|
مدخل نظري في (تداخل الأنواع الأدبيّة):
-1 -
ما زال البحث في الأجناسيّة الأدبيّة مجالاً غير مطروق بكِفاية في المشهد النقديّ العربيّ. وإلى ذلك فإن الذاكرة الشِّعريّة العربيّة ما تزال متغلغلة بكثافة في نسيج الخطاب العربيّ، أدبيّ وغير أدبيّ. وهو ما يفسح الحقل الأدبيّ واسعًا للتداخل النوعيّ بين الشِّعريّ والنثريّ، عن وعي نوعيّ تارة وعن غير وعي غالبًا، كما أنه- من جهة أخرى- كثيرًا ما تختلط أوراق الأجناس الأدبيّة في المشهد النقديّ، على نحو يستدعي إعادة التدقيق في جاهزيّة التصنيفات النوعيّة المتوارثة.
وإذا كان التداخل بين الشِّعريّ والسرديّ معدودًا في الكتابات المعاصرة من جملة التقنيات الخطابيّة الحداثيّة، أو ما بعد الحداثيّة، فإن للأسباب المشار إليها في السياق العربيّ لدورًا مضاعفًا في بروز هذه الظاهرة. بيد أن الأمر يزداد حِدّة إشكاليّة حين يكتب النص السرديّ شاعرٌ ذو تجربة مهمّة، فيتمخّض عمله عن شكلٍ كتابيّ ملتبس الهويّة، يقع في منطقة برزخيّة بين نوعين أدبيّين، جديرةٍ بأن تُعطَى تسميتها المائزة، المتفّقة مع طبيعتها الخاصّة.
ذلك ما تخوض فيه هذه القراءة، التي أصلها ورقة بحث قدّمت إلى مؤتمرٍ دعيتُ إليه في جامعة اليرموك، بالأردن، 22 – 24 / 7 / 2008. وهو المؤتمر الثاني عشر للنقد الأدبي في الجامعة، تحت شعار "تداخل الأنواع الأدبيّة". وتتّخذ القراءة نموذجها من العمل السرديّ السعودي بعنوان "الغيمة الرصاصية: أطراف من سيرة سهل الجبليّ"، للشاعر علي الدُّميني، نشره سنة 1998. وتأتي ضمن مشروع استقرائيّ أوسع في هذا القطاع من الطفرة السرديّة التي عرفتْها الكتابة في السعوديّة خلال العِقدين الأخيرين، وهو ما أسماه الدارس في مقاربات سابقة بظاهرة "القصيدة-الرواية"، بُغيةَ المزيد من تمحيص المصطلح وسبر اعتمالات الخصائص الفنّيّة. وكنتُ قد ألقيتُ ورقة بحثٍ سابقة في هذا السياق بعنوان "القصـيدة- الرواية: تداخل الأجناس في بلاغيات النصّ المعاصر ("الحزام" لأبي دهمان: نموذجًا)"، في المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي، تحت شعار "البلاغة والدراسات البلاغية"، الذي أقامته الجمعية المصرية للنقد الأدبي، بالتعاون مع جامعة عين شمس، في القاهرة 1-5 نوفمبر 2006.
-2 –
ويُعدّ البحث في شأن الجنس الأدبي جديدًا على النقد العربي؛ الذي ظلّ منشغلاً إلى وقت قريب بقسمة حدّية للأدب إلى: شِعر ونثر، دون النظر في التماهي بين الدائرتين، أو بين عناصر كل دائرة. هذا إضافة إلى ذلك التعليل العام الدارج من "أن التعرّف على الأجناس الأدبية وتحديدها أكثر صعوبة من الفنون الأخرى أو من الأجناس الخطابيّة غير الأدبيّة."(1) ولا يمكن القطع بتصنيفٍ واحد ثابت وتعريفٍ محدّد لا يتغير للجنس الأدبيّ؛ فالجنس الأدبيّ كائن حيّ، لا ينمو فحسب، ولكنه أيضًا يتغيّر من طورٍ إلى طور، ذلك أن الأجناس الأدبية- حسب كليتون كولب(2)- "مؤسّسات، يجب التخلّي عن فكرة تعريفها، إلاّ بصورة جزئيّة، وضمن سياقات خاصة". وتبعًا لذلك، فإن أسماء الأجناس الأدبية نفسها يجب أن لا تكون نهائيّة ولا ثابتة. فليس مصطلح "رواية"، الذي عبّر عن نوعٍ سرديّ من النصوص في حِقبة تاريخيّة ما، صالحًا لاستيعاب دلالة التطوّرات في ذلك النوع، والتحوّلات التي مرّ بها- فضلاً عن تلاقحه وتوالجه مع غيره من الأنواع- في حِقب أخرى، ممّا أدّى إلى انزياح معاييره السالفة أو انتقالها عمّا كانت عليه. ولقد كان هناك التفات منذ وقت مبكر- لدى ديوميد (نهاية القرن الرابع) مثلاً- إلى ما يسمى: "الجنس المختلط"(3).
وفي حقل التعالق بين الشعريّ والسرديّ نجد أن جان إيف تادييه Jean Tadi’e قد أشار إلى ما أسماه بـ"الرواية الشعريّة"، معرباً عن أنه يمثل كسرًا في قواعد الخطاب الروائيّ، وذلك حينما "تتحوّل الرواية إلى شكل شعريّ بكلّ ما يميّزه هذا الشكل من (تناسق) و(خفوت)"(4). لكن ما تحدث عنه تادييه إنما يمثّل صراعًا "بين الوظيفة المرجعيّة ذات الدور الإيحائيّ والتمثيليّ، والوظيفة الشِّعرية التي تشدّ الانتباه إلى الشكل ذاته للخطاب"(5). بحيث يغلب أحد الطرفين- الروائيّ أو الشعريّ- الآخر، ومن ثم تفتح (الرواية الشِّعريّة) "في غنائها العميق الأساطير لمتعة الحواس، وتفتح الإحساس لفرحة الأساطير"(6). أي أن ما سمّاه تادييه "رواية شعرية" تظلّ رواية كاملة الهويّة، ولكنها توظّف الشِّعريّة لأغراضٍ روائيّة. فهي "رواية كلّيّة، لا تتابع التفاصيل، وإنما وظيفتها رصد الحالة"(7). ولعلّ خير نماذجها في السياق العربي "رامة والتنين" للخراط.
ويأتي هذا الشكل الكتابي نتاجًا حداثيًّا، تنطمس فيه الفروق بين الأجناس الأدبية، حيث بات الشِّعر يتقمّص النثر، منذ تي. إس. إليوت T.S. Eliot، أو إي كامنجز Ee Cummings، كما يتقمّص النثر الشِّعر، مثلما هي الحال عند وولف Woolf، أو جويس Joyce، أو نيكوس كازانتزاكي Nikos Kazantzaky.(8) والروايات اليوم- كما يشير الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث)(9)- تنزع عمومًا إلى التحوّل أكثر فأكثر إلى تشكيلات لفظيّة، غير كثيرة الاختلاف عن بنى الشِّعر، كما تستعيد القصيدة لدى بعض الشعراء النَّفَس الملحميّ، فتقترب من الرواية.
بيد أن قصارَى ما يعنيه هذا هو اختلاط الشِّعر بالنثر في ضرب من تقنيات الخطاب الروائيّ الحديث. وذاك غاية ما يدلّ عليه مصطلح "الرواية الشِّعريّة" لدى (تادييه). أي أن مصطلح "الرواية الشِّعريّة" ما هو إلا محاولة لفرز هذه الرواية المتمتعة بمسحة شِعريّة عن الرواية النثريّة الاعتياديّة، فهو نظير تسميات أخرى، كـ"الرواية البوليسيّة" أو "الرواية الغرائبيّة" أو "رواية المغامرات"، ونحوها. أمّا ما هي بصدده هذه المقاربة من نموذج، فإنه يتجاوز فضفاضية هذا الاصطلاح وأريحية ذاك المفهوم، الدائر في فَلَك الرواية، بوصفها جنسًا أدبيًّا. من حيث هو نموذج من نمط كتابي تكاد تمّحي هويته الروائية في شعريّته المطلقة، وهو ما يسوّغ اتخاذه مصطلحاً جنسيًّا أشدّ تحديدًا وأضيق تبئيرًا، يتلاءم وطبيعتها، ألا وهو: "القصيدة-الرواية".
ويقف المتتبع على ثلاثة أعمال ممّا نسمّيه (القصيدة-الرواية) في المملكة العربيّة السعوديّة، هي: (سقف الكفاية، لمحمّد حسن علوان: 2002، والحزام، لأحمد أبي دهمان: 2001 (الترجمة العربيّة)، والغيمة الرصاصية، لعلي الدميني: 1998)، تمثّل أبرز النماذج من هذا النوع الذي ينتقل فيه النصّ من محض التوالج الشعريّ بالسرديّ إلى مستوى ما أطلق الدارس عليه: "القصيدة-الرواية". وقد أُنتجت جميع تلك الأعمال- كما هو واضح- خلال نهايات العِقد الأخير من القرن الماضي وبدايات العِقد الأوّل من هذا القرن. وقد تكون لهذا التوقيت في ذاته دلالته، التي ربما تمثّلتْ في محاولة الذاكرة الشِّعريّة العربيّة الانتصاف من جنس أدبي- هو الرواية- كان قد شَرَع يزاحم فنّ الشِّعر في عُقر داره، ويسحب البساط من تحت قدميه في قلب وجوده العربيّ، جزيرة العرب، فيَسْتَرِق منه أضواءه التاريخيّة. فجاءت تلك الكتابات حركة لا واعية يمارسها هؤلاء الشعراء، ردةَ فعلٍ شِعريّة تضاف إلى ردّات الفعل الأخرى العربيّة المتوالية، ولاسيما عقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، فضلاً عن دوافع التيار العالمي الجارف صوب النثر وفنون السرد.
وفي المقال التالي قراءة في نصّ "الغيمة الرصاصيّة"، بوصفه (قصيدة-رواية).
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) شيفير، جان ماري، (د.ت.)، ما الجنس الأدبي؟، ترجمة: غسّان السيّد (دمشق: اتّحاد الكتّاب العرب)، 13.
(2) (1975)، "مشكلة التراجيديا كجنس"، جنس، المجلد الثامن،221. عن: شيفير، 21.
(3) يُنظر: جينيت، جيرار، (1977)، مقدمة للنصوص العظيمة، (الذي أعيد طرحه (1986) في العمل الجماعي: "نظرية الأجناس"، طبعة سوي، سلسلة "بوان")، 109. عن: شيفير، 25.
(4) Tadie, Jean Yves, (1978), Le r'ecit po’etique, (Paris: P.U.F), 11. (يُنظر: بوعلي، عبد الرحمن، (1996)، المغامرة الروائيّة، (وجدة- المغرب: جامعة محمد الأول)، 248).
(5) م.ن.
(6) م.ن، 249.
(7) م.ن.
(8) يُنظر: كلاجز، ماري، ما بعد الحداثة، ترجمة: عثمان الجبالي المثلوثي، ص1، (مجلة "فضاءات"، ع16، على شبكة الإنترنت: http://www.fadaat.com/a16/d4.htm).
(9) تُنظر: جريدة "عكاظ"، السعودية، الاثنين 28 جمادى الأولى 1424هـ= 28 يوليو 2003م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة"- السعوديّة، الأربعاء 5 ربيع الآخر 1430هـ= 1 إبريل 2009 م.
http://al-madina.com/node/122266/arbeaa
|