الغيمة الكتابيّة-3 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة
نصّ "الغيمة الرصاصيّة": نموذجًا
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الثالثة ]

‏أشرنا في الحلقة السابقة إلى أن نصّي الدُّميني الشعريّين- "يمامة على جداريّة الأزمة"، و"غيمة لي وقميصٌ لفتنتها"- مؤرّخان بتأريخ أزمة احتلال العراق الكويتَ، فالنصّ الأول بتأريخ 27/ 10/ 1990، (الظهران)، والنصّ الآخر مؤرّخ: بين يناير ويوليو من عام 1991. فيما جاء نشر "الغيمة الرصاصيّة" متأخّرًا، بطبيعة الحال، إلى 1998. لكنه نصٌّ يلوب على تلك الرموز، والهموم، وإنْ بطريقة أكثر إيغالاً في غموضها، وإبعادها عن الاحتمالات المباشرة للقراءة. وهذا ما شكّل انغلاقيّة النصّ عن قُرّائه، بخلاف ما كان ينبغي لنصٍّ نثريّ، ناهيك عن نصٍّ روائيّ، كما وصّفه الكاتب. ذلك أن النصّ بدا من الإمعان في البناء التجريبيّ، من جهةٍ، وفي اللغة الشعريّة المراوغة، من جهةٍ أخرى، بمنأًى عن تواصل القارئ، حتى إنه ليجعل خاتمة النصّ- تحت عنوان "في الختام"- في مستهلّه، ويجعل مستهلّه- تحت عنوان "في البدء"- في ختامه. في قلبٍ مكانيّ، لا يخلو من تكلّفٍ، يمكن أن يُذكّر القارئ بتجارب أخرى، سابقة على "الغيمة الرصاصيّة"، كنصّ "4 صفر"، للكاتبة رجاء عالِم. وفهم ختام "الغيمة الرصاصيّة"- الذي أُدرج في المستهلّ- لا يتأتّى إلاّ بقراءة النصّ أوّلاً؛ لأنه هو سياق ذلك الختام/ البدء. أضف إلى ذلك أن العمل بمُجمله يتألّف من نصّين: نصّ يُشْبه أن يكون سيرةً ذاتيّة واقعيّة- ويظهر في المطبوع بحبر غامق- ونصّ خياليّ غرائبيّ موازٍ- يظهر بحبرٍ باهت، وظيفته أن يقول المسكوت عنه، بأسلوب رمزيّ، ممّا تعذّر الإفضاء به مباشرة في النصّ الأوّل. إذ يمكن القول: إن النصّ الأخير يَجْبُر عُنصر الغياب في النصّ الأوّل. وهو ما أشار إليه المؤلّف "في الختام"، بقوله: "للأصل موقعه وللشرح والتوهّم هامشه."(1)
وتمضي أقسام "الغيمة الرصاصيّة" وَفق التقسيم التالي:

- في الختام: ص6- 8.
- وهج الذاكرة، 1- سهل الجبَلي: ص9- 34.
- وهج الذاكرة، 2- سهل الجبَلي: ص35- 74.
- وهج الذاكرة، 3- الراوي: ص75- 80.
- وهج الذاكرة، 4- تدوينات الزوجة: ص81- 98.
- وهج الذاكرة، 5- سهل الجبَلي: ص99- 118.
- وهج الذاكرة، 6- الأصدقاء (1): ص119- 132.
- عتمة المصابيح، 1- سهل الجبَلي: ص133- 148.
- عتمة المصابيح، 2- الأصدقاء (2): ص149- 160.
- عتمة المصابيح، 3- الراوي: ص161- 164.
- عتمة المصابيح، 4- من أوراق عَزّة: ص165- 182.
- عتمة المصابيح، 5- سهل الجبَلي: ص183- 190.
- عتمة المصابيح، 6: ص191- 218.
- الأبواب، 1- سهل الجبَلي: ص219- 238.
- الأبواب، 2- الراوي: ص239- 242.
- الأبواب، 3- سهل الجبَلي: ص243 (صفحة عنوان فقط، بلا محتوى).
- في البدء: ص244- 247.

فما منطقيّة هذا التركيب؟
ذلك ما لعلّها تتكشّف عنه القراءة لاحقًا. إلاّ أن هذه اللعبة التجريبيّة ليست بغريبة على ممارسة المؤلّف الشعريّة، التي اختطّ فيها نهجًا تشكيليًّا عُرف به منذ مجموعته الشعريّة الأولى "رياح المواقع"، (1987)، حيث ينتظم بناء تلك المجموعة اثنا عشر نشيداً، سمّاها بـ"أناشيد على باب السيّدة العظيمة"، وكأنها ألواح ملحمة كَلْكَامش الاثني عشر. وتمثّل تلك الأناشيد ما يشبّه رجع الصدَى للقصائد التي تتخلّلها، في جهاز حواريّ، خرج به الديوان كقصيدة واحدة. وكذا يتشظّى الزمن في "الغيمة الرصاصيّة" بين نَصَّين متحاورَين في نصّ واحد- كما تقدّم: نصّ يشبه أن يكون سيرة ذاتيّة، ونصّ خياليّ غرائبيّ مواز. ومن "رياح المواقع"، مروراً بـ"بياض الأزمنة"، يُلحظ هذا النزوع الفنيّ بشكل أَجْلَى في مجموعة: "بأجنحتها تدقّ أجراس النافذة"، (1999)؛ حيث يغذّي الشاعر تجربته الشعريّة بتجربته السَّرْديّة. وأوّل ما يتبدّى الشبه بين التجربة الشعريّة هذه والتجربة السَّرْديّة، من تبويب القصائد في أبهاء وممرّات:
- بهو الأصدقاء
- بهو الجداريات
- بهو النحت
- ممرّات
- بهو الغروب(2)


1. وهج الذاكرة، 1- سهل الجبَلي:

يأتي القسم الأول من "الغيمة الرصاصيّة" تحت عنوان "وهج الذاكرة، 1- سهل الجبَلي"، حاكيًا على لسان سهل كيف أن شخوص روايةٍ كَتَبَها قد غادروا النصّ ليتحوّلوا من الواقع المتخيّل إلى الواقع الحيّ. فـ(عَزَّة) تتسلّل من قصّتها التي كَتَبَها سهلٌ لتنام إلى جانبه، بينه وبين زوجته، مثيرةً ارتباكه، فما يجد إلاّ أن ينتهرها لتعود إلى النصّ. في رمزيّة ستتكشّف عن أن عَزَّة ليست امرأة في النصّ، بل هي رمز لما يمكن أن يرى القارئ فيه جزئيًّا (العراق)- مثلاً- بحسب أجواء القِصّة المحيلة على أزمة الخليج الثانية، وإنْ كانت الرمزيّة باسم عَزَّة تحمل ظلالاً أخرى متعلّقة بالعِزّة والكرامة، التي سُلبتْ فانهار كلّ شيء.
كما يخرج من النصّ (مسعود الهمداني) ليُطالب سهلاً بقَرضٍ من أجل دفع دياتٍ عليه، وحينما يتردّد سهل- الذي يعمل في أحد البنوك- في إقراض مسعود-- الذي يتبدّى من وصفه كأنه يُعادل رمزيًّا (صدّام حسين)-- يقوم باختطافه إلى وادي الينابيع. ذلك أن مسعودًا قد ذَكَر، مخاطبًا سهلاً، أنه هو من حدّد دوره في النصّ فجعله قاتل أهل عَزَّة، وعليه فهو يطلب القرض ليُقدّم ديةً لقتلاه. وحين يتشكّك سهلٌ في قدرة مسعود على سداد القرض، يقتاده إلى خارج المكتب بحُجّة أنه يريد أن يُوقفه بنفسه على مصادر دخله، ليأخذه بالقوّة من هناك إلى مشارف المدينة. ومن ثمّ يمضيان في رحلة غرائبيّة متخيّلة، مليئة بالتهويمات الرمزيّة، التي قد تشير في مجملها إلى ذلك المعترك الذي جرت فيه أحداث حرب الخليج الثانية، رامزًا بالأسماء إلى الأماكن والماضي والحاضر.
لقد أخذ مسعود الهمداني سهلاً من (الدمّام) إلى غرب الدمّام.(3) ويسوق الكاتب ذلك كلّه في لغة شِعريّة، من مثل قوله:

"تلفّتُ خلفي لأحتفظ للمكان بصورته الأخيرة، وكأبواب للفراق كنتُ أُغلق قِمَم عمارات الدّمّام على وجع الأحباب، وأضع بحنان سعف نخيل القطيف الغارق في الماء على منازله، وقلعة دارين على محار الخليج وأمضي خلف مسعود الهمداني، حاملاً جمرةً من حرقة المكان وشتات الأزمنة... مرّت ساعات منحوتة من الصمت اليابس... ها أنذا لا مخفورًا بالوعول أمضي، ولكن بالحبال والجِمال خلف مسعود الهمداني في بيداء لم يترك بها ساكن رسمًا... ونحن نُخبّ لنقطع أطول مسافة قُبيل الغروب وبعده بقليل، حتى استحالت البيداء إلى منابع شموس مشتعلة من آبار النفط، ضاع فيها وجه الرواحل ودليل القيادة. لُذنا بيباس النخل وأطراف سعفه المتهدّل بالنشيج..."(4)

وعلى هذا النحو من اللغة التي تبدو مزيجًا من الشِّعر والنثر ينساق الأسلوب في نصّ يمكن وصفه بأنه نسيج فكريّ شِعريّ.
و يتقمّص سهلٌ في هذه الحكاية شخصيّة المؤرّخ أو التراثيّ، معبّرًا عن ذلك بما كان يجمعه من كِسَر جِرارٍ في الطريق، ما جعل مسعودًا يقول لمرافقه عن سهلٍ: "هذا الرجل كَتَب نصّ عزّة، وأدخل وادينا في مشاكل كثيرة، وهو يدّعي العِلم والمعرفة، فاتركه يتلهّى بأحجاره، وراقبه عن كَثَب."(5)
حتى يصلان إلى محطة (أُمّ سالم)، التي ربما بدا أنها ترمز في النصّ إلى (مكّة)، فهي تمثّل في النصّ معادل السلام والأمن ونبذ الحروب. هناك يلتقي سهل بشخصيّة (نورة)، وهي، كما يبدو، ترمز إلى عبق الماضي والحضارة في بلاد ما وراء النهرين. فيقع في غرامها، ويحلم بها معتنقًا جراب أحجاره، التي تمثّل التاريخ، حيث يقول:

"اتكأتُ على أطراف الصباح الأُولى، وشظايا الشمس، ترفع جمرها في أقاصيه، لتُطلّ على هذا الهدوء الضارب في براري الرمال المنفسحة. كان المراح صامتًا، وأُمّ سالم تفتح عيون الأشياء على منابت هسهسة فم النهار، وإذ جلتْ عيناي غشاوة الليل، تذكّرتُ شوارد صحو منام البارحة، حيث وجدتني معتنقًا جراب أحجاري، الذي تضوع منه عبق روائح أنثى حارّة كذِكرَى."(6)

فنورة إذن تحمل رمزيّة الضوء الحضاريّ وأساطير الماضي معًا.
وفي الحلقة التالية نستطلع من تكون تلك الأنثى/ الذِّكرى، التي يصوّرها النصّ في شخصيّة (نورة).

aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ

(1) الغيمة الرصاصيّة، 7.
(2) انظر: الفَيْفي، عبدالله بن أحمد، (2005)، حداثة النص الشِعري في المملكة العربيّة السعوديّة: (قراءة نقديّة في تحوّلات المشهد الإبداعيّ)، (الرياض: النادي الأدبي)، 97- 000.
(3) الغيمة الرصاصيّة، 14- 15.
(4) م.ن.، 16- 17.
(5) م.ن.، 18.
(6) م.ن.، 21.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة"- السعوديّة، الأربعاء 19 ربيع الآخر 1430هـ= 15 إبريل 2009 م، ص 8.
http://al-madina.com/node/127561




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©