقليميّة ضيّقة ولا ذوبان في العالم والمطلق. وهناك قائمة من المحاور التي كان يُعَوَّل على المهرجان في المضيّ في طرحها، كقضايا اللغة: بين الفصحى والعامّيّة واللغات الوافدة والأجنبيّة، وقضايا التعليم، والتربية، والشباب، والإعلام، والمرأة، والتنمية، والفنون، والآداب، من شِعر، ومسرح، وسينما، ودراما، وموسيقى، وفنون تشكيليّة، وفنون إسلاميّة، وعمارة، وتاريخ، وآثار، وأزياء، وحِرَف، وصناعات، ونحوها من الشؤون المغروسة في ثرَى التراث والثقافة الأصيلة والمعاصرة. لذا، أرى أن المهرجان كان قد بدأ بداية صحيحة، إلاّ أنها تخطّفته الأمكنة والموضوعات المتفرّقة.
- وهل يمكن تطوير الجنادرية من خلال مشاركة أكثر فعالية للمؤسسات الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني الجديدة، والهيئات الثقافية والأندية الأدبية وغيرها من المؤسسات؟
* هذا أمرٌ بدهيّ؛ فهو مهرجان: وطنيّ، وللتراث، والثقافة. ولكن شريطة أن تكون لتلك الجهات المشارِكة علاقةٌ بالتراث والثقافة، وفق مفهومهما العلميّ المنضبط، لا مفهومهما العامّ، الذي يمكن أن يَستدرج فيه كلّ شيء. وذلك لكيلا يقع المهرجان في الشتات الذي يبدو أنه انزلق إليه، في السنوات الأخيرة. على أن هناك جهة أرى أنها مقصّرة جدًّا في حضورها الجدّيّ، مع أنها أولَى الجهات مسؤوليّة عن الوجود الفاعل والمتمّم لأعمال المهرجان، وأعني جهاز الثقافة والإعلام، بعموم مؤسّساته. فبالرغم من ذلك المدّ الأفقيّ والرأسيّ في اهتمامات المهرجان، فإننا لا نرى الإعلامَ يواكبه بتغطيةٍ كافية، أو شِبْه كافية! لستُ أتحدث هنا عن سباق الهِجْن، أو حفل الافتتاح، وما يصاحبهما من بثٍّ مباشر عبر الأقمار الصناعيّة، وإنما أعني التغطية الشاملة لأيّام المهرجان وفعاليّاته، وبشكلٍ احترافيّ، وحيّ، وشامل. وهو واجب ثقافيّ إعلاميّ، لا بُدّ أن يطمح إلى أكثر من رسالةٍ يوميّة مقتضبة، تقدّم في هزيعٍ متأخّرٍ من الليل. ويمكن أن تُخصّص لذلك إحدى القنوات التلفازيّة القائمة، حتى يأذن الله بقناة ثقافيّة خاصّة تتولّى مثل ذلك. ها هو الميدان أمام الثقافة والإعلام السعودي، لترسيخ الإنتاج المحليّ، والثقافة الوطنيّة! فلماذا لا تُتّخذ من هذا المهرجان، وكذا من مهرجان عكاظ، وغيرهما، ثروة في المادّة الثقافيّة والإعلاميّة المتنوّعة، تُجعل لها أوقات حيّة للعرض على مدار العام. كما أنه كان من المأمّل- ونحن في عصر المعلومة الموثّقة، والصورة المصاحبة، والمتابعة الحيّة، والميسّرة للجميع- توثيق هذه المواسم الثقافيّة الرائعة في مطبوعات، مردودها الثقافيّ والإعلامي لا يُقدّر بثمن، بل إن مردودها الماديّ كذلك- إن أُحسن القيام عليها- يستحقّ ما يبذل من أجله. هذه الآمال والتطلّعات لا تُقلّل، بحالٍ، من الجهود المنظورة وغير المنظورة، لكنها شواهد على أهميّة المهرجان، وما يُمليه من مسؤوليّاتٍ، طمّاحةٍ إلى درجاتٍ مُثلى من العطاء والتكامل.
الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي
(عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)
السبت 3 ربيع الأوّل1430هـ= 28 فبراير 2009م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة:
السؤال الأخير وإجابته لم يُنشرا في "اليمامة".