إنكار ضرورة التعامل مع (الدِّين والجنس) في الرواية يعني إنكار مكوّنات ضرورية في حياة الإنسان والمجتمع، والقفز على هذا ضرب من تجاهل الواقع. غير أن إنكار الحَذَر في التعامل مع هذين المكوّنين يعني في المقابل تدمير الذات والآخر، بلا رويّة ولا حكمة. ولا شكّ أن مشكلتنا في هذا الميدان تظلّ تلك الثنائيّات، التي يرفع كلٌّ شعارَ لافتاته من خلالها، ليقف تحتها. فلكي لا نقول بإرضاء المجتمع التقليدي، فلنقل بإرضاء الذات، أو شريحة ما من المجتمع، أو تيار، أو إرضاء السوق الشرائي، العاطفي والغريزي. وبين هذين الجانبَين تترنّح الثقافة دون منهجٍ قويم، ولا نوايا جادّة نحو الإصلاح، ولكن بعواطف ثأريّة، متعصّبة، متناقضة.
وفي الشأن الروائيّ تقفز اليوم أسئلة تفرضها الموجة الأيديولوجيّة، اللا أخلاقيّة، التي تتبنّى خطًّا تصادميًّا، مراهقًا، مع المجتمع في أعمالها، فتخرج علينا بمثابة "بيانات صحفيّة متشنّجة" ضدّ المجتمع ومؤسّساته، فلا هي تُضيف إلى الفنّ الروائي، ولا هي تُعالج قضايا الإنسان والحياة، ولا تؤدّي إلى أيّ هدفٍ نوعيّ، أدبيٍّ أو اجتماعيٍّ، وإنما هي بمثابة تنفيسٍ عن مكبوتات- قد تكون شخصيّة- من جهة، ومتاجرة إعلاميّة وماليّة، باسم النهضة الروائيّة، من كلّ الجهات. ولعلّ أهمّ تلك الأسئلة:
- هل النموذج الروائي نموذجٌ شرّيرٌ منحطٌّ، بالضرورة؟
ذلك أنه حينما يواجَه كاتب بأن نماذجه- التي يسمّيها إنسانيّة- تنصبّ على نماذج قبيحة، وربما مشوّهة عمدًا، وأنها تُشيع القبح في النفوس، والفاحشة بين الناس، وتُحبّب إليهم الجريمة والرذيلة، بدل أن تنفّرهم منها، وتطبّع الناشئة على تقبّل تلك النماذج البشريّة، وتهوين آثامها عليهم، والتسليم بسلوكيّاتها، وربما دفعتهم إلى محاكاتها، يقول لك كاتبنا: هذا هو الواقع المسكوت عنه، ولستُ مصلِحًا اجتماعيًّا! وهو هنا يراوغك ليدافع عن بضاعته، من جانب، ولكي يكذب على المتلقّي من جانب آخر؛ بإيهامه بأنه إنما يعرّي تلك النماذج وينتقدها، ولا يبشّر بها، ويسوّغها في الذوق العامّ! ولكن يبقى السؤال: لماذا التركيز على تلك الشخصيّات المريضة وحدها؟ لماذا الانتقائيّة، ما دام الكاتب يصوّر الحياة والواقع بشموليّته كما يزعم؟ إن الاختيار وافد العقل والذوق! ألا يوجد الغِنَى النفسي والاجتماعي إلاّ في تلك النفوس المريضة؟ كلاّ! وليس هناك روائيّ حقيقيّ كبير إلاّ ويصوّر مختلف الشخصيّات، وبحياد، ولأهداف ضمنيّة. لكن تلك إجابة كاتب صغير، مربوط في مِذْوَد أيديولوجي ما، أو في هوى تجاريّ ما (أيضًا)، بلا موهبة تؤهّله لذلك المخاض الإنساني، ولا فكر يُقيله عن تلك الإجابات المعوقة.
- وهل وظيفة الفنّ التهذيب والإصلاح؟
حتمًا وظيفة الفنّ التهذيب والإصلاح. أم تُرى وظيفته التقبيح والإفساد؟ ولكن لا ننسى هنا أن الكُتّاب بشر؛ فمنهم أنفسهم مرضى نفسيّون، ومنحرفون أخلاقيًّا، ومجرمون أدبيًّا! فلماذا نفترض أن كُتّاب الرواية متجرّدون ممّا يكتبون من أمراض؟ لا ينفصل النصّ عن شخصيّة الناصّ، الذهنيّة والنفسيّة، بشكل مطلق. نعم، قد لا يعبّر عنها مباشرة، لكن الكاتب مخبوء في ما كتبتْ يداه، شاء أم أبى، برغباته، والتذاذاته، وعُقَده النفسيّة والاجتماعيّة. ومن ثَمّ تأتي مسؤوليّة الكاتب، التي لا تنصّل له منها، والتنصّل إثم إضافيّ. لأجل هذا فإن أيّ فنّ لا يسعى إلى التهذيب والإصلاح- بطريقته الفنيّة لا بطريقةٍ وعظيّة مباشرة- هو عدوان أخلاقيّ على المجتمع، ويجب أن يحاسَب مقترفه ويعاقب قانونيًّا، كأيّ مرتكب جنحة تقع تحت طائلة القانون. من حيث إن فكرة الأدبيّة المغلوطة لا تحمي هؤلاء المغلوطين بحال من الأحوال، تحت ذريعة الحريّة أو التعبير، فالحريّة معروفة، والتعبير مفهوم، والأدب معلوم، وليست تلك العبارات بشمّاعات مقبولة لتُلقَى عليها تفاهات النفوس، وأمراض العقول، وعَتَه الأقلام الرخيصة، وفحيح الغرائز المسعورة.
- ما رسالة الفنّ، إذن؟ وهل تتناقض جماليّةُ الفنّ مع الأخلاق؟
تلك هي رسالة الفنّ: تربية الذوق، وتبصير الإنسان، لا إفساد ذوقه وإغواؤه. وفي هذا السياق يحضرني قول (محمّد قطب)، العقلانيّ الجميل، في كتابه "منهج التربية الإسلاميّة": "إن الإسلام لا يُحرّم الفنّ، ولا يُحرّم وصف المشاعر الجنسيّة- نظيفة أو غير نظيفة- ولا يُحرّم وصف لحظة الهبوط والضعف، ولكنه يعرضها كما ينبغي أن تُعرض، (لحظة ضعفٍ لا لحظة بطولة)، ولحظة عابرةً يُفيق منها الإنسان إلى ترفّعه الواجب، ولا يلبثُ دائرًا في حلقتها المرتكسة على الدوام."
على أن النقد الأدبيّ الحقيقي قد تخلّى بدوره اليوم عن كثير من رسالته، الفنيّة والأخلاقيّة، فترجّل عن أن يكون معياريًّا، ثم ها هو ذا يتنازل أيضًا عن أن يكون نقديًّا أصلاً، بل أضحى ثُلَلِيًّا، متعصّبًا، أو مجامِلاً، يقول- كالشاعر القديم- متى شرب، أو رغب، أو طرب (فكريًّا/ اجتماعيًّا/ أيديولوجيًّا، لا فنيًّا بالضرورة)!
د. عبدالله بن أحمد الفَيفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من تحقيق أجرته أ. نوّارة لحرش، ونُشر في "كرّاس الثقافة"، بعنوان "الجنس بين الضرورة والإثارة في الرواية العربيّة"، صحيفة "النصر"- الجزائريّة، الثلاثاء 4 ربيع الآخر 1430هـ= 31 مارس 2009م، العدد: 12821، ص13.
|